هنا البصرة

 

زهير كاظم عبود

zouher_abbod@hotmail.com

 

البصرة المدينة التي تملأ الروح حلاوة حين تنطق بأسمها  ، فتشعر بطعم التمر البرحي والبمبر وحلاوة ابو الخصيب حين تتنفس حروفها ،  مدينة على الجزء  الغربي من شط العرب المتكون من التقاء دجلة بالفرات ، ويذكر التاريخ ان البصرة  بنيت على أنقاض معسكر في منطقة كانت تدعى الخريبة . كما وان هنالك مدينة أثرية يعتقد بعض المؤرخين انه تم بنائها في زمن نبوخذ نصر تدعى طريدون ، وادعى آخرين إنها كانت مدينة آشورية ، فان صح هذا فان طريدون تكون جنوب مدينة الزبير قرب خور الزبير الحالي  ،أن القائد عتبة هو الذي ارسى بنائها ،  وتولى البصرة بعد عتبةَ المغيرةُ بنُ شُعبةَ ، ثم تولاها أبو موسى الأشعريُّ في السنة السادسةَ عشرةَ للِهجرةِ ، وكانت بيوتُها لا تزالُ من قصب  ومن الغريب أن تمضي أكثر من الف وأربعمائة  من السنين ولم تزل بيوت القصب شامخة ومنتشرة في البصرة ، وفي السنة السابعة عشرةَ للهجرة حدثَ حريقٌ التهمَ جميعَ مبانيها . فاستأذن وإليها أبو موسى الاشعريُّ الخليفةَ عمرَ (رض) ببنائها من لَبن خوفاً من الحريقِ. فكتب الخليفة إليه : افعلوا وتلاصقوا في البناء ، ولا يزيدَنّ أحدكم على ثلاثِ غرف ولا تطاولوا في البناء . ثم أمرهم أن يجعلوا عرض شوارعها الكبيرة أربعين ذراعاً والمتوسطة عشرين والأزقة سبعة أذرع وأن يجعلوا وَسَطَ كلِّ محلة رحبةً مربعةً لمرابط خيلهم طولُ ضعلها ستون ذراعاً .

وأشتهرت البصرة وذاع صيتها بأنتجها التمر بكل أصنافه وأنواعه ، كما أشتهر أهلها بالطيب وحسن الأخلاق ، حتى صارت البصرة غابة التمور العراقية التي تختنق عند نضوج التمور وقص الأعثاق ، وتميز شعبها بوداعتهم ومحبتهم للغريب وأكرامهم له ، وكانت من المدن العراقية التي يعتبرها الناس مشتى لهم لحسن مناخها وجمال طرازها ، ووقوعها على الساحل الغربي لشط العرب ، غير ان التوسع شملها لتمتد الى شرقه عبر منطقة التنومة وبساتينها التي تحادد أيران .

ورغم تدفق النفط العراقي من أرض البصرة الا انها كانت تمنح الخير للغير وتعيش  بؤسها وخرابها وفقرها ، فلا تنتفع منه ولاتستفيد بفعل السلطات التي حكمت العراق والتي تناست البصرة لشتى الأسباب .

والبصرة الميناء الذي يطل به العراق على الخليج العربي ، وحركة السفن التجارية لنقل البضائع والتمور والبشر تملأ مداخلها البحرية وتجعل منها مدينة مهمة من المدن العراقية ، ذلك انها أن لم تكن ثالث مدينة بعد بغداد والموصل  ،  فأنها المدينة الاولى لمدن الوسط والجنوب والفرات ، واستطاعت المدينة أن تعطي للعراق وللعرب والبشرية رجالاً أفذاذ في كافة المناحي الأنسانية ، غير انها تعرضت ومنذ مجيء صدام للسلطة الى عملية تخريب وتدمير ، بدأها الطاغية بقتل وتشريد ومطاردة شبابها و تخريب بيوتها ، ثم أستمر على تخريبها وأهمالها ، ولغرض صرف الأنظار عنها ، وبعد ذلك أدخلت المدينة  عنوة في آتون الحرب العراقية الآيرانية ، لتتحمل ما لاتتحمله المدن من قصف وقتال ودماء وموت ورعب وجحيم ، كونها تقع تحت مرمى المدفعية الايرانية التي لم تكن تدخر جهداً في مساندة صدام بقتل أهل البصرة الطيبين الوادعين ، الذين رفضوا هذه الحرب القذرة .

وهاجر اهلها تحت وطأة القصف المدفعي والصاروخي وبواسطة الطائرات الى المدن العراقية يعيدون تشكيل حياتهم  ويعيشون الحياة غير المستقرة والقلقة بعيدا عن بيوتهم وأراضيهم  ، كما تعرضت أهوارها الى التجفيف ، وضعفت الحركة التجارية وعافتها الحركة السياسية خشية من الناس على أرواحها ، بعد أن صارت البصرة موقعاً عسكرياً وملاذا للفرق العسكرية المقاتلة .

وبعد ان أعتقد الدكتاتور أنه  تم اخماد انفاسها وتخريب معالم جمالها وجزرها وحدائقها ، وتوقفت الحرب ، عاد الطاغية يعيث فساداً بأهلها فينتقم منهم شر أنتقام ليسلط عليها أخس البشر وأكثرهم تفاهة يستبيحون أشرافها ويقتلون مناضليها  ويحيلون فرحها الى حزن مطبق . وصمدت البصرة نساء ورجال صموداً أسطورياً  بوجه الطاغية ،  وحين احتل الطاغية دولة الكويت بقيت البصرة ناراً تحت الرماد ، تفجرت بعد الهزيمة الشنعاء التي منيت بها قوات الطاغية ، لتشعل شرارة الأنتفاضة الشعبية العفوية والحقيقية من ساحاتها العامة  ، ثم ليستبيحها الطاغية بقوات جسدت كل معاني الخسة والغدر لتصب جام غضبها على  الأبرياء الأحياء الذين لفتهم المقابر الجماعية .

وسقط الطاغية في نيسان 2003 ، وبقيت البصرة تنتظر من العراقيين الشرفاء أن يتم الالتفات اليها ، لعل أحد من المسؤولين يستذكر معاناتها ووقفتها البطولية ،  لعلهم يساهمون بالأسراع في بناء بيوت للفقراء الذين اكتظت بهم المدينة وهم يلتحفون السماء والمباني الخربة ، ولعلهم يساهمون في أن يكون مائها  مثل باقي خلق الله ، وأن تستعيد المدينة رونقها وبهائها ، وحدائقها جمالها وأريجها وبساتينها  ، وأن تعود حقيقة ميناء العراق الباسم ، ولعلهم يساهمون في أيجاد فرص عمل لأولادها الذين تميزوا بطول غربتهم ومعاناتهم وعذاباتهم وبطالتهم  ، ولعلهم يساهمون في تخفيف الام الشيوخ والنساء وأن يتم أستذكار الشهداء ، ولعلهم يساهمون في اعادة بناء ماخربه الطاغية عن عمد فيها ، ولعلهم يساهمون في زراعة مئات الالاف من شتلات النخيل التي قتلها أو باعها الطاغية ، ولعلهم يساهمون في حملة أعمار المدينة وأن يستعيد العشار والسعودية والكورنيش وشارع الوطني وأم البروم تاريخها ، ولعل الرباط والبراضعية والخليلية وباب الزبير و الأبلة وخمسة ميل والجزائر تستعيد شيئا من ماضيها ، ولعل الكهرباء والماء يعودان للجمهورية والساعي والحجاج وأم الدجاج ومكينة السوس والجسر الأحمر ، ولعل الأثل يستعيد جزء من تجمعات العوائل في ربيع البصرة ،  ولعل الحكومة الجديدة أن تلتفت الى شيء من هذا فقد تناساها الرجال ، ولم تعد البصرة كما كانت ، وها قد مضت أكثر من سنتين على سقوط الصنم ولم تزل البصرة ماضية في صبرها وأنتظارها ، لعل أحد ممن كان يتشدق بمحبة البصرة وأهلها الطيبين يلتفت اليها ، ولعل جزء مما سبق أن كانوا يقولونه عنها يتحقق فعلا ، وها قد مضت سنتان لم تزل البصرة كما تركها الطاغية ، وبالأمكان أن يتم اختصار الزمن واختزال المسافات ، فالمعاناة كبيرة وثقيلة ، والمرارة لم تزل مرتسمة على وجوه البصريين ، بأنتظار التفاته تتناسب مع ثقل تضحيات المدينة واهلها ، البصرة بالأنتظار  فلا تزيدوها وجعاً وصبراً !!

 

 

      

 

 

 

Google


    في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
  info@bentalrafedain.com