عودة الطيور المهاجرة الى غربتها .. الفصل الخامس

 

بروفسور د. عبدالإله الصائغ / الولايات المتحدة

لقد كنتَ ضائعا في طفولتك ! محروماً في صباك! طائشا في شبابك! مشاكسا في كهولتك! وأرعن في شيخوختك! ومع هذا فلن يمرَّ انسان على قبرك إلا ويشهد بأنك إنسان .

غوتـــه

 

ياه كم هو جميل أن تستشعر الأمان وانت الكامن في عتمات المجهول لتحمي رأسك من تهمة لا شأن لك بها! هل كنت فرحا بمصير العائلة المالكة التي عبثت بها المقادير وطوحتها طموحاتها غير المشروعة في ان تكون الرأس في كل شيء! الناس والدين والشرف والسلطة والزمان ايضا!!لا لا لست انا الذي يفرح بالموت ويشمت للكبوة! وانا الذي  تربيت على ان احترم  العائلة المالكة امام الزرقاء فلا امسها بتعبير يشينها مع برمي بتصرفاتها  ومع ايضا انني موقن ان هذه العائلة  الهاشمية الحديثة المسكينة  باتت عبءا على التاريخ  الهاشمي البهي الطهور فهي غير مهيأة للقيادة نظرا لسذاجة رجالها من الشريف حسين الى فيصل الاول الى غازي الأول والأخير الى فيصل الثاني! ناهيك عن استمكان الضعة لدى بعض رجالها من مثل الأمير عبد الإله بن علي والملك عبد الله والملك حسين!

خرجت من بيت السيدة ام قبيلة او بيت زوجها الإقطاعي الطيب ذي الولاء الملكي! وفي رأسي تزدحم الأفكار والأخيلة  وفي صدري تشتجر المشاعر المتضاربة! لست مبالغا  في وصف حالتي عهدذاك لأن صبي السابعة عشرة اليتيم الذي لم يتلق درسا من اب اورعاية من عم او خال او اخ! هذا الصبي كثير عليه ان يدخل السجن مع رجال يكبرونه سنا وتجربة  وصبرا! وبأي تهمة ؟؟ بتهمة عقوبتها المادة 217 وكثير عليه ان يعذب على ايد الشرطة السعيدية المدربة على التعذيب فهي لاتعرف الطفولة ولا الحنان  ولا تتنزل الرحمة في زادهم او بيوتهم او حتى نظراتهم! ثم يهرب ابن السابعة عشرة من السجن دون مقدمات بل دون ان يكون مهيئا لذلك الهروب المستحيل! ويلبث في بيت مجهول منتظرا مصيرا مجهولا! ثم يقال له : لقد فرجت! ارفع رأسك واخرج الى الشارع لترى الملكية اثرا بعد عين! كنت اقطع زقاق البو اصيبع بشعر حليق نمرة صفر وبهيئة رثة ولا ادري تحديدا اين اذهب وبمن سألتقي! بعض الناس يعرفني والآخر يجهلني وهو امر غاية في الاعتيادية! لكن الذين يعرفونني سنخان الاول  يجهل ما حل بي تماما ولم يسمع ان الصائغ الصغير هو المتهم الأول في ملف اغتيال دكتور فاضل الجمالي! اما الآخر فقد سمع بذلك كثيرا وتحدث عن ذلك طويلا! فحين يلتقيني وقد حصل ذلك فإن عليَّ ان اجيب عن اسئلة صعبة لم يرقَ اليها حتى خيال المحققين في الشعبة الخاصة!! من مثل ماهو دور اخيك عبد الأمير الصائغ في العملية ؟ وكيف نسقت مع الجبهة الوطنية وبخاصة الحزب الشيوعي وحزب الاستقلال!! بل كيف وثقت بك الجبهة وانت صغير السن ؟ ومن هو الممول للعملية ؟ كنت في البدء اجيب عن الآسئلة بنعم او لا او لا ادري! وحين اشتد الوطيس علي صرت برما بالأسئلة فقد اكتشفت ان الخيال النجفي الشعبي قد كتب سيناريوها للإغتيال لاشأن له بي ولاشأن لي به! لهذا تحاشيت الاجابة حين اكتشفت ان بعض المغفلين وهو بعض كثير يتهيأ له انه يعرف عني اكثر مني لأنه كان يصلِّح لي اجابتي بثقة عمياء! كان الزقاق طويلا وشبه مظلم فالشناشيل متلامسة عملا بنظرية استغلال الفراغ! وبيت الإقطاعي يتوسط زقاق كاظم كريم ابو اصيبع! خرج لي من بيت البو المعمار صديقي  المهووس الذي تعلمت منه كثيرا من المصطلحات الأدبية والسياسية واعني سوادي المعمار وما إن رآني حتى اغرورقت عيناه بالدموع وعانقني وقال حسنا فعلت ايها الرفيق حين سجلت اسمك في السجل النضالي الوطني قبل ان يسقط النظام الرجعي الملكي  !وسرنا معا متشابكي الأيدي نحو الميدان ( داون تاون ) وسط مدينة النجف فرأيت فرحا بين الناس وحميمية لم استشعرهما بعدها في كل العهود اللاحقة إلا حين ضرب ابو تحسين رأس صدام حسين بنعاله  في ساحة الفردوس يوم 9/9 !واذكر ان شبيبتي الحزبين الشيوعي والاستقلال كانا على راس المحتفلين في ساحة الميدان وكان مهدي شلاش ( بو الخولة ) ملح المحتفلين وبهاراتهم بروحه المرح الجميل وجسمه الممتليء الثقيل! وقد ساد بين الشيوعيين والقوميين والمستقلين الرضى والحبور لكن الأغاني مختلفة فحين كان يغني الشيوعيون للسلام وطير ياحمام وسنمضي الى ما نريد وطن حر وشعب سعيد كان الاستقلاليون يغنون وحدة ميغلبها غلاب  ومن المحيط الهادرالى الخليج الثائر وعبد الناصر ياجمال يمحقق الإستقلال!  شيء يسير من الحساسية التقطته عيناي! القوميون لا يرددون اغاني الشيوعيين  والأخيرون لا يرددون اغاني الأولين! وضحك سوادي وبصق على الارض وقال بدت الخربطة وشيفضج ياطلابة! فضحكت وقلت له لاتتشاءم حبيبي الإختلاف ليس خربطة بل قوة للديموقراطية! فنظر سوادي الي مشفقا واشار الي ان اقرب اذني من فمه ففعلت فهمس لي : مولانا كلامك صحيح لو كنا بسويسرة  اما العراق ..؟ ابعد وجهه عن اذني  واكمل جملته بغمزة يحذقها من عينيه! لكنني قررت ان استمتع بهذا اليوم العظيم فبي عطش للغناء والفرح والرقص وهذا يومي فكنت اقف بين  القوميين واغني مع الشيوعيين ثم افعل العكس ويبدو ان تصرفي راق لعدد من الطيبين ففعلوا مثلما فعلت! صعد احدهم فوق بناية البلدية مقابل البريد وخزان الماء متوسط الحجم الذي وضع وسط الميدان قبالة البريد وقد شيد كما كتب عليه سنة 1936 واطل وجه مألوف لدي تماما بشاربين ستالينيين!! أطل  من بلكونة المصور يوسف الفلوجي واخذيشير بيده  ليسكت الناس وحين كان له ما اراد تكلم بلسان خطيب مفوه وقال ان هذا اليوم هو يوم كل العراقيين ولكن علينا ان لاننسى شهداء الحزب الشيوعي وتضحياته التي لولاها لما شهدنا يوما كهذا! ثم اعقبه خطيب آخر يعتمر عمة بيضاء ولعل اسمه الشيخ أحمدالجزائري وقد نسيت ملامحه الآن مع انني سألتقي به ثانية في سرداب بيته مع مجموعة من الشباب (اذكر منهم فقط المحامي احمد الحبوبي  الذي كان يجيب عن استفسارات الحضور بوصفه ممثلا للجبهة الوطنية وزميلا لمحمد صديق شنشل وزير الثقافة والإرشاد في اول وزارة جمهورية والمعلم عبد الحسين ابراهيم الرفيعي وعبد الإله النصراوي وأمير السيد جواد الحلو وهادي الجمالي وحمودي المقرم ومهدي محسن بحر  وعبد الامير مديد وباقر السلامي وعلاء البرمكي ومحمد كاظم العادلي ومحمد رضا الشيخ راضي ورزاق الحلي ومبدر كلو   وشاكر البرمكي  والاساتذة محسن البهادلي ومحمد علي المقرم  وعبد الرحيم محمد علي ) !! وكان اشد فصاحة من سابقه واعمق تأثيرا في المتظاهرين وقد اشاد بعبد الناصر وبشر المتظاهرين ان الوحدة مع سوريا ومصر قادمة لا ريب فيها  والمسألة باتت مسألة ايام معدودة!! الاحتفالية استغرقت ضوء النهار كله وزحفت على جزء من الليل! لم اشعر بالتعب ولا الاعياء وهذه حال الجميع تقريبا!! فجأة احسست بالعطش الشديد فاستنجدت بصديقي سوادي فضحك من سذاجتي وقال هل تدري ان كل هؤلاء الذين امامك بين عطشان وجوعان او محتاج لحمَّام!! واردف سوف يتفرق المتظاهرون  ويعودون الى بيوتهم مكتفين  بنشرات الاخبار من الاذاعات المألوفة : لندن ..نيودلهي .. يرفان .. موسكو .. الشرق الأوسط !!  وحقا كان توقعه صائبا فقد انفضت المظاهرة حين اخذ منها الاعياء مأخذه وكان مؤملا لها ان تستمر الى الصباح لو بادر المتمكنون منهم الى توفير الماء والطعام وفتحت بعض المنازل والمحلات ابوابها لقضاء حاجات  المضطرين!! السؤال هو اين سأذهب بعد ان ودعني سوادي المعمار ؟ هل اذهب  الى بيتنا في الكوفة ام الى بيت ام قبيلة ؟؟ أين اجد الزرقاء وقد تركتها تنحب على الملك فيصل الثاني ؟ بل ومنعتني من الخروج الى الشارع فهي تظنني طفلا ولم يتبدل ظنها الى ان توفاها الله سنة 1986!! والسؤال الأهم هو اين اخي الصغير محمد ؟ ونحن خرجنا معا!! اوف من محمد كان ومايزال يفكر لوحده ويقرر لوحده  ولايشركني معه في شيء! حتى الأصدقاء بيننا فهم غير مشتركين! اصدقائي ليسوا اصدقاءه بل غالبا ما يتبرم منهم وملاحظته ان اصدقائي يتكلمون كثيرا! اصدقاء محمد ينفرون مني لأن جسمي ضخم وعمري اكبر  من معدل اعمارهم بثلاث سنوات!مع ذلك فهناك استثناءات حصلت في الذاكرة فصادق الشيخ سلمان الخاقاني كان صديقا مشتركا! وحامد البغدادي وشاكر البغدادي كانا صديقينا المشتركين في النجف!!وشط الكوفة والكلبة نسرين الثانية  كانا مشتركين بيننا في الكوفة! والخادمتان خجة وبهيجة والكلبة نسرين الأولى كانوا اصدقاءنا المشتركين في الكاظمية لكن تركيبة محمد هي عدم الخروج من جلده فهو يفكر تحت جلده ويحب ويكره كذلك!! لذلك قررت العودة الى بيت ام قبيلة في عكَد  بيت ابو اصيبع!! وصلته  متثاقل الخطى مبهوت القوى فهالني ان الباب مفتوح وكأن احدا كسره فأقفاله الخشبية والحديدية مكسرة!! دخلت البيت لم اجد احدا في كل طوابقه وتهيأ لي ان ايدي اللصوص قد عبثت به مستغلة وضع الشيخ  مالك البيت الثري  كمؤيد للملكية وعدم وجود احد فيه! شعرت بالرهبة والفزع!  كيف حصل هذا ؟؟ وادركت ان اهداف الناس مختلفة في كل شيء لكن اللصوص لايعرفون شيئا عن فقه الاختلاف!! فقههم الوحيد في الزمكان الممتد من الأزل الى الأبد هو استغلال الفرص التاريخية للحصول على اكبر كم واغلى نوع من السرقات!! يمينا لقد سرقت مصوغات  ام قبيلة ومجوهراتها كما سرقت نقود الشيخ التي كان يدخرها في بيت ام قبيلة لأمانتها التي لا جدال فيها!! أنَّبْتُ نفسي لأنني لم البث في البيت لحمايته ومن فيه! بل كان علي ان اخطط لحماية الإقطاعي زوج ام قبيلة!! ولكن من يمنع الصبي المراهق في داخلي لكي يصدق انه طليق وآمن من خلال الاحتفال مع الناس!! خرجت فزعا من بيت ام قبيلة وتوجهت الى كَراج كوفة نجف الكائن في الشارع الرئيس الواصل بين النجف والكوفة ’ وحجزت مكاني المفضل في السيارة الخشبية دكَـ  النجف!! وهل مكاني سوى سطيحة السيارة التي احبها والتي تكلفني عشرة فلوس فقط بما يساوي نصف كروة العبري!! كان من معي يغني ويصفق ويرقص رغم هطول الظلام وحندسة الافق وصفعات الريح الصرصر ! الحق اقول كانت الفرحة الشعبية العارمة لا توصف ولا تقاوم! لقد اساء نوري السعيد كثيرا الى مشاعر العراقيين وبخاصة مشاعر اهل النجف ولم يتوقع ابدا ان يتحداه العراقيون لأنه توهم ان غسيل المخ نفع معهم فكان يكرر من التلفاز والإذاعة ( دار السيد مأمونة ) و ( من يقتل نوري باشا لم تخلق أمه بعد )!! لم اك راغبا في تبادل الحديث مع احد لأنني حدست الهستيريا في تصرفات الناس وهو ما لا احبه في الآخرين!! الطريق من النجف الى الكوفة تقطعه سيارة ذاك الزمان بنصف ساعة فهو سبعة اميال لكن الطريق نفسه يستغرق من الكوفة الى النجف اربعين دقيقة لأن النجف ترتفع عن الكوفة بما يعادل اربعمائة قدما! كانت السيارة الخشبية التي انطلقت بنا بعد ان شغلها السكند داريفر ( سكن الدريول ) بالهندر!! شعرت ان السيارة تتدهدى او تتهادى من اعلى الى تحت مررنا  بالمقبرة التي تحولت  الى شارع الهاتف وحديقة فيصل الثاني ثم اطلال قصر فاضل الرادود فالحنانة ثم بمساحات مخططة ستكون فيما بعد احياء جديدة! ثم ببئر زبيدة بعدها قطعنا نهر كري سعدة الجاف فقد تسلقت السيارة حفافيه العالية وهبطت قعره وواصلت سيرها!  فهذا هو قبر ميثم التمار صاحب علي بن ابي طالب في سوق كناسة الكوفة وذلك بيت علي بن ابي طالب المتواضع الماثل للعين والمحتفظ بملامحه بحيث يصلح للسكن الآن لايمكنك معرفته ليلا لولا الفوانيس والمصابيح الصفر  ,وهذا البيت الصغير المتواضع له سادن وكيشوان وزائرون يضيق بهم المكان !! ووراءه مباشرة  قصر امارة الدولة  الأموية وقد استحال اطلالا تبول فيها الثعالب فيا لدروس التاريخ البليغة التي لم يستفد منها العقل العراقي , السيارة مازالت تتدحرج لكي تمر بنا على مسجد الكوفة فتلوح لنا قباب اضرحة الشهداء مسلم بن عقيل بن ابي طالب وهاني بن عروة والمختار الثقفي وآخرين! مخرت السيارة شارعا محفورا في مرتفع بحيث يبدو الناس بمستوى السطح الذي يقلني الى الكوفة ومررنا بقبر خديجة الصغرى فمغتسل الموتى حتى وقفت السيارة في محلة السكة مركز مدينة الكوفة! نزلت من عل وانطلقت بما يشبه الركض الى بيتنا! 

 لم يك بيتنا قريبا من فضوة السكة فالمسافة مشيا على الأقدام تستنزف ازيد من نصف ساعة مملة! كان علي ان انبه السائق لكي ينزلني قبالة بيتي لكنني نسيت! وفي كل مرة انسى!!في الطريق رأيت صديقي معطي ابن المحامي الكوفي المشهور عزيز الحاج هادي يبدو انه عاد للتو من مظاهرة تأييد تفرط عقدها بعد ان ادت مهماتها في مآزرة العسكرتاريه الثائرة! فصافحني وعانقني وغيرَّ طريقه من اجلي وحدثني عن الإشاعات التي اثيرت بعد اعتقالي ومن ثم فراري ومن ثم اشاعات عني بعد سقوط النظام الملكي! وفهمت منه ان اهالي الكوفة يظنون ان العسكريين الذين تسنموا الحكم سوف يعينون الصائغ وزيرا في الأقل!حقا ان الناس يبعثون على العجب والسخرية! كيف استنتجوا ذلك ؟ وكيف يكون ابن السابعة عشرة وزيرا! لا شهادة ولا تجربة ولا جهامة!! واذا كان صبي مثلي وزيرا!  فأي منصب سوف يعطى للمناضل والشاعر حسن عوينة مثلا  ؟ حسن عوينة الذي لم يخرج من السجن بعد او في الأقل لم يصل مدينته النجف بعد؟؟ تركني معطي عزيز بمجرد وصولي  وقد انظم اليه صديقه عبودي غالي! تركتهما وجريت نحو بيتنا! واقول في نفسي والله وحشتني ياحوشنا وحشتيني بيبي ماما!!  فوجدت تجمعا للمحلة امام بيتنا : بيت وهاب شبع ؟؟ بيت الخنيزي ؟ بيت حسين النويني ؟ بيت الملا رباب ؟ بيت النبي الأثول ؟ وما إن شاهدتني المحلة حتى انطلقت الهلاهل  والصلعله والحمدلة ثم جاء ميقات العناق والبكاء والقبلات ونثر الملبس على رأسي!! حقا ان الحميمية في المحلات الشعبية كانت ذات بهاء وعبق فأين نحن منها الآن ؟  كما يقول لبيد العامري الجاهلي  :

