بعض الوفاء ، في ذكراه الأولى

 سلاما .. أبا ياسين

 

نزار حيدر

nazarhaidar@hotmail.com

 8 مايس 2005

 

   قد يكون الرجال كثيرون ، إلا أن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ... قليلون ، ومنهم الشهيد الحاج أبا ياسين .

   وإذا كان العاملون في سبيل الله تعالى وأوطانهم والمستضعفين من الناس ، كثيرون ، فان العالمين منهم ، قليلون ، ومنهم أبا ياسين .

   وإذا كان العاملون العالمون كثيرون ، فالمخلصون منهم قليلون ، ومنهم ، أبا ياسين . 

   وأولئك على خطر عظيم ، لأنهم وضعوا أرواحهم على أكفهم ، وحملوا أعواد مشانقهم على ظهورهم ، يجوبون بها الأسواق ، بحثا عمن يصلبهم فيها ، للقاء الله

تعالى ، شهداء على الناس .

   لقد تعرفت على الشهيد ، الحاج عز الدين سليم (أبا ياسين) وعاشرته ، قرابة ربع قرن من الزمن ، فعرفته عن قرب ، سمعت منه وتحدثت إليه ، تحاورنا وتعاونا ، فلمست فيه خصالا ، قلما تجدها عند من يتعاطى السياسة ، التي عادة ما ، تلوث النفس ، وتؤثر على السلوكيات ، وتغير من الأخلاق ، قليلا أو كثيرا ، لا فرق ، إلا من عصم ربي ، وقليل

ما هم ، ومنهم شهيدنا الغالي .

   أجزم ، أن كل من عرفه ، لمس فيه هذه الخصال الحميدة ، التي إن تدل على شئ ، فإنما تدل على حسن منبته ، وطهارة مولده ، ورفعة تربيته ، وعظمة نفسيته التي لا تتأثر بمغريات الدنيا ، مهما كبرت في عيون الناس ، لأن من كبر الخالق في نفسه ،    صغر ما دون ذلك في عينه (كما يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام) ، الذي والاه الشهيد ، أشد موالاة ، لدرجة الذوبان فيه.

   لقد كان أبا ياسين ، واضحا وصريحا ، لا يلف ولا يدور عندما يتحدث إلى مستمعيه ، فإذا قدر عاهد ، وإذا عاهد وفى ، وإذا ووجه بخطأ ، اعترف واعتذر ، وإذا مدح على صحيح ، لم يفتخر .

   كان لا يتستر على الواقع ، مهما كان مرا ، فكان يتحدث عنه ، وان كان معيبا ، ليس من أجل التندر عليه ، أو الشماتة فيه ، بل من أجل تصحيحه ، وإيجاد الحلول له .

   كان يعتقد بأن الحقيقة ، هي ملك الناس لا يجوز التستر عليها ، وان المعلومة مشاعة ، لا يحق لأحد احتكارها ، لأن أمة بلا حقيقة ، وبلا معلومة دقيقة وصحيحة ، لهي أمة جاهلة ، لا تقوى على النهوض .

   لم يكن أبا ياسين ، يحب أن يغالط نفسه أو يغالطه الآخرون ، فكان صريحا في الحديث عندما يتناول أمرا ما ، مهما كان خطيرا ، فكان يضيق بالخطأ ، أنى كان مصدره ، ولو على نفسه .

   كان يضيق ذرعا بالتناقض الذي يلاحظه في أفعال (القادة والمتصدين) وأقوالهم ، لا سيما المترفين منهم ، فلم يكن ليبالي في أن يفضح المتناقض ، مهما علا شأنه ، لأنه كان يحب الشفافية بين القائد والمقود ، بين الرئيس والمرؤوس ، فكان يصدح بوجه النفاق مهما يكن ، ولصدقه في ذلك ، تعود على صراحته الناس ، فكانوا يقصدونه كلما التبست عليهم حقيقة أمر ما .

   لم يكن حزبيا ضيق الأفق ، بل كان منفتحا على كل الساحة ، ولذلك تميز بعلاقات وطيدة مع الجميع ، حتى أولئك الذين شنت عليهم الغارات والحروب .

   ولم يكن سياسيا خالي الوفاض من الفكر ، بل كان مثقفا من الطراز الرفيع ، يقرأ كثيرا ويبحث أكثر ، فأنتج كتبا وبحوثا ، استفاد منها الناس .

   كذلك ، لم اسمعه يوما يمتدح نفسه ، أو يزكيها ، (بل الله يزكي الأنفس) كما كان يردد هذه الآية دائما .

   كان يؤمن بنظرية (أن الساحة لمن يعمل) ولذلك ، كان يعتقد بأن على العاملين والمتصدين في الساحة ، أن لا يحتكروا العمل وإمكانياته ، بل يلزمهم أن يفسحوا المجال للآخرين ، لينموا ويكبروا ، لأن نموهم في ساحة العمل ، يزيدها قوة وصلابة وانتشارا واتساعا ، وبذلك تكتسب الساحة يوميا ، جيلا جديدا من العاملين ، ودماءا جديدة تروي شجرتها ، فلا تظمأ الأرض ، ولا يجف الحبر ، أو ينتهي المداد .

   رأيته ، كلما كبر في الساحة ، ازداد تواضعا للناس ، فلقد تحول منزله إلى مأوى للمجاهدين والمهاجرين في سبيل الله تعالى ، على الرغم من قلة ما في اليد ، فلقد كان الشهيد ضعيفا مستضعفا ، لا يوفر من قوت يومه إلى الغد ، ومع ذلك ، فلقد كان كريما سخيا ، ينفق ما في حوزته على المحتاجين من ضيوفه ، فكان بيته مأوى لأمثالهم من العراقيين الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فكان الشهيد ملجأهم ومأواهم .

كان ضاحكا بشوشا ، فلم أره يوما عبوسا قمطريرا ، لأنه كان يعيش الأمل في كل الأوقات ، وفي أحلك الظروف .   

   كان قوي الحجة ، متين المنطق ، يؤمن بحرية الإنسان ، إيمانه بربه ، كما كان يؤمن بالتعددية والتنوع ، فلم يسع إلى إلغاء الآخر ، مهما اختلف معه ، بل كان يسعى إلى أن يحاور الآخر ، ويجادله بالتي هي الأحسن ، ليجد فيما بينه وبين هذا الآخر ، أرضا مشتركة يتعاون معه عليها ، فإذا لم يلتق معه على قاسم فكري مشترك ، اجتمع معه على قاسم الوطن المشترك ، أما إذا التقى معه على قواسم أخرى ، اندمج معه بلا حدود أو حجب ، فليس بين الشهيد وبينه ــ آنئذ ــ أسرار .

   كان شديد التمسك بالحكمة المأثورة التي تقول ؛ (اليوم يوم ، له ما بعده) ، ولذلك لم تغيره الظروف ، إذا ما خدمته يوما ما في موقع رفيع أو منصب مهم ، لأنه كان يعتقد بان الفلك دوار ، مهما طال الزمن ، والمرجع إلى الله تعالى ، فلماذا التكبر إذن والترفع والاستعلاء ؟ .

   كان يتقاسم إمكانيات العمل وأدواته ، مع الآخرين ، وكان يسعى لان يلتقي مع أكبر عدد ممكن من العاملين ، على أساس الوفاء للوطن ، وللإنسان العراقي الذي كان يعتقد بأنه يستحق كل شئ ، لأنه المضحي الأول ، ولذلك يجب أن يكون المستفيد الأول .

   كان شجاعا مقداما ، لم يتردد في اقتحام غمار المجهول ، إذا رأى مصلحة في ذلك للقضية المقدسة التي نذر حياته لها ، كما كان يسعى دائما إلى أن يكون قريبا من الناس ، حتى في أخطر الظروف الأمنية ، ولذلك ، رفض أن يسير معه رجال يحمونه في ذهابه وإيابه ، حتى عندما كان رئيسا لمجلس الحكم الانتقالي ، وهو في تلك الظروف الأمنية الخطيرة ، التي كان يتربص له بها الإرهابيون ، لأنه كان يرفض أن يصنع السدود والحدود بينه وبين الناس ، ولذلك لم يستشهد معه عندما استهدفه الإرهابيون ، إلا رفيق دربه الطويل ، الحاج أبو محمد العامري ، الذي لازم الشهيد طوال  سني المسيرة الجهادية التي جمعتهما ، متأثرا بشخصيته أشد التأثر ، حتى  شاء الله تعالى أن يعيشا معا ويجاهدا معا ويستشهدا معا ، ويدخلا الجنة ، بإذن الله تعالى ، معا .

   فسلام عليهما ، يوم ولدا ، ويوم جاهدا في الله حق جهاده ، ويوم استشهدا على ارض العراق الطاهرة ، ويوم يبعثا حيين في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

 

 

 

 

 

 

                                                                                  

 

 

 

Google


    في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
  info@bentalrafedain.com