سعدي الحلي لا يغني ..!

 

عبدالكريم هداد

hadadkarim@hotmail.com

       يعرف سعدي الحلي, مطرباً شعبياً , له صيته الواسع في الاوساط العراقية لإمتلاكه رخامة الصوت وقوته الصداحة والمستقرة في مساحته المتميزة في أداء ينفرد به ( لأطوار الأبوذية المسحوبة على النكهة الملائية , ودخل اذاعة بغداد عام1964..) إلا أن أغنيته لم تمارس خطى حداثة الاغنية العراقية المتطورة بمعية الأصالة منذ أواسط عقد ستينات القرن الماضي, وإن استثنينا أغنياته الممتلكة للمواصفات الفنية الغنائية من ناحية الكلمة واللحن والاداء كأغاني  ( عشگ أخضر , ليلة ويوم , يامدلولة , ماني نادم ...) وهي تمتاز بالمراوحة وفطرية الجملة الموسيقية الريفية المتوارثة . إلا أن صوت سعدي الحلي الغنائي ما زال  يجمع بين روح مدينة الفرات العراقية ونكهة جمالية التلون الغنائي للريف العراقي الزاخر بتنوع أشكاله الموسيقية المتعددة , خصوصاً طرائق غناء المواويل والابوذيات والأشعار التراثية العراقية اللصيقة ويوميات هموم الفرد العراقي , وإن بدت خالية العمق  الفني , لدرجة السذاجة أحياناً , حيث يبقى الواضح الملموس في كلمات أغاني سعدي الحلي وطابعها العام , هي صيغة التذكير لضمير المخاطب , خاصة في أغانيه الغزلية , والتي أعتقد إنها صيغة موروثة منذ عصور الجاهلية العربية , في عدم التشبيب, فما زالت - صيغة التذكير - تمارس في كتابة الأغاني العراقية الى الآن , ولم يتمرد عليها كأسلوب إلا القليل من الشعراء وبالأخص الشاعر المبدع ( أبو سرحان ) .

     لكن الملفت للنظر , إن شعبية سعدي الحلي , باتت تجري بعيداً عن الغناء , لتصبح صورته  الرائجة في دفاتر يوميات كل عراقي , وقد ترسخت بملامح مشتركة لدى الجميع , مع إضافة ملامح لتركيبتها ,كي تكون صورة لشخصية مشبعة بخواص كاريكاتيرية لينة , يمكن تطويعها بأبعاد سياسية و ترفيهية معاً , ليروى عن لسانها وبشكل يومي العديد من المشاهد والتعليقات على أحداث وتطورات جارية في الساحة العراقية , وكذلك عربياً ودولياً .

       وما هذا الانتحال لصورة شخصية سعدي الحلي , إلا دليل ذكاء الذاكرة العراقية في خلقها وصياغتها على نحو ساخر , نظراً  لتكامل جاهزيتها الشعبية عند ذاكرة الناس اليومية , لتأخذ دور ( جحا أو البهلول ) في إنسيابية تحركها وسهولة تخطيها لحواجز الأماكن والقصور واجتماعات رجال الحكم في بغداد , مع التفاوت الواضح في دهاء صنّاع ما راج  من مشاهد كوميدية بسخرية لاذعة , وهي تحاول إعادة تشكيل الحزن الى ضحكة مدوية تعبيراً عن الرفض الجماهيري لطغيان السلطة .

         إن ارتفاع وتيرة النكتة والمزحة والتعليق الفكاهي لدى قطاعات الشعب العراقي , هو نتيجة طبيعية لأجل الموازنة مع واقع مؤلم , ترتفع فيه أساليب إرهاب السلطة الدموي ضد حقوق وحريات نادت بها الأديان والشرائع السماوية والمحافل الدولية .

       ومما أنتجته الذاكرة العراقية من حكايات وقفشات , حول شخصية سعدي الحلي الكاريكاتورية , يبقى تعبير فطري لأجل إسترداد ما سلبت , لتجنح المخيلة حتى الى الجنس كأداة سهلة وسريعة التنبيه والوقع والطعن والإضرار بذات الحاكم . ولن يخفى إن بعض ما يتداوله الناس , هو من تأليف قسم الدعاية والإشاعات في جهاز الدولة العراقية , أما لأجل التنفيس عن حالة الغليان أو لقياس مسارات حركة التداعي عند العراقيين . وخلال أيام الحــرب الـعـراقيـة – ا لايـرانـية ، أشيع حينها , بأن سعدي الحلي قد غنى :

دَنِـک يـا حِلو َلا يْـلوحَـكْ القَـنّـاصْ

إمَـكْ جـابِـتَـك وِإبْـتِـلَتْ بـيك الناس

شِـلَّـكْ بِـالقـادِسـيَة ودوخَـتْ الـراس

       وما زالت ذاكرتي تحمل صورة دمار حرب الخليج الأولى , وكذلك صورة سعدي الحلي , حين تسابق أغلب المطربين لتصوير أغانيهم التعبوية الجانحة في غسل الذاكرة العراقية من وطنيتها الحقيقية وتدمير صور ماضيها ,لتكون محشوة برؤية أحادية لأفكار وأهداف نظام  لا وطني , مع تأليه حاكم جائر . أولئك المطربون , من تزاحموا على إرتداء أزياء  الحرس الجمهوري والطيارين وقادة الصنوف العسكرية الأخرى , ليظهر سعدي الحلي وحده  ، وهو يرتدي بدلة لــ( رئيس عرفاء ) في أغنية لا تختلف عما ما ذكرناه  . هل الذي حصل مصادفة  وقدره الذي لا حيلة له فيه  وصورة السخرية , أم إن المخرج التلفزيوني لم يجد ما ( فَرهَدَه ) المطبلون من بدلات تأنقت لطبول الحرب وزهو بياناتها العسكرية الخاسرة , تلك الأغاني السلطوية بديماغوجيتها وحبرها الإنتهازي , والتي يسميها البعض ( أغاني وطنية ) .

 

 

 











 
 

 

 

 

 

      

 

 

 

Google


    في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
  info@bentalrafedain.com