ذهب الذين يعاش في اكنافهم       وبقيت في خلف كجلد الأجرب

لاحظت ان اكثر بنات المحلة احتفاء بي وفرحا لسلامتي هي صبيحة بنت النويني ولكنني استوعبت حماستها في اطار من الشعور الوطني والجيرة! كانت باذخة الجمال في ربيعها العشرين! وقد تغامزت النسوة كعادتهن من فرحها المبالغ به بحيث استقبلتني قبل امي وجدتي وهما سمائي وارضي! دخلت البيت وكأنني ادخله للوهلة الأولى فنحر الحاج حسين النويني خروفا ابيض بقرنين كبيرين تحت قدمي فشعرت بالهلع الشديد فأنا كنت وما ازال ضعيفا امام لون الدم اما منظر الذبح فهو يدمر اعصابي  ويتسبب في غثياني ومن ثم افراغ ما بجوفي!! عموما دخلت البيت فبالغت جدتي الرائعة ام سعد ( العلوية جلوة بنت حمد من البو يوسف ) فرقصت ومعها الزرقاء العظيمة وشقيقاتي الرائعات الكبرى بدرية  وكانت غير متزوجة  والوسطى حوراء وهي متزوجة من رجل قروي من المحاجير يدعى السيد عباس السيد سلمان البو اذبحك وهو والد الشاعر عدنان الصائغ المقيم اليوم بين السويد ولندن! اما الصغرى فهي الأروع  بين شقيقاتي : حياة  وكانت الزرقاء قد ارتكبت غلطا كبيرا حين رضيت ان تزوج ابنتها العلوية ابنة الثامنة من احد اقاربها وهو الحاج كريم الحاج مهدي ابو اصيبع وكان صاحب خان ( علوة ) لبيع الحبوب في نهاية سوق مسقوف بالزنك على هيئة هرمية ملغى بسبب فتح الجسر الحديدي الجديد  في الكوفة واهمال الجسر الخشبي!! حياة كانت عذابنا جميعا ومازالت وستظل  فقد اخرجتها الزرقاء من مدرستها الزينبية الابتدائية للبنات وكانت في الصف الثاني وعمرها ثمان سنوات إلا قليلا!! اما زوجها كريم غفر الله ذنوبه فكان ابن الخامسة والخمسين وفي ليلة الزفاف هجم عليها كما نمر على فريسته فلم يرع لها طفولة ولا يتما ولم يتركها الا والدماء تفيض من فراش الزفاف الى الارض وحملت بسيارة اسعاف الى مستشفى الكوفة وحين شاهدها الدكتور حسين الشهرستاني مدير مستشفى الفرات الأوسط وكان قد عاد من لندن منذ ثلاث سنوات خابر الشهرستاني مركز الشرطة ظنا منه ان الطفلة مذبوحة او مدهوسة ولم يدر بخلده ولا حتى بخياله ان رجلا كان يعمل حفار قبور رزقه الله  فصار تاجر حبوب وهو ابن الخامسة والخمسين شبقا لا يوصف فقد تزوج من ابنة عمه الشابة امينة واشهد انها كانت في منتهى الجمال واليفاعة واللياقة وذبحها ليلة الزفاف واتلف رحمها فما عادت تنجب وهي الحالة ذاتها التي كررها مع شقيقتي بعد اربع سنوات فقط!!  عموما اقسم انني نسيت فرحي حين شهدت انكسار الطفولة في شقيقتي الصغرى حياة  فاصبحت  الطفلة التي لم يكتمل جسدها بعد زوجة ثانية لوحش مات عن عدد من الزيجات  قبل ان يطاله القانون!! بكينا معا وتعانقنا وسكنا كما لو اننا تحت تأثير الإغماء! وبكى الناس معنا على بؤس الزرقاء التي جعلها والدي السيد علي الصائغ زوجته الثالثة فتزوجها وهي ابنة السابعة  وابي ابن الستين لكن والدي كان رومانسيا مع امي فحمل اليها ليلة الزفاف عددا كبيرا من دمى العرائس والملاعيب وقال لها انا بابا وصدقته فكانت الزرقاء تناديه بابا امام الناس فلا يرف له جفن! كان يرقص لها ويغني ويصير لها حصانا فتركبه ليلف بها باحة البيت الصغيرة والغرف! وهو راض لأن الزرقاء هي الدجاجة التي تبيض ذهبا وانها كانت اصغر من أصغر ابنائه بعشر سنوات! فكيف كررت الزرقاء المأساة ذاتها مع ابنتها  اليتيمة حياة ؟  بعض الناس يقول ان كريم ابو اصيبع رشى صديقات الزرقاء واغراهن بمال عظيم واذكر منهن ام ادخيل والفية بنت الاعسم! واشك ان الملا تقية بنت الصاغرجي ستقبل الرشوة او تسمح لأحد بمكالمتها في مثل هذه الصغائر فهي مهابة ومرهوبة! المهم هذه النكبات تلقيناها بوعي مبكر للعذاب حتى انني الآن مثلا انسى احساسي الفادح بالفرح واوقف سياق القص لكي اذرف دموعا على حياة التي تعيش الآن شيخوخة المرض والسكري والضغط دون ولد او بنت! لاحظت ان بيتنا كان مختنقا بالضيوف فلوالدتي علاقات حميمة مع كثير من الغرباء والأقارب!! التقطت عيناي عائلتين من الحلة هم اقاربنا من بيت عزام الصغير جد السيد حيدر الحلي الشاعر العراقي الكبير! ويسمون في الحلة بيت الشهبان! ولذلك حديث ليس هذا ميقاته! السيد محي السيد مهدي  سليمان حيدر  واولاده عبد الأمير و ابنته الشهباء وجودة وشقيقه السيد صالح السيدمهدي السيد سليمان حيدر ومعه اولاده عبد الإله وهو صديقي وتربي ومحسن  الأشهب وهو صديقي وتربي  ايضا  وكنت معجبا بذكائه الحاد وشجاعته الفائقة!  وابنته الشهباء فتحية امهر  فنانة في طهي الطعام ذقت على يديها الطعام في حياتي كلها ! هاتان العائلتان الشقيقتان كانتا بالنسبة لنا  انا عبد الإله واخي محمد وحياة  نافذة تطل على الجنة! وبخاصة محمد وانا بعد ان اختطف كريم بو اصيبع شقيقتي الصغرى حياة بسيارة الشرعية مع حديث ملفق عن رسول الله صلعم ( زوجوهنَّ في الثمان وعليَّ الضمان!! )  كنا نزورهم في بيتهم بشارع  النجف قرب مسجد الكلش الذي يضم رفات جدنا المشترك الأمام  الحسين ذو الدمعة! وقد هدمه والمسجد معا  المحافظ  الطائفي هاشم قدوري بأمر من غافل جاسم التكريتي!! فنشاهد من سطحهم شاشة السينما الصيفي ونتابع الفلم صورة وصوتا مثلا ونحن نتناول العشاء  واذكر انني شاهدت كثيرا من  الافلام المصرية كمثل جعلوني مجرما ... عنتر وعبلة ... لحن الخلود .. الخ !! كما اننا لن ندخل السنما في الحلة الا من خلال شباب هاتين العائلتين الطيبتين الكريمتين! جلست مع الضيوف الكثر ممن اعرفهم وممن لا اعرفهم وقد اختنق بيتنا الكبير جدا بهم فثمة الهول الكبير عشرة امتار في اربعة  لم يبق فيه موطيء قدم  وثمة الغرف والمشتمل المنفتح على البيت وهو ملك اختي الكبرى بدرية! اختنق هو ايضا ولن انسى لعب الاطفال والصبيان في حديقة بيتنا الكبيرة! كلهم كان راغبا في وضعه داخل دائرة اهتمامي! وجلهم متلهف لمعرفة ما حصل لي في العهد الملكي وما سيحصل لي في العهد الجمهوري!! بل ان بعضهم كان يتطلب المقارنة بين ما تناقلته الإشاعات عني وبين ما سأقوله الآن! في البدء كنت مفعما بهؤلاء لأنهم يعاملونني كما لو انني زعيم مهم  وليس صبيا غريرا  يفتقد التجربة والرصانة ربما!! كان اقسى ما واجهته من الفضوليين هو ايمانهم الراسخ بأنني اسهمت في اغتيال دكتور فاضل الجمالي! ولم يجد مع هؤلاء كلامي البريء ولا ايمان والدتي المغلظة! بعدها اضطرت الزرقاء الى فعل ما لا ترغب بفعله فطلبت الى الغرباء والأقارب في الكوفة والجيران   بلباقة مهذبة وأدب جم مغادرةَ البيت لكي تلتفت الى الضيوف وتطبخ لهم او تفرغ لهم مكان حقائبهم ومنامهم ولن تقل الغرف المخصصة للعائلتين عن الثلاث الأولى للكبير وزوجته الرائعة ام عبد الأمير  والغرفة الثانية  لأخيه السيد صالح وزوجته الرائعة ام حمزة  اما الغرفة الثالثة فهي للأولاد والبنات من كلا العائلتين فلدى هاتين العائلتين من الطيبة وصلة الرحم  والنقاء ما لا يمكن تخيله بيسر!! خرج الناس فاستعاد بيتنا عافيته وبات بمقدورنا ان نتفاهم بحميمية! دخلت بدرية وفتحية المطبخ لكي تعدا  لنا  الطعام المطبوخ في قدور كبيرة حتى تكفي العدد الكبير في البيت! وحين مُدَّ الصماط  او السفرة توالت الجفان الممتلئة بأفانين الطعام وطبيعة الزرقاء وامها جلاء ان تعتذرا للضيوف عن  الطعام الذي لا يليق بالمستوى!! مع انهما تبذخان وتسرفان في الكرم ولكن للعادة حكمها القوي! جلسنا جميعا  لنأكل والحبور كان سيد المائدة وإن هي الا هنيهة حتى طرق الباب  الخارجي فهرع الصبيان لفتحه فسمعنا صوت  صديق العائلة  عبد بن حمد ابو دراغ! دخل علينا وعانقني بحنان مبالغ فيه فهو اقارب الزرقاء وربما كان يفكر انه اجدر بالزرقاء  ابنة عمه تقريبا من السيد علي لأن ابو دراغ اكثر شبابا من السيد علي واثرى وكنت اتضايق جدا من نظراته الى امي! كما اتضايق من تلميحاته التي تسمم دمي! ولكن الوالدة رحيمة ومولعة باقاربها اما بيبيتي جلوة ام سعد الريفية من الميهي والنفاخ التي ورثت عن زوجها من خلال ابنتها الزرقاء ثروة طائلة بينها شارع الخورنق وشارع الجبل وعكَد خانية وكَراج السيارات الكبير وبساتين وعرصات وبيوت في النجف والكوفة  فكانت تكره اقارب زوجها بل وتحتقرهم وتضيق بهم الى حد الطرد لأن ذكرياتها معهم مؤلمة فقد اتهمتهم بوضع السم لولدها الوحيد سعد كي يموت قبل ابيه فلا ترث العلوية جلوة شيئا من اموال المرشد محمد حسن زيارة! بل ان زواجها وهي القروية البسيطة من وكيل العثمانيين في النجف وزعيم آل زيارة وأصيبع ومالك الشطر الأكبر من مقبرة النجف! زواجها كان مؤامرة على زوجها فهي عقيم وطلقها زوجها الأول لأنها لا تلد فعملوا على زواج المرشد منها فهي لا تلد اذن لن تهدد اخوة محمد حسين زيارة بالإرث فكانت جلوة الزوجة الخامسة عشرة للشيخ محمد حسين زيارة! ومن سخرية الأيام ان تحمل العلوية جلوة من الشهر الثاني لزواجها! فجن جنون اخوة زوجها وساوموها على الثروة لو مات زوجها فبصقت في وجوههم وطردتهم واخبرت زوجها بأن اخوته يخططون لموته للحصول على ارثه فكتب كل املاكه باسم العلوية القروية الشريفة جلوة التي ولدت له سعدا لكن اخوة زوجها اتفقوا مع الخدم لدس السم في طعام سعد ابن الاربع سنوات وهكذا مات سعد لتلد بعده الزرقاء!! لكن عبد ابو دراغ رجل مختلف فهو كما نسمع من الناس اشجع فتوات النجف فقد سبق كثيرا من فتوات النجف عهدذاك مثل إجعن  ومظلوم الشرطي وخليل شيحان وناجي ابو ركَيبة وعلاوي منصور وكان اليق الفتوات فقد اكمل الجامعة وانضم الى المثقفين كما ان خليل شيحان اكمل الحقوق  وصار محاميا فيما بعد  يحظى باحترام الناس! عبد ابو دراغ في ذمته عدد ممن قتلهم لن يقل عن العشرة  دون ان يترك اثرا بعده يدينه فهو مرهوب الجانب  حتى من قبل الشرطة لأنه خبير في القتل  كما انه مرغوب الجانب لأنه  سخي جدا! ومتعفف وفاق اخلاقيات فتوة ذلك الزمان! فقد اقسم مثلا  حين كانت المطربة  عفيفة اسكندر قد ظهرت للتو واشيع حولها انها مدللة الباشا نوري سعيد وصديقة الوصي على العرش عبد الاله بن علي! فأقسم امام حشد من اصدقائه انه سيجلب عفيفة اسكندر الى النجف  بسيارته السوداء  المارسيدس وسيجعلها تبيت في بيته وفي فراشه ( كذا )  وعبد ابو دراغ اذا قال قولا فعل فكيف به اذا اقسم! حمل معه ثروة  الى بغداد واستأجر احد اصدقائه بصفة خادم واستأجر بيتا قريبا من بيت عفيفة واخذ يعرف اسماء الملاهي الليلية التي تغني فيها اسكندر وكان يحجز المقاعد الامامية كلها اما خادمه او صديقه فيقف خلفه ولا يجلس ابدا ويخاطب ابو دراغ نعم بيك نعم سيدي نعم مولاي تؤمر معلاني! حمل معه ذهبا وكان يطوق خصر عفيفة بنطاق من الذهب الأبريز  ويوشحها بوشاح ذهبي ويلبسها الخواتم ذوات الفصوص الثمينة جدا جدا او يضع على عنقها قلادة! الناس كانت تتبرع بالدنانير وابو دراغ يتبرع بالذهب واليواقيت واللآليء  والدر  والفيروز! انتبهت اليه عفيفة واحبته!! نسيت ان اقول ان هذا الرجل كان ابيض البشرة ازهر الوجه باذخ الجسد وسيما بحيث  كانت جاذبيته سببا لزيجاته الكثيرة ومغامراته النسائية الخطيرة! احبت عفيفة اسكندر عبدا ابو دراغ  ودعته الى بيتها  فصارحها انه اقسم بين اهل مدينته  على ان يجلب عفيفة الى النجف وان ينيمها على فراشه! فقالت عفيفة سأذهب معك لانني احببتك  حقا ولأنني حصلت منك ما يعادل محصولي لمدة عام كامل! وهكذا وصلت النجف سيارة مارسيدس عنتيكة يقودها سائق زنجي وفي الخلف يجلس عبد ابو دراغ وعفيفة اسكندر  وقد طافت السيارة شوارع النجف في استعراض ينم عن عقليات الفتوة في ذلك الزمان! وقد استأجر عبد ابو دراغ الراقص الأسطورة كَليبي الذي كان يرتدي ملابس النساء وباروكة ويرقص امام سيارة ابو دراغ! وحين عاد الى بيته ودخل غرفته الخاصة ونامت عفيفة اسكندر الى جانبه وفي فراشه! ارادت عفيفة ان تتغنج على ابو دراغ فقالت له لك داد  عبد  انطيني شوية ماي! فغضب عبد ابو دراغ وقيل انه بكى وقال لها حرام عليك هلكت نفسي لكي احصل عليك في فراشي فبعت عددا من بيوتي وعرصاتي كي  احصل عليك بعد جهد كبير ثم تقولين لي دادة عبد ؟ فاستغربت عفيفة وقالت له هل ان دادة او داد فيها معاني اهانة فقال لها ليتك اهنتيني ولكن داد عندنا في النجف معناها الوحيد هو اخي وهكذا دون علمك اصبحت اختي فانت حرام عليَّ ما حييت وطلب  اليها ان ترتدي ملابسها على عجل ووضع المسدس بينه وبينها حين ناما  وفي الصباح طلب الى السائق ايصالها الى بيتها في بغداد! هذه واحدة من قيم عبد ابو دراغ الذي لا يجد في القتل وقطع الطريق غضاضة او حراما ولكنه يحرم عليه مغنية شابة جميلة  ابنة سوزان  الامريكية الخلابة الجمال! لن ادع القاريء العزيز ينسى السياق واعد  برصد هذه الشخصية النجفية الغريبة حين يحين حينها! جلس عبد ويبدو انه يعرف ان السادة بيت الشهبان هم اقارب غريمه السيد علي وابو دراغ هو اقارب الزرقاء وكان يقارن بين معاملة بيبي ام سعد للسادة من الحلة ومعاملتها له فهو لا يحبها وهي لا تحبه! لكن الزرقاء كانت رحيمة به وحميمة معه مع ان دخوله بيتنا يسبب لنا كثيرا من الإشاعات فهي ( الزرقاء )  شابة ووريثة اثرى النجفيين ابيها محمد حسين زيارة البو اصيبع وهي الآن ارملة!!  واحتمالات الخطر منه كثيرة فقد يداهمه احدهم في بيتنا  ليقتله بثأر  ابيه أوة اخيه أو ابن عمه!!! لاشيء يهم في الازمنة الرخية البسيطة! التفت ابو دراغ اليَّ واسر أنه غير مرتاح لطريقة سيري وكلامي بعد سقوط الملكية  واتهمني بالغرور والسذاجة ! وقال لي لن تحصل من العسكريين شيئا ( مش بوزك )  ثم سألني هل انت شيوعي ؟ فقلت له لا ولكنني احب الشيوعيين! ثم سألني هل انت قومي فقلت له انا احب القومية وأكثر القوميين صدقائي ولكنني مستقل! ضحك وقال يعني انت من حزب الإستقلال! قلت له صدقني انا لست حزبيا! بعدها وتخلصا من الحرج سألته وانت يا ابو دراغ : انت لأي حزب تنتمي ؟؟ فقال وفاحت رائحة العرق من فمه : انا من حزب العلَّاكَة! واردف قائلا : انا مع من يملأ علَّاكَتي بالمسواق! فاستهجنت قوله ولم افهمه لسذاجتي فهو يشير الى حزب يهتم بمعيشة رخية للجماهير! اكملنا العشاء وسهرنا الى الصباح!! وكالعادة فعبد ابو دراغ كان جوكر السهرة والحديث معا! ولم يدرك الضيوف انه كان ثملا فكلما احتاج جرعة من العرق الأبيض دخل غرفة ام سعد المظلمة وكرع حسوة منه دون ان يفطن اليه احد سواي والوالدة!! اتذكر ان الوالدة طلبت اليه ان يحكي للضيوف بعضا من مراجل ابيه الزعيم حمد ابو دراغ المعروف عراقيا ! وكنت قد سمعت هذه الحكاية الجميلة مرات ومرات فقررت ان التحق باصدقائي الصبيان والصبيات في السطح لكن واحدة فقط من مراجل حمد ابو دراغ تستحق ان ارويها الساعة قبل ان التحق بأصدقائي المرحين!! الحكاية التي تتناقلها مجالس النجف هي ان للزعيم حمد ابو دراغ اثني عشر ولدا فقط سوى البنات! كان يميل الى اصغر اولاده سنا وهو سمـير الفتى الوسيم الفارس! وذات مرة اختصم سمير وهو من محلة المشراق برجل من محلة الحويش ورفع سمير مسدسه للتهديد فقط لكن الحويشي اخرج مسدسه من جيبه واطلق النار على سمير فأرداه ذبيحا وقد فارق الحياة فعرف اخوته بما حل بأخيهم الأعز سمير فطاردوا الرجل القاتل من محلة الى محلة ومن زقاق الى زقاق فضيقوا عليه الحصار  فدخل زقاق ابو دراغ وهو لا يعلم من ذعره  ان وقع في المصيدة ولأن الزقاق مغلق ولا يخرج فقد اضطر ان يدخل بيتا لا يعرف اصحابه فاتفق انه دخل بيت الزعيم حمد وكان يتوضأ فدخل القاتل واحتمى بالزعيم حمد وقال له : عمو دخيل الله ودخيلك ولاحظ حمد ان اولاده هم الذين يطلبون الداخل في ذمته فشهر مسدسه بوجوه اولاده وهددهم بإطلاق الرصاص الحي على اللحم الحي! فبهت اولاده الأحد عشر فقالوا لأبيهم دعنا نقتله فقد قتل حبيبك سمير! فترنح الشيخ حمد قليلا  ثم تماسك والدموع تنزف من عينيه وقال لقد صار الرجل في بيتي وفي حمايتي وليس امامكم خيار اذهبوا الى اخيكم وغسلوه وادفنوه ثم التفت الى القاتل المحتمي به : ايها الداخل في حماي انني سأحميك هذا اليوم فقط وسوف اوصلك الى مكان آمن وانتبه الى نفسك فانت مطلوب لنا بثأر وأي ثأر! إ . هـ  هذه واحدة من مراجل الشيخ حمد وقد ورث عبد الكثير منها وأضاف اليها! استمرت السهرة  الكبار سهروا مع بعضهم رجالا ونساء اما انا فقد سهرت الشطر الاكبر من الليل مع الكبار ثم انسحبت او تسللت الى حيث يسهر الصبيان والصبيات  والاطفال فقد سهرنا في سطح المشتمل الذي تمتلكة  شقيقتي الكبرى بدرية  بينا سهر الكبار في سطح بيت  الزرقاء كنا نلعب محيبس  وختيلة الختيلة  ومرداد! احيانا نغني فأكثرنا واقع تحت التأثير المبكر للمراهقة! ولكن تصرفاتنا كانت على شيء من السذاجة! نمنا دون ان ندري  دون غطاء ووسائد لكن الزرقاء وام عبد الأمير وام حمزة دخلوا السطح  الصغير ووسدونا ووضعوا علينا الأغطية فالدنيا تبرد في أواخر الليل رغم اننا في فصل الصيف! ولم يدر بخلد الزرقاء ولا ضيوفها ان الصبيان والصبيات  حين يسهرون  مع بعضهم الى ساعة متأخرة من الليل ولوحدهم يمكن ان يصنعوا شيئا يخدش الحياء! ففي الخمسينات ومن قبل الاربعينات كانت ازقة النجف والكوفة تغص بألعاب مشتركة بين الأطفال  والصبيان ذكورا وإناثا! وشيء من هذه الألعاب لعبة العروسة حيث يزف الأطفال طفلة الى طفل وكنت ارغب بدور العريس كثيرا!! وفي قصيدة شموع الخضر في ديواني الأول عودة الطيور المهاجرة المهداة الى رفيق عمري شقيقي محمد الصائغ ( ابو نورا ) ذكرت اسماء بعض البنات اللواتي كن يلعبن معنا في الازقة او السطوح او السراديب  ايام اليفاعة والطفولة  مثل غزوة  وسميرة  وفليحة  وغنية !! ضيوفنا مشدودين الى البيانات والى نشرات الأخبار! وقد علموا ان الباشا نوري السعيد هرب الى جهة مجهولة والبيانات تطالب الجماهير بالبحث عنه وتسليمه للعدالة حيا او ميتا! كما ان البيانات ذكرت موت العائلة المالكة بطريق الخطأ ( كذا ) ثمة ايام حبالى بكل شيء فالقوات العسكرية البريطانية تمترست في الاردن  واسرائيل  ولبنان! وعبد الناصر يقطع زيارته لاحد بلدان الاقاصي لا اتذكر ربما موسكو!!  ويمر على سماء العراق مرسلا برقية الى عبد الكريم قاسم  وعبد السلام عارف من اجل ان يؤجج جاذبيته في صفوف الجماهير الغريرة! ثم يصرح ان اي اعتداء على العراق هو اعتداء على الجمهورية العربية المتحدة! واظن ان تهديدات عبد الناصر للدول العظمى كانت على سبيل الاستهلاك المحلي او الأقليمي!! ويغلب علي الظن الآن ان الدول العظمى كانت تعد تهديدات ناصر لها من قبيل النكتة  او الفذلكة! وقد زارنا هذا الصباح كل من السيد ناجي السيد مجبل الشريفي وعبد الوهاب البكاء وصاحب الرماحي وباقر الحسني  والشيخ كاظم العادلي وزكي سعيد فضل  والسيد علي الياسري  والسيد علي القصير والسيد جاسم حكومة وعلي  كَناوي العريض واخوه الكبير عبد كَناوي العريض  صاحب مكتبة الأمل قرب حمزة زيارة الأوتجي المقابل لشارع الجبل المقارب لمقهى ابو البسامير! بينا ذهب ضيوفنا الحليون لزيارة العتبات المقدسة في الكوفة من مثل مسجد السهلة  وسرداب صاحب الزمان  ثم مسجد الكوفة  ومقامات الانبياء فيه ومنبر الامام علي بن ابي طالب  ومكان اغتياله على يد ربيبه عبد الرحمن بن ملجم المرادي  فمنخفض التنور الذي فاض ايام نوح فكان الطوفان! واخيرا ضريح الامام مسلم بن عقيل وهاني بن عروة والمختار الثقفي ولن تكتمل الطقوس بسوى زيارة بيت الامام علي بغرفه الصغيرة وبئره التي كانت تسقى الامام وعائلته  وزيارة قبر ميثم التمارصاحب علي بن ابي طالب ! لبثنا معا لتناول الريوكَـ فكان الفرح سيماء اللقاء بيننا لكن المفارقة جاءت من الشيخ كاظم العادلي والد صديقي محمد  فقد كان يستشيط غضبا وحين سأله زكي سعيد فضل : هل انت حزين لسقوط العهد الملكي ؟ اجاب على الفور بلسان الواثق من نفسه الذي يعرف كل شيء : لا يا استاذ لكنني حزين لأن العراقيين صدقوا ان 14 تموز ثورة! لا ياسيدي كل ما في الأمر ان امريكا اشترت العراق من بريطانيا وما حصل هو استبدال عملاء بريطانيين نوري سعيد والوصي بعملاء امريكيين قاسم وسلام! فضج اصدقائي وكادوا ان يضربوه لولا انهم شاهدوا الشيخ العادلي يضع على حزامه مسدسا كَولد ستار ! والشيخ العادلي قاريء حسيني  يضع العقال على راسه بدلا من العمة  ولكنه رجل مهاب وسياسي مخضرم! استأذن ابو محمد وخرج من البيت تشيعه نظرات اصدقائي! الذين اعتدوا كلام الشيخ فألا سيئا! وان هي الا نصف ساعة حتى خرج وفد الاصدقاء  فبقيت مع االزرقاء وجلوة  وبدرية وحياة وعبد الامير ومحمد وجها لوجه فأخذنا بأطراف الأحاديث عن مستقبلي الدراسي وكنت طالبا في السنة الثالثة بمتوسطة الخورنق التي يديرها ابن النجف المهذب عبد الرزاق رجيب! كان رأي اخي الكبير عبد الأمير ( الذي يرى انني متخلف عقليا وان من المستحيل على عبد الاله اكمال الأعدادية )  هو ان اشتغل جابيا في سيارات ألأجرة التابعة لمصلحة نقل الركاب كي اسهم معه وهو المضمد في تدبير معيشة البيت! فنهرته الزرقاء وقالت اسكت عبد الامير اسكت وليدي عبد الأله لن يكون جابي في المصلحة لأن السيد علي قال ان ابني  عبد الاله سيكون له شأن كبير! وان الساحرة المغربية  قالت اكثر مما قاله ابوك! اريده دكتورا لكي اكون ام الدكتور! وهكذا بدأ الشجار غير المتكافيء بين الزرقاء التي ترى ان هذا الحديث سابق لأوانه واخي الكبير الذي يمتلك قدرة على الصراخ تشل المقابل بينما انا تسللت الى مقهى السيد علي الياسري فهي من اكبر المجسات التي تعرف من خلالها نبض الشارع العراقي! وصلت المقهى على دراجتي الهوائية فوجدتها خالية علي غير عهدي بها ففسر لي جاسم حكومة سبب خلو المقهى من روادها! الجميع هرع بالمسدسات والسكاكين حين سمعوا اشاعة مؤداها ان نوري السعيد يختبي في واحدة من غرف القصر الملكي! ولسوف يقبضون على الباشا  نوري البغدادي آل إسْعَيِّد ويسلمونه الى ممثلي الثورة في النجف!  .............

البقية في الفصل السادس

بروفسور عبد الاله الصائغ

مشيغن المحروسة   يوم الأربعاء 25 مايس 2005

 

رسالة من صديق العمر الأستاذ أمير السيد جواد الحلو

عزيزي الاخ الحبيب د.عبد الاله الصائغ المحترم

اشواق بدون حدود

احسدك على ذاكرتك واسلوبك الرشيق في كتابة عودة الطيور المهاجرة، فقد وصلتني الحلقة الرابعة واعادتني الى ذكريات النجف وشخصياتها الفلكلورية الاسطورية مثل مانينة ابو العرك الذي كان يضع ربع بطل في جهة من بطنه ونصف بطل في الجهة الاخرى تحت دشداشته ويجلس في مقهى (عبد ننا) على باب الله!

ترى هل كتبت عن ذكرياتك في داركم القريبة منا في شارع المدينة والقريبة من دار مديرنا عبد الرزاق رجيب؟

اذكر ان فتاة (عورة) كانت في تلك الدار تصعد عند المغرب في الصيف لتفرش السطح وتضع شربة الماء على (التشريفة) ولابأس من ان تتطلع الى ما حولها من الجيران..

قد افكر بتقليدك فلدي ذكريات تستحق الكتابة ولكن ينقصني اسلوبك الرائع،ولكن لعل وعسى  انني انتظر مذكرات صائغ الكلمات والذكريات الحلوة ابن الصايغ بانتظار الحلقة الخامسة من مذكراتك 

تحيات الجميع لك ولعائلتك الكريمة رغم الانفجارات والموت اليومي والقلق المشروع والظلام بكل صوره.

11/ 5 / 2005

امير الحلو

               

 

 

 

 

Google


    في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
  info@bentalrafedain.com