مازن المنصور وطيور الفلامنكو الأسبانية

 

كامل السعدون

 

كان مهرجان الفلامنكو العالمي الذي أقيم في العاصمة النرويجية أوسلو في الربع الأول من عام 2005، من أبرز الأنشطة الحضارية الثقافية العالمية اللتي عاشتها هذه المدينة الإسكندنافية الجميلة، بل وهذا البلد الشمالي الثلجي الطقس، والدافيء للغاية في قلوب أهله المنفتحة بكل إتساع على كل هموم البشرية كما وتجاربها الحضارية الإنسانية المختلفة.

أقيم المهرجان على مسرح (المركز النرويجي لموسيقى الفلامنكو) وبدعم من الحكومة النرويجية المعطاءة ووزارة ثقافتها العتيدة، وقد شاركت في المهرجان فرقٌ فلامكنو عالمية عديدة، وقُدمت في المهرجان عروضٌ خلابة لأنواع متعددة من الموسيقى والرقص الإسبانيين، وكان تفاعل الجمهور مبهرا للغاية، إندمج الناس بالرقص والغناء والمرح وأهتزت أركان القاعة وضجت بحركة الجمهور وإنفعالاته وأنفاسه وصرخاته.

أما الأجمل في العرض والأكثر دفئا وحلاوة وإنسيابية ونبوغ، فقد كان فناننا الشاب الملهم الفنان العراقي مازن المنصور، الذي شدت أوتاره أعذب الألحان وأجملها، حتى لتكاد تحس لفرط حلاوة عزفه ورقته، وكأن الفتى يعزف على أوتار القلب لا الجيتار.

كانت أنامله تنساب على الأوتار إنسياب الموج إذ تحركه نسائم ريح الصبا في ليالي الربيع المقمرة.

عزف الفنان القدير مازن المنصور بإسلوب حديث توافقت فيه حركة الأنامل على الجيتار مع دقات القلب ونبضات الروح وحركة أقدام وأيادي راقصات الفلامنكو الضاجة بالحيوية والحب.

عزف الفتى كما لم يعزف من قبل بمثل هذه الحيوية والقدرة والموهية.

وأظن أن وجود الجمال الإسباني الأندلسي، قد الهم بن زيدون الجديد، ما ألهمته ولادة بنت المستكفي لبن زيدوننا القديم، إذ خلقت منه ذلك الشاعر الجميل النبرة اللطيف القول، كلطف نسائم قرطبة الخالدة.

وإذا كان بن زيدون قد عزف أعذب الألحان بنسج الكلم الجميل العذب الخفيف الظل، فإن الفتى مازن المنصور قد عزف الحانه بوجيب القلب العاشق للفن والحياة.

على وقع ألحانهِ، تهادت راقصات الفلامنكو الإسباني، في حركة متموجة أنيقة تعبر بالصمت عن ما يعجز اللسان عن الإفصاح عنه.

كنت ترى الأيادي وهي تلوح في الأفق راسمة بالإيماء حركة طيور عاشقة غريبة مهاجرة تحلم بالإياب إلى وطن الحبيب وبيت الحبيب.

وكان الفتى الموسيقي الملهم ذاته، وبحركات أوتارة المتقنة، يعطي تلك الطيور الجميلة إشارة البدء بالطيران، وذاته من يهبط بها إلى الأرض أو يدفعها قدما في سماء الله الرحيبة، بمعنى آخر يمكن تشبيه أنامل مازن المنصور على جيتاره، بريشة الفنان على قماشته، إذ عبر الريشة والقلب الذي يحمل الفكرة، تتدفق الخطوط وتتعانق وتتشكل لتوصل لنا اللوحة الفنية الجميلة المعبرة.

أنامل مازن على الجيتار، وعواطف قلبه والفكرة الدافقة المتوثبة في الرأس، كانت ترتسم على أجساد الراقصات، حركاتٌ محسوبة بدقة، للأذرع والسيقان والأقدام والأنامل والرؤوس والأعناق والقامات الرشيقة العذبة.

وحدةٌ واحدةٌ، وحبل سريٌ غير مرئي يمتد بين أنامل مازن على جيتاره وأجساد الراقصات، فيتم التوافق وتكتمل اللوحة المبهرة الجميلة التي أثارت عواطفنا وأسكرت رؤوسنا وملأت قلوبنا بالدفء وجدد فينا بحيرات الحب التي تجمدت لفرط عيشنا في الغربة الثلجية الإسكندنافية هذه.

تتميز رقصة الفلامنكو بتعبيرها المتميز عن القوة والكبرياء، وكلا القيمتين، من أبرز القيم الإنسانية وأكثرها حيوية ونبلا، خصوصا إذا ما أعتمدت القوة للخير وإذا ما أعتمدت الكبرياء للتنزه عن الصغائر والسمو بالروح إلى فضاءات الجمال الحق والعدل الحق والنقاء الأصيل.

لو سألتني عن مدى التوافق، بين آلتي الجيتار التي كان فناننا مازن يحتضنها إلى قلبه بحب، فتستقر كقط أليف أنيق على صدره، وبين آلة الكاخون الأسبانية التي كان فنانٌ آخر ملهم، يعزف عليها،  فإني أقول لك ورغم أن قولي لا يعتد به فنيا لأني لست بالناقد الفني المتخصص، إنما أتحدث بلسان عاشق الفن والمهووس بالموسيقى، أقول لك وجدت التوافق بين الآلتين مكتملا رغم التميز الكبير بين نمط النغمات أو الطبقات الموسيقية الذي تنتجه كل آله...!

حقيقة كان الإنسجام مبهرا بين الإثنين، حتى حسبت أن الرجلين كانا قد تمرنا زمنا مع بعض حتى توافقت نفسيتيهما وروحيهما، لكن وهذا ما أثار دهشتي لاحقا، هو أنهما لم يكونا على إتصال سالف ببعض، إنما القلوب العاشقة للفن ما أسرع ما تتآلف مع بعض، وهذا ما حصل بين الفنانين...!

لا والمدهش أكثر أن كثيرا من القطع الموسيقية التي عزفت، عزفت بشكل إرتجالي ومع ذلك فإنك لا تستطيع أن تميز أدنى نشاز في العمل الفني الذي أبدعت أنامل هذين الفنانين الرائعين وبالذات فناننا الجميل مازن المنصور...!

بالمناسبة، الفنان مازن المنصور، شاب من مواليد مدينة الفن العراقي الأصيل، أعني....مدينة الناصرية ذات الجذر السومري الخالد العظيم.

الناصرية.... التي عزفت في معابدها،  ربات الجمال السومريات، قبل آلاف السنين أرق الألحان وأعذبها، فبعثن الدفء في قلوب الآلهة وأسعدن الكهان بقيثارة عشتار الخالدة، وبشدو السومريات، جداتنا الخالدات...!

الناصرية أو لنقل أريدو والوركاء وسومر وأكد وأور، التي تغنت منذ القرن الرابع لما قبل الميلاد، تغنت بمجد الرب وخلود الروح وعظمة الإنسان وكبرياءه وقوته...!

مازن المنصور، الناصري السومري، بدأ حياته الفنية عام  1974، حيث نشط في الفرقة الموسيقية التابعة للنشاط المدرسي في محافظة  الناصرية (ذي قار).

لاحقا، أنتقل إلى العاصمة العراقية بغداد، لإكمال الدراسة الفنية، ونجح بتفوق ثم عمل في التدريس، لضعف الحركة الفنية في البلد آنذاك، بسبب إنشغال النظام في الحروب والقتل والتخريب، وبالتالي لم يكن هناك مجال للحب أو الموسيقى.

حين ضيق النظام الخناق عليه، كما فعل مع كل المبدعين، وحين ضاق العيش أمامه، خرج الفتى من وطنه وحضن الأم وبيت الحبيبة، ليلجأ كما كل أقرانه من المبدعين، إلى الغربة.

 حمل حب العراق في قلبه، كما حب أمه وأبيه وقيثارته العشتارية، ورحل مغتربا من الوطن والبيت.

عمل مضطرا في مجال التدريس في المعاهد الموسيقية في الآردن، لتدبير أمور المعيشة وإعالة الأهل في غربة الداخل حيث الوطن جائعا، عاريا، مثقلا بالأحزان. ثم بذل الجهد وضيق الخناق على نفسه ليوفر ما يمكن أن يشتري به بطاقة ذهاب إلى إسبانيا الحبيبة، وطن الفلامنكو.

وحالما وصلها، شرع بالبحث عن من يدله على الطريق لكشف أسرار هذا الفن الجميل، وجاءته الفرصة ونال مقعد درس في أحد المعاهد الموسيقية المتخصصة بالفلامنكو، وأكمل الدراسة بتفوق.

ثم أنتقل إلى النرويج، ليقيم ويستقر ويبدع ويكمل ما لم يتسنى له إكماله من دروس الفن.

شارك الفتى المبدع في العديد من المهرجانات  الموسيقية العالمية، الأوربية كما العربية، وكان خير سفير وممثل للموسيقى العراقية والروح العراقية وكم الحب الذي يحمله العراقي في قلبه للإنسانية والسلام والعدل.

من خلال معايشتي القريبة من قيثارة فناننا الجميل مازن المنصور، أستطيع أن أعلق قليلا على رؤيته للموسيقى:

ما أعرفه عن فناننا أن له رؤية فنية موسيقية متميزة برقي ذائقتها الفنية وحجم الحساسية الشعورية التي يحملها الفنان المنصور ليس للعمل الموسيقي حسب بل ولفلسفة الموسيقى ولغة الموسيقى.

المنصور لا يعزف بمهنية عالية حسب، بل بروحية العاشق، وهذا ما يعطي لإبداعه خصوصية كبيرة وصدقية كبيرة.

مضافا إلى أن تخصص المنصور بالفلامنكو، تخصصٌ قام على الدراسة الدؤوبة المستقلة وبإمكاناته الذاتية الخاصة، مضافا إلى هذا فما يميز فن المنصور هو الجمع بين الإصالة والمعاصرة، بين التراث الإبداعي والإبداع العصري الجديد الذي يغتني كل يوم بالإضافات الإبداعية الآتية من كل مكان من العالم.

فناننا المنصور مثقف موسيقيا ومتابع جاد لكل حركات الفن تطوراته المعاصرة وهذا ما يغني عمله وينمي مهاراته بالجديد الجميل دائما، وهو يهتم بشك خاص بمسألة النقارب الثقافي بين الشعوب ويسعى بجدية لأضفاء اللمسات الإنسانية على الحوار الموسيقي المنتج من جيتاره، مضافا إلى الرومانسية العذبة التي تنبث من أطراف أنامله والتي تعكس روحا فنية إنسانية عاشقة للبشرية عامة ومؤمنة بدور الموسيقى في نشر الحب بين البشر...!

ختاما لا أعرف كيف يمكن أن أعبر عن سعادتي البالغة بتلك الأمسية الرائعة التي لا تنسى، ولا أدري كيف يمكن أن يوفى الفنان الملهم مازن المنصور حقه من الشكر على كم الجمال وفيوض البهجة الروحية الشفيفة التي فاضت بها أنامله الرقيقة.

أتمنى للعزيز الأستاذ الفنان مازن المنصور المزيد المزيد من التألق والتفوق والأرتقاء أكثر فأكثر بفنه ودراساته وإهتماماته الإنسانية الجميلة التي أظن أن الإنسانية تحتاج للكثير منها، ليعم السلام والخير والعدل بين البشر.

أيها العزيز مازن...لك الشكر الموصول على ما منحتنا إياه من سعادة في ليلتك تلك، ودمت عراقيا جميلاً...!




 

 

 

      

 

 

 

Google


    في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
  info@bentalrafedain.com