القوى العلمانية وصياغة الدستور .!

هادي فريد التكريتي

hadifarid@maktob.com

 

ساهم قانون إدارة الدولة، الذي أعدته إدارة الاحتلال ووافق عليه مجلس الحكم السابق ، على تجاهل وجود حركة سياسية عراقية متجذرة في المجتمع العراقي منذ بدايات الحكم الوطني ، متمثلة بأحزابها الوطنية ذات النهج العلماني والبرامج الوطنية ، الخالية من الطروحات الطائفية ،. فإدارة الاحتلال تجاوزت هذا الواقع لتعارضه مع نهجها ومصالحها الحيوية ، ولن يحقق لها الغرض الذي ترمي إليه غير نص ُيُُشرع ، في هذا القانون ، يكرس الطائفية الدينية ، المفرقة لتلاوين المجتمع العراقي ، وهو ما يهدف ويؤسس لفرقة وتناحر طائفي ـ عرقي بعيد المدى ، ويفجر قنابل موقوتة بين مكونات الشعب العراقي ، وهذا ما شرعت له إدارة الاحتلال ، وبذلك خلقت الظروف الموضوعية لقيام حكم طائفي في البلاد ..وقد ُكرس هذا النهج في تشكيل الجمعية الوطنية وأدخل في قوام تشكيل الحكومة ، فقد تم اعتماد المحاصصة الطائفية كما شرعها قانون إدارة الدولة ، وقد تحقق ما أراد له أن يكون نهجا لاحقا في كل مؤسسات الدولة والتشكيلات الحكومية القادمة ، فإن استمر هذا النهج وانعكس في نصوص الدستور الجديد فسيخلق وضعا غير مستقر في المجتمع العراقي ، وسيؤسس لواقع تناحري بين الطوائف العراقية وتجزأة للوطن الواحد ...، من هنا تبرز مسؤولية القوى الوطنية الليبرالية ، والديموقراطية والقومية ، واليسارية والشيوعية وكل العلمانيين والغيارى على وحدة ومستقبل العراق ، في تجاوز كل خلافاتهم ، والدخول في حوار وطني مفتوح بين كل القوى التي ترى في النهج الطائفي دمارا للمجتمع والعودة به إلى ما قبل الحكم الوطني ..التجربة العراقية غنية بهذا الشأن ، فعندما انفرط عقد التحالف بين أطراف جبهة الاتحاد الوطني تم الاجهاز على ثورة 14 تموز التحررية , ولم يكن الخاسر هو التيار الوطني الديمقراطي أو الشيوعي أو اليساري ، بل الشعب العراقي بكل مكوناته دفع ثمنا غاليا في 8 شباط 1963، وعندما تشضت قوى اليسارالوطني والشيوعي نتيجة لخلافاتها الفكرية والتنظيمية منذ العام 1964عاد البعث مجددا في العام 1968 للسلطة ، ومارس أساليب جديدة ومستحدثة في تمزيق الحركة الشيوعية واليسارية وعموم القوى الديموقراطية ، لينفرد بالحكم وفق نهج جديد وخادع ، حيث انطلت أساليبه الديماكوكية على جبهة اليسار كله وبكل تلاوينه ، ومنذ ذلك الوقت وحتى اللحظة دفعنا ولا زلنا ندفع ثمنا باهظا نتيجة لهذه الأخطاء ..من الضروري إسقاط كل التجارب التي مرت بها الحركة الوطنية والديموقراطية العراقية على واقعنا المعاش حاليا ، فتشرذم التيار الديموقراطي واليساري الشيوعي ، قاد بالأمس إلى هزيمة مخجلة في الانتخابات الأخيرة ، وإن بقي الحال على ما هو عليه ، وتم تشريع الدستور وفق منظور إسلاموي ـ طائفي فالهزيمة ستؤسس ليس على غياب التيار الديموقراطي عامة ،واليسار الشيوعي ، خاصة ، من الساحة العراقية ، بل الهزيمة ستلحق بالتيار العلماني بكل أطيافه ولسنين طويلة ، ولن يكن بمقدور أيا كان التنبؤ بالنتائج المدمرة التي ستلحق بالمجتمع ، ولنا في إيران الإسلامية قدوة بما حصل .. لذا فالحوار المطلوب بين كل التيارات العراقية المناهضة للطائفية بغض النظر عن برامجها السياسية ، ليس فقط توحيد أو تقارب رؤاها من أجل تشكيل قائمة انتخابية واحدة بل وأيضا من أجل التصدي لصياغة دستور وفق الشروط التي يتنادى لها التيار الطائفي وتتناغم منطلقاته ، والذي سيحدد مسار ومستقبل كل القوى العلمانية ، على مختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية في الوطن ..
