على من اللوم في انطفاء نار الوعود البارقة؟

 

احمد عبد العال الصكبان

 

خاض الائتلاف العراقي الانتخابات الأخيرة بالبلاد تحت شعار "الأمن والسلام والدستور والاستقلال والديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل والإعمار"، والحقيقة أن من يقرأ كل هذه الشعارات قد يظن أنها عناوين لمعارف إنسانية وعلوم تدرس في محفل دراسي، وهي أقرب لما يطلقون عليه القيم الكبرى في الفلسفة (الحق - الخير -الجمال)، لكن لا علينا فما لا يدرك كله لا يترك كله، وإن كنت لا أخفي شعوري ببعض التعاطف مع هذه القائمة التي أبى أهلها إلا إثقال عواهلهم بالوعود الضخمة لدرجة أن صدقوا من منطلق الحماس في توزيع هذه الوعود أنهم محققوها لا محالة..

 ووفقا لمباديء النظم السياسية باختلاف أنواعها(رئاسية -برلمانية، جمهورية- ملكية،.......إلخ) فإن هذه العناوين تعتبر بمثابة عقود بين المرشح وناخبه، عليه الالتزام بها تفصيلا عندما يفوز هذا الحزب المرشح بنسبة ما في مقاعد الجمعية النيابية تسمح له بالتأثير في صنع السياسة العامة للبلاد وتشريعاتها،و تقديمه برنامج أكثر تفصيلاً وعملية منبثق مما وعد به مرشحيه، ثم يؤدي على هذين الأساسين عمله، فإن وفق فإن الناخب يعاود النظر في أداء هذا الحزب ويبحث عن مطالب أخرى يضعها أمام الحزب لينفذها معتمدا على ثقة تولدت من سابقة تنفيذ هذا الحزب لوعود سابقة،و إن أخلف فإن الناخب الرشيد الواعي كالمؤمن تماماً "لا يلدغ من جحر مرتين".

و هكذا فإننا في العراق الآن مطالبون صراحةً بإعادة النظر في أداء الحكومة العراقية الحالية وفق ما وعدت به من أحلام - معذرة وعود - أثناء الحملة الانتخابية وما لجأت له من وسائل لم تكن على المستوى اللائق ومنها التمسح بالمرجعية المباركة للسيد السيستاني والارتكان لحائط المرجعية وادخاره مرجعا عندما تتعثر،ثم نقارن ما وعدت به بما قدمته من برنامج ثم تنفيذها لكليهما.

و وددنا لمنع اللبس أن نوضح مسألة الاستعانة بالمشاعر الدينية لمخاطبة العوام لدفعهم للتصويت لقائمة وