badai@casema.nl
اذكر
اني حين كنت طالبا في جامعة غربية، فوجئت ذات مرة بأحد
زملائي الأوربيين في السنة الثالثة يعتزم ترك الدراسة،
وامام دهشتي الشرقية، وقف هو، هادئا، مدافعا عن قناعته
قائلا: قد اصبح مهندسا.. لكني ارى نفسي ليست بالمستوى
الذي اريدها عليه، اضعت وقتا في العام الفائت وعلي
الان ان اقرر!
قارنت ، فيما بعد، حين توغلت في اعماق العقل الغربي،
بين هذا الزميل والحالة التقليدية للطالب غير الكفء في
بلداننا وهو يتمسك بانه يستحق النجاح وان السبب وراء
فشله يكمن في الاستاذ، او غرابة اسئلة الأمتحان، او
الصدفة او الحظ السئ وسوء الطالع ويلتمس النجاح بكل
السبل المشروع منها وغير المشروع حتى وان كان رأسه
فارغا!
هذه واحدة من التجليات الصغيرة لنظرية المؤامرة،
مهربنا السهل من تقريع الضمير، ومواجهة تبعات الافعال
التي نقدم عليها ، و التي تتلخص في تجاهل القصور
الذاتي و البحث عن اسباب الاخفاق خارج الذات وتحميل
"الظروف" و"المحيط" و"الاخرين" مسؤلية الفشل الذاتي.
من الثابت ان البلاد العرباسلامية، ليست وحدها التي
وهبت النفط ، فمثلما ينام النفط في اعماق تربتنا(
الاصح اننا نحن من ينام عليه)، نرى بلدانا اخرى تمتلئ
ارضها بالماس او الذهب لكن العربي قد تربى منذ
الصغرعلى ان هناك من يتربص بامته، ويتحين الفرص
للاطاحة بها، ويختفي تحت جنح الظلام قاصدا سرقة خيراته
وقد استغلت النخب الحاكمة ذلك فاستثمرته في اوقات
ازماتها، فيجمد العمل بالدستور، وتحل البرلمانات، وتسن
القوانين المقيدة للحريات ، وتبنى الحواجز داخل العقل
العرباسلامي لردع تدفق الافكارفي فضاءاته، كل ذلك لان
"الامة تحيط بها الاخطار"ولان تلك الامة تواجه "معركة
المصير المشترك" وعليه ينبغي اتخاذ اجراءات" الحيطة
والحذر" و" رص الصفوف" ويتوجب على الدوام نسيان كل شئ
في الدنيا الا شيئا واحدا: الدم الذي يجب ان يراق على
جوانب الشرف العرباسلامي الرفيع الذي لن يسلم من الاذى
ويظل مهددا من قبل الاعداء.
وحين يعجز العقل العرباسلامي عن ادراك ترابط السبب
والنتيجة، يكون قد أوصد الباب نهائيا امام التفكير
المنطقي واسلم نفسه للخرافة، ووقف عاجزا مستسلما
بانتظار المعجزة التي لن تاتي حتى اذا ما انجلت الامور
عن غير ماكان يتوقع، راح يبحث في الزوايا المعتمة عما
يساعده في فهم ما حصل فلايجد امامه سوى ان " هناك امور
غامضة حصلت" وان " قوى الشر والعدوان" قد " نفذت
مخططاتها الدنيئة للنيل من وجود الامة وكرامتها...
وان" هناك مؤامرة قد حيكت بدقة" وبهذا يصر هذا العقل
على فك الارتباط بين الظاهرة وجذورها في الواقع .
كشفت معارك صدام العقل العرباسلامي امام العالم،
متناقضا، بعيدا عن المنطق، ولبعده عن الواقع وعيشه
غارقا باوهامه عن تميزه عن بقية الامم ، كانت هزائم
هذا العقل مدوية وغالبا ما انتهت بالذهول والبكاء اثر
الصدمة، كما في 1967 وفي 2003 حيث عجزت امة بكاملها عن
كشف مستوى الكذب والضحالة في صراخ احمد سعيد ومحمد
سعيد الصحاف. فصدام حسين لم يخسر حربه ضد الكويت او
معركة الحسم بسبب نقص الكفاءة العسكرية والتعبوية وخلل
البناء السياسي والعسكري وانعدام المسوغ المنطقي
لحروبة ، بل لان هناك من" تآمر" في اللحظة الاخيرة
وحرمه من استخدام ماكان يملك من اسلحة فتاكة. بعد يوم
من انهيار نظام صدام التقت احدى الفضائيات العربية
بمجموعة من "المثقفين" الاردنيين والفلسطينيين
لاستبيان تحليلاتهم، اتفق معظمهم على ان ماحدث عجيب،
وغامض، ولايخلو من سر ف"نفس الذين كانوا يدافعون عن
بغداد رايناهم قد اسقطوا تمثال صدام..لابد ان في الامر
سر ما"!!!
وهكذا ففي حين تنتهي حروب الامم المهزومة الى وقفات
جدية امام تاريخها وحاضرها واسباب هزيمتها، تنجب حروب
العقل العرباسلامي دعوات التوغل اكثر في عوالم الخرافة
والبحث في ايام التاريخ المغبرة عن ما يجنب هذا العقل
مجابهة الاختيار الذي يهابه: ان يسكب ماءا باردا على
نفسة ويكف عن التثاؤب ...ويفكر
ان نظرية المؤامرة هي قمة الانهزامية التي بلغها العقل
العرباسلامي، وهي أكثر المفاهيم تجسيدا لجدب هذا
العقل، وافتقارة للمنطق السليم، وهي المؤشر لهشاشة هذا
العقل وضحالته ، كسله، وانصرافه عن البحث العلمي في
الاسباب التي اتت بالنتائج الى عوالم الخيال والاوهام
والاحلام والخرافات والادعية والتعاويذ وقراءة الكف في
زمن يفكر فية الانسان الغربي بالبحث عن بديل في الفضاء
الخارجي لارضنا الملوثة ، وربما سيحدث ذلك واجزم حينها
ان النكتة ستتحقق وسيسود العقل العرباسلامي في الارض
ويسيطر عليها لان ساعتها لن يكون قد تبق على الارض من
منافس اخر!