صناعة الكلام

 

علي بداي

badai@casema.nl

 

المتفحص للتراث العربي ياخذه العجب من الكم الهائل للشعر الذي يضمه هذا التراث بين ثناياه فالامراء، والوزراء، والوراقون، والفقهاء ،وقادة العساكر، والجواري، والبدو في الصحارى كلهم يقولون الشعر ولاعجب في ذلك فالعرب كما هو معلوم  "اهل فخر، وتفاخر، وذم ، ومديح، ومنافرات، واصحاب لسان ذرب،ولم يكن عندهم شئ افضل من الشعر"*

لكني ارى ان الامة العربية "لاتعيش الشعر" و"لم تعشه" بل" تعتاش منه"، فكل هذة الحكمة التي تمتلئ بها بطون الكتب لم تترك اثرا في الحياة اليومية وكانها حكمة اعدت للبيع، واجدني متفقا مع راي امين الريحاني الذي قال :"ماعرفت امة تحسن رواية الاشعار ولاتكترث مثل الامة العربية فهي تروي الحكمة نثراونظما وتمضي في سبيلها".**

  وعلى امتداد التاريخ كان الكلام وسيلة انساننا ومؤنته وثروته الكبرى في هذه الدنيا  فالجاحظ اعد الكلام من ميزات العرب حيث "ان الكلام الجيد عندهم اظهر واكمل وهم عليه اقدر وزاد عليه ابن خلدون ببحث الارتباط بين العقل واللسان لدى العرب فقال "هم يتميزون بفصاحة اللسان وطلاقة الكلام دون تكلف ولااعمال فكر"، وكانوا يحتقرون الاشتغال بالحرف  كالزراعة والصناعة والتجارة وكانوا يستهينون بقريش لانكبابها على التجارة وانصرافها عن الحروب دون سائر العرب***

وكانت القبائل في حروبها  تعتمد على الشعر اعتمادها على السلاح وتتحصن بالشاعر لرد الغارات ودرئها.

وعندما قصد الاعشىالنبي محمدلمدحه، رصدته قريش وقالت هذا صناجة العرب ، مامدح احدا قط الا رفع قدره ثم استرضوه بمائة من الابل كي لايمدح محمدا فقبل. وللمرء ان يتسائل عن سايكولوجية هذه الامة التي تدفع قبيلة منها ، تعيش في واد غير ذي زرع، هذا القدر الهائل من المال لمنع احد شعراءها من قول قصيدة مدح، ترى اي شئ سياتي به الشاعر خارج ماهو موجود من صفات المرء ونسبه وحسبه؟ ولماذا تخشى قريش ان يقول شاعر حقائق عن شخص ما؟

وحتى الاعتزاز الزائد بالنفس، وتفضيل الذات على الاخرى الاجنبية، كان ولايزال ، مستندا الى تغليب جوانب اللغة والكلام حيث ان العربي يعتبر فصاحة اللغة وانيق الكلام مقياسا للكمال وفي حياتنا العراقية اليومية تستوقفنا ظاهرة التعامل مع غير العربي الاجنبي الذي تنقصه طلاقة الكلام بالعربية فمادام الكردي لايعرف العربية فهو غبي ومادام الهندي لايجيد الكلام فهو ناقص عقل وموضوع سخرية وانساننا لايصطدم بالحقيقة الا حين يمر بذات الظرف، حين يغترب ويعيش صعوبة الحياة فقيرا بدون راسمالة اللسان، انذاك يعرف وزنه الحقيقي ناقصا لسانه فيفاجا بقله هذا الوزن وضالته وكبر وضخامة وزن اللسان!وحين يتبارى العربي مع الكردي والهندي خارج تاثير سطوة اللسان يكتشف جزءا من حقيقته وماساته واحد اسباب تخلفه.  

 ربط كارل بروكلمان بين الشعر والسحر عند العرب، واعتبر ان" الشعر كان بيد الشاعر سحرا يقصد به تعطيل قوى الخصم بتاثير سحري" البشري و يبدو ان هذه النظرة لازالت مقدسة بالنسبة للعربي حتى وهو يدلف للالفية الثالثة بعد ميلاد المسيح حيث اعتقد ان بامكان جحافل الكلمات الحاق الهزيمة بطائرة الشبح وان النعوت القواميسية النادرة قادرة على خلخلة مفاصل العدو وادخال الرجفة الى قلوب جنوده .

  وبعد ان تغنى الشاعر نزار قباني بمجد قادسية صدام، وساهم مثل غيره من مثقفي الامة بتحطيم العراق مدفوعا بالحس الخاطئ لشاعر، وبوهم الشعور برد الاعتبار للكرامة العربية المهدورة بالخسارات والهزائم المتلاحقة امام اسرائيل، انبهر امام المشهد المرعب للمستنقع الذي كان يسكب فيه قصائده.

كان دوي الانهيار في ام المعارك ومنظر الحطام على طول الحدود العراقية الكويتية ابلغ من ملايين البيانات العسكرية،  وماكان هناك من مهرب سوى الاستدارة عن هذا الخراب ومحاولة اختطاط مسافة تناى بالشاعر عن النتيجة التي كان هو احد المساهمين بصنعها فوقف ينعى الامة، المهزومة ذاتيا بلسانها، دون ان يقول لنا شيئا عن مسؤليته هو في صنع هذا الخراب

 

طائرة الفانتوم

تنقض على رؤسنا

ونحن نستقوي بزنار "ابي تمام"

  الحرب

لاتربحها وظائف الانشاء

ولا التشابيه.... ولاالنعوت ....والاسماء

مقتلنا يكمن في لساننا

فكم دفعنا غاليا ضريبة الكلام....

لم يكن ماقال نزار في قصيدته اكتشافا جديدا، بل ان القصيدة حاولت توزيع المسؤولية عن الكارثة على الحكام وعلى ( نحن) غامضه لاتشير الى الفاعل الحقيقي:

هل النظام، في الاساس، قاتل؟

ام نحن مسؤولون

عن صناعة النظام؟

ابعد مما تقدم، اقول ان القصيدة المذكورة ماهي الا نتاج من نتاجات "صناعة الكلام" لدى العرب فالانتقاد والتصويب والمعارضة  حين لا تاتي بوقتها تساوي في القيمة الحديث عن مشكلة غير موجودة.  

فمن دفع غاليا ضريبة الكلام ؟ هل هو نزار ام ضحايا صناعة الكلام على امتداد هذا الوطن؟

 

ـــــــــــ

*  ابن خلدون/ المقدمه

**  امين الريحاني: قلب العراق)204

***مصطفى ابو ضيف احمد دراسات في تاريخ الدولة العربية




 

 

 

      

 

 

 

Google


    في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
  info@bentalrafedain.com