مجالس المحافظات .. واجتثاث البعث

المهندس صارم الفيلي

 sarimrs@hotmail.com

sarimrs@tele2.com

 

مراجعة سريعة لبدايات حزب البعث في العراق، عند قيامه بنشر ادبياته، نجد افتقاره حينها لآيديولوجية فلسفية وعدم وجود فكر سياسي واضح المعالم، ليستمر على ذلك النقص لحد سقوط صنم النظام . بينما نجد في نفس تلك الفترة، واعني نهاية الخمسينيات، وجود اتجاهين يمتلكان ايديولوجيتين فلسفييتين عميقتين وان اختلفتا في المضمون، واعني الحزب الشيوعي بماديته الديالكتية المتضمنة لنظرية معرفة تنطلق منها وتنتهي اليها كما ظهر الأتجاه الأسلامي السياسي كضرورة استدعتها المخاضات الفكرية والتجاذبات الحادة في الرؤى التي كادت ان تشكل خطرا على هوية مجتمع عاش بثقافة وقيم ظلت راسخة في ضمير الأمة لقرون لبعدها الروحي الذي شكل الهوية الثقافية والوعي الجمعي للجماهير.

في وسط هذه الخارطة الفكرية والسياسية وجد البعث نفسه هجينا، فهو يدعي الأشتراكية ويضمر عداءا متطرفا للشيوعية، ويدعي العلمانية في نفس الوقت يحمل جذرا طائفيا وشوفينيا بل ومناطقيا ايضا . لابل يحاول استعارة خطابات ذات مضمون ديني، امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، اي رسالة هذه، هل يقصد الأسلام ؟، وما شأن "علماني " كميشيل عفلق بالأسلام، ليقول ان كل ماتحقق كان قد تنبأنا به وكأننا في صومعة إإ . ان هذا التخبط الواضح في دائرة هوية اللا هوية فضلا عن تخبطه بتقديم رؤية ثابته للبعد الشخصي والمعرفي للفرد الراغب في الأنتماء اليه، سيقود هذا الحزب الى محاربة كل ما له صلة بالتفكير والعلم والنقاش أو الجدال، ليؤسس نفسه على منطق العنف والمؤامرة، ويعتمد على أفراد بمؤهلات ليس منها العلم والثقافة، منبوذين وابناء شوارع وفي احسن الأحوال انصاف متعلمين، ليلبي صدام بجداره هذه الشروط، لحصوله على كامل درجات الشذوذ والشراسة والأجرام تأهله لرآسة " الحزب" ودولته البوليسية المرعبة، صدام يكره التدقيق، يعتبر التفكير تأويلا، يتوقف عند المعنى السطحي مسفها لأية محاولة بأتجاه التعمق به، حيث يتطلب ذلك استعانة باهل الخبرة والعلماء، وبتعبير آخر خروج الأمر من بين يديه . أنه تنظيم مليشياتي اكثر من ما هو حزب، لايفهم الا لغة العنف، لايمكن الحوار معه مطلقا، فهو لايعترف بالمنافس السياسي أو الند السياسي أو المخالف السياسي أو المعارض السياسي، بل كلهم اعداء وخونه " اللي مو ويانه ضدنا " تجب تصفيتهم بلا محاكمات قانونية .

ان اي اختلاف فكري أو سياسي مع هذا الحزب يرتقي بخطورته الى حد محاولة قلبه بالقوة، كأنقلاب عسكري ضده، لماذا ؟ لانه لايمتلك من المرتكزات الفكرية والسياسية كي يدافع بها عن مقارباته العشوائية على جميع الأصعدة أو يسوق بها اعماله الشاذة، فأمام هذا الخواء الواضح والفاضح كانت التصفيات الجسدية للمفكرين المخالفين لهذا المنهج المشوه، تجد تبريرها ومسوغها عندهم، فهي كانت ترتقي بأهميتها لتصل لمستوى حفظ النفس والموقع .

أمام هذا التشوه في البنى الأخلاقية الضرورية لقيام الأحزاب والتنظيمات، ونظرا لتاريخهم الغارق في ممارسة الجريمة " التي اصبحت لفظة البعث احدى مرادفاتها " لثلاثة عقود وأكثر، وهم في السلطة أو خارجها، ليكونوا أول تنظيم في البلاد العربية يما رس الأرهاب وتصفيات الخصوم كمنهج ثابت للوصول الى السلطة، لايمكن الحديث عن تأهيله كي يشارك في العملية السياسية فقد عاد لأسلوبه السابق بكل همجية ووحشية، إلى استخدام كل أنواع الجريمة، و وسائل القتل البشعة و المرعبة ، في قتل وابادة العراقيين الأبرياء ، و تلك التي لا توجد ، حتى في مخيلة أرعب الشياطين ، و ذلك بهدف الثأر ، و الانتقام من أي عراقي كان ، الذي يقوده حظه العاثر ، بالصدفة ليكون في مسرح جريمة الأبادة، ليصل الى تفخيخ كل شئ، وفرض شرعية الأرهاب كطريق للأبتزاز السياسي ومحاولة لألتهام السلطة من جديد، كل السلطة، لا عن طريق المشاركة السياسية في الأنتخابات، بل بواسطة احياء منهجهم القديم، ذلك الذي لازمهم من بداية تاريخهم كلعنة أبدية . كأني بهم مصاديق لأي شاذ، صعلوك ومجرم سرق شيئا ثم استرجع منه، فبدل ان يعتذر للمجتمع ويتوارى عن الأنظار خجلا، نجده يستميت لأرجاع ما هو ليس حقه، باتبعاع اساليب اخرى، أكثر خبثا ودناءة وخسة، مسوغا كل افعاله تلك بأنها بطولة ومقاومة وشرف . متسترا بسواترطائفية هذه المرة، حماية مصالح المثلث المبشر بالجنة من التهميش، ليجاهد " المجاهدون " لألغاء اجتثاث البعث، هذا القانون " الجريمة " كما يقول سفيرهم في بلاد الوهابية مثنى الضاري، نعم انها جريمة ان تشتث ابطال المقابر الجماعية والتهجيرات، طبعا جريمة ان نشتث ابطال الأرهاب والقمع الدموي وانتهاك الأعراض ونهب الأموال وخرق سائر المحرمات .

 في مناسبة سابقة تحدثنا عن الأرادات السلبية الداخلية والخارجية التي تعيق عملية التحول في العراق، وبضمنها تعيق ايضا اجتثاث "الفكر" الممهد للجريمة، تلك الأرادات وخاصة الخارجية منها تسبب ضغوطا كبيرة على الحكومة المنتخبة لدفعها الى التساهل في موضوع البعث، مستخدمة لأسلحة اطفاء الديون، والمساعدات المالية والأنمائية، وهي تتجاوز بمفعولها لعوامل الردع النووي، نظرا لحاجة شعب العراق لها كشرط اساسي لعبور هذا النفق المظلم . هذا لايعني بالطبع رضوخ الحكومة لتك المطالب، كما لا يعني في الوقت نفسه سهولة وقوفها لوحدها أما هذه الرغبة، بل ربما المطلب االأمريكي - الأوربي المدعوم، أو المرسوم مسبقا, من معظم الأنظمة العربية الطائفية .

 عامل القوة لدى الحكومة المنتخبة هو الشعب بأغلبيته، وهنا لا أقصد اغلبية عددية مجردة من تنظيم يجعل من حركتها تأخذ نسقا متصاعدا لتماثل اتجاهها، بل هنا موضوع توظيف ذاتي متوائم مع قراءة لمعالم السياسة الأمريكية في العراق لتوظيف، حركة الجماهير, بأتجاه تحفيز أشد وديمومة اطول للفعل السياسي .

 هناك عنوان أبرز لسياستهم في العراق، هو تفهمهم أو قبولهم لمطالب العراقيين أذا وجدوا اجماعا عليها . أعطي مثالين هنا على ذلك، الأول، رجوعهم عن التخطيط المسبق بقيام وزارات عراقية على رأسها مسؤولين امريكيين بينما يعمل

عراقيون " كانوا قد تدربوا لمدة قصيرة في امريكا وحسب تخصصاتهم كي يجلبوا لاحقا الى العراق لهذا الغرض " كمستشارين فقط .

وقفت ضد هذا المشروع بقوة القوى السياسية التاريخية المعروفة بجهادها النظام البائد وكان لشهيد المحراب دورا رئيسيا في تعبئة الفعاليات العراقية المختلفة للعمل في ايجاد صيغة أخرى يستطيع عبرها العراقيون من أدارة شؤونهم بأنفسهم وبأقصى سقف تسمح به ظروف المرحلة ومما ساعد على ذلك العلاقة التاريخية بين الشهيد والحزبين الكرديين الرئيسين في سنين مقارعة صدام وحظورة الشخصي والعائلي الكبيرين في الساحة الشيعية وعلاقته الحيوية بالمرجعية الدينية وبقبة الأحزاب الأسلامية والعلمانية لما كان يتمتع به من افق يتسع للجميع وحضور كارزمي مدعم بثقافة سياسية كان قد اكتسبها في عشرات من سنين عمره ومن مصاحبته للشهيد الصدر واشرافه فيما بعدعلى تشكيل مؤسسات وقفت بقوة بوجه صدام ومشروع البعث الشوفيني الطائفي . وساعد على ذلك عدم وجود بعثيين في المشهد السياسي حينها، فقد كانوا مختفين

ومتوارين عن الأنظار خوفا من انتقام محتمل من قبل الشعب، كما كانت هيئة الضاري غير موجودة، لحسن الحظ، فهي تشكلت لاحقا،لتثمر جهود العراقيين المخلصين عن قيام مجلس الحكم ثم الوزارات التابعة له وكان ذلك انجازا كبيرا عند النظر له من خلال تاريخيته فهو متقدم بخطوات كبيره عن ماكان يخطط له جانب الأحتلال .

والمثال الثاني ابطال المشروع الأميركي بأستدعاء قوات تركية الى مناطق المثلث السني محل القوات الأمريكية التي تعرضت لخسائر ملحوظة حينها، عندما وقف الكورد ضده واعتبروه خطا أحمرا مستفيدين من دعم شيعي كامل في مجلس الحكم قائم على أعتبارات مبدئية وكذلك وفاءا لتاريخهم المشترك في مقارعة الدكتاتورية، والجدير بالذكر موافقة هيئة الضاري ايضا، لكن لأسباب اخرى، أبرزها كما ذكر حينها هو تجنب اراقة الدم السني - السني المحتمل .

 السؤال، هل يوجد اجماع شعبي متماثل في هذه اللحظة لموضوع تفعيل اجتثاث البعث كي ترضخ أمريكا أو تقبل على مضض به ؟

 الجواب، لا، و، نعم إإإ

لا، بالنسبة لمعظم السنة العرب، من الذين يسمعون " بضم الياء" بأنهم ممثلين لهذه الطائفة، فهم يرفضون اجتثاث البعث، بل يعتبروه جريمة، كما قال الضاري، حيث تستر جميعهم بستار الطائفية المعروفة، وانا اشير الى هوى لهم قديم في تبني الطروحات القومية والبعثية، فالتسنن عندهم من لوازم العروبة . فتجد التكارتة والعوجيين والعارفيين يدورون داخل دائرة القومية بمرحلتها النتنة، الشوفينية .

 كذلك يمكن ان لا نجد تحمسا لألغاء البعث عند ابن السليمانية، ولنقل الأمر ليست في مقدمة أولوياته السياسية والوجودية ليس لأنهم لم يتعرضوا لمجازر صدام، بل العكس هو الصحيح، لكن لعدم قدرة المجرمين مثلا على ارسال الموت المفخخ الى هذه المدينة الآمنة . أما الشيعي في بغداد، ولنقل المواطن غير المتضرر من سقوط صدام، يعتبر عراق بدون بعث هو عراق صالح للعيش، وبالتالي أجتثاث هذا " الفكر " الأجرامي هو الشرط الوحيد للتخلص من مشاهد يومية لتناثر أشلاء الجثث وسط برك من الدماء . فهذا الأمر يتقدم على الأولويات الضرورية الأخرى له، وهذه أولوية جميع الشيعة أذا أرادوا وضع حد لتهميشهم التاريخي، بل يجب ان يكون ستراتيجيا، وحسب نظري، ضرورة كردستانية ايضا، فلا فدرالية بدون ديمقرطية في المركز، ولا ديمقراطية بوجود البعث، حامل شعار الحزب الأوحد والقائد الضرورة .

 أذا كان الموضوع بهذا التوصيف، من المفيد جدا ان تبدأ المحافظات الشيعية عن طريق مجالسها المنتخبة بسن قوانين عملية تفعل من أجتثاث البعث وتطبق فقط في المحافظة المعنية . ان اجراءا كهذا ممكن ان يشبه بحيله شرعية، تعضد من اصرار الحكومة المركزية المنتخبة وهي تجاهد في أبعاد البعث، كما تبتعد من الضغظ الأمريكي المباشر بحجة حماية مصالح " فئات مهمشة " أو مغازلة الأرهاب البعثي السلفي بتقديم تنازلات سياسية لهم . كل هذه الأسباب غير موجودة في الواقع العملي لمحافظة النجف كمثال، حيث لاأرهاب كي يساوم أو يكافأ, ولا سنية أو قل سلفية ربطت مصالحها بل أوقفتها على وجود البعث المجرم . ومن هنا يكون لامنطقيا تدخل الأرادات الخارجية وفي مقدمتها أمريكا في شؤون خاصة بأهالي محافظات وافقوا بالأجماع لسن قانون ما يجدون فيه ضمانه وجودية لهم ولأجيالهم القادمة . كما تبعد هذه الأجراءات الحرج عن الحكومة، وهي في وسط جهات مختلفة تربط هذا الأمر أو ذاك بدرجة أو أخرى بموضوع المساعدات المالية والأنمائية للعراق . وبأستمرار المحافظات الشيعية الأخرى وتدافعها في منافسة شريفة لأزالة حزب كان يتلذذ في انتهاك الأعراض وسائر المحرمات الأخرى . عندها يكون زخم الأجراء مدويا وأمرا واقعا شديد الوضوح لتقدم بغداد كمحافظة لا كحكومة، بسن نفس القانون وهو سهل عمليا لسيطرة التنظيمات الأسلامية المناهظة للبعثية على مجلسها المحلي .

عندها يصبح البعث غريبا، منبوذا، مطاردا في العراق التاريخي، كما كان في بدء نشوئه، وتصبح تهمة البعثية حينها تهمة مخلة بالشرف ومذكرة بمآسي لم نجد مثيلا لها في تاريخ البشرية .

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com