يطرح التيار الاسلاموي ـ الطائفي مسارا محددا لتشريع الدستور ، أولا : احترام الهوية الإسلامية للشعب العراقي ( احترامها من قبل من ؟).ثانيا :أن يكون دين الدولة الرسمي هو الإسلام .ثالثا:الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع .رابعا:ألا يسن قانون مخالف للثوابت الإسلامية..مع احترام الأقليات الدينية والقومية والمذهبية (.كيف ستحترم هذه الأقليات ؟) إن هذه الشروط تجرد العراق وشعبه من كل ثقافته ومعرفته العلمية ، على مر العصور ، وتقتل كل فكر حر فيه ، وتحجم كل مواهبه ، كما أنها تؤجج من التناحر والصراع الطائفي في المجتمع العراقي ذي الطوائف المتعددة ..فما تقدم من شروط لصياغة الدستور ، النتيجة المنطقية لها ، تحديد نهج صارم لا يحيد عما هو عليه الوضع في إيران ، الترتيب لحكم طائفي ، بولاية فقيه أو دونها ، لا فرق ، وإن كان الناطقون باسم هذا التيار يحجمون عن الإفصاح علانية عما في ضمائرهم وما يضمرون ، تقية ، فالرغبة \" المؤجلة \" هي في إعلان حكم طائفي ، إلا أنهم يدركون أن الظرف وتوازن القوى غير مواتية في الظرف الحالي، كما أن المجتمع العراقي غير ميال بطبعه إلى زج الدين في متاهات السياسة ليغوص في ساحاتها لتنزع عنه قدسية الإيمان ، وتجرده من القيم الإلهية العليا التي لا تلتزم بها المبادئ السياسية ..وعلى الرغم من وضوح التعارض بين النهج الديني ـ الطائفي والمبادئ الديموقراطية التي تنص على المساواة في الحقوق والواجبات ، بين الرجل والمرأة ، وبين منتسبي الأديان والطوائف الأخرى أمام القانون ، إلا أن دعاة زج الدين بالسياسة يناورون ، لبعض الوقت ، في قبول هذه المبادئ المخالفة للتشريعات الطائفية الموسومة بالإسلامية ، حيث يمكن تعديلها في وقت لاحق وفق نهجهم ، وحادثة القرار 137 لا زالت طرية في الأذهان.. إن الأحزاب التي تنحو نحو تطبيق حكم إسلامي ـ طائفي ، يؤدي في النهاية إلى إلغاء أي مظهر من المظاهر المدنية ، فالتعددية تفهم من قبلهم على أساس طائفي وليس على أساس فكري وسياسي ، لذلك قد أوجدوا شرطا ، جزائيا ، وهو ألا ُيسن قانون مخالف للثوابت الإسلامية ، والثوابت الإسلامية كثيرة ومتنوعة ،لا يمكن حصرها ، فحرية تشكيل الأحزاب السياسية العلمانية ، وحرية النقد للإمام الحاكم والحرية الشخصية ، وحرية النوادي والجمعيات غير الإسلامية ودور السينما والمسارح ، وحتى التنزه في الهواء الطلق والفضاء العراقي ، كما هو حال طلبة جامعة البصرة ، وغيرها ، كلها مخالفة للثوبت الإسلامية..مثل هذا الشرط يذكرني بقانون العقوبات البغدادي لحكومة العهد الملكي ـ السعيدي ، فبموجب المادة 89 آ يحكم بها على كل متهم يلقى القبض عليه بتهمة مخالفة للقانون ، على اختلاف مشاربهم ، السكران ولاعب القمار والمشاغب والمتشرد والشيوعي والمؤمن ، فهل سيكون حالنا هكذا بموجب القوانين الغير مخالفة للثوابت الإسلامية ، في حكم إسلامي ؟ إن الأمر لا يتوقف على رغبة من يريد أن يفرض حكما إسلاميا يعيدنا إلى عصور متخلفة ، بل يتوقف الأمر على قدرة كل مناضلي المجتمع المدني الواعدين للعراق بغد المؤسسات الديموقراطية ، وعلى المرأة ، التي يراد لها أن تكون حاضنة تفقيس ومنعها من ممارسة حقها في أنشطة الحياة المختلفة , وإكراهها لدخول عهد الحريم من جديد بموجب القرار 137 السيئ الصيت ، الذي شرعه أنصار الحكم الطائفي ، عليها أن تقاتل بكل ما تملك من قدرة لنيل حقوقها وفق متطلبات العصر، ولأن تشغل مكانتها الندية للرجل ، وعلى القوى السياسية من ديموقراطيين وليبراليين ويساريين وشيوعيين النضال موحدين ، أو كل من موقعه ، من أجل إقرار حرية الفكر والعقيدة لكل أفراد المجتمع ، نساء ورجالا على حد سواء ، وإبعاد الدين وهلامية أحكامه من التدخل في اختيار المجتمع لنظام الحكم الموسوم بالديموقراطية والتعددية والفدرالية ، فتحقيق المبادئ والأفكار التي يناضل من أجلها السياسيون ، بكل أطيافهم ، ستصبح في خبر كان ، إن ترسخت في الدستور الجديد مفاهيم الدين الطائفي كأساس لنظام حكم سيحتكر السلطة ، كما سيحتكر تنظيم حياة المجتمع وفق منظوره المتخلف عن الحياة في عصرنا الراهن ، وسيتجدد حلمنا بالحرية والديموقراطية ، إن لم يقطع رؤسنا الحالمة سيف الجلاد.. !
من العبث في الظرف الراهن ، وعلى ضوء المعطيات الواقعية لحياة الناس وافتقاد أبسط احتياجات الإنسان نتيجة للوضع الأمني والاقتصادي وتواجد القوات الأجنبية ، التشبث بتنفيذ برامج وأهداف الأحزاب والقوى والحركات السياسية العلمانية والديمقراطية واليسارية ، وفق ما هو مرسوم ومخطط لها من قبل ، فربما يعتقد الكثيرون ، مثلي ، أن الظرف الراهن يتطلب عملا موحدا من الجميع ، بين جماهير الناس ، وفق خطة طوارئ تتبنى القواسم الوطنية المشتركة ، لتشكيل الجبهة العلمانية ، لممارسة ضغوط علمانية على لجنة إعداد الدستور ، لصياغة دستور تِحترم مواده هوية المواطنة العراقية ، لكل عراقية وعراقي ، كما يحافظ على الوحدة العراقية ، أرضا وشعبا ، ضمن تلاوين النسيج الاجتماعي ، وإقرار المبادئ الأساسية التي نص عليها قانون إدارة الدولة ، فيما يخص شكل الحكم والحريات العامة والخاصة لكل مقومات الشعب العراقي ..فإقرار الدستور وفق منظور علماني وطني وتقدمي هي الخطوة الأولى التي يتعين أن يخطوها تحالف القوى العلمانية بكل مفرداتها ، تتلوها الخطوة اللاحقة لدخول الإنتخابات في قائمة موحدة لكل القوى الديموقراطية ، من علمانيين وليبراليين ويساريين وشيوعيين ، فبقدر اتفاقهم أو اختلافهم ، سيتحدد مصير نجاح أو فشل مشاركتهم في رسم ملامح العراق الجديد ، ولن يغفر العراقيون خطأ لمن يفضل مصلحته الضيقة على مصلحة الوطن العليا ، ولن يجدي نفعا بعدئذ نقدا للخطأ أو اعترافا به ...

 


 

     

 

 

 

Google


    في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
  info@bentalrafedain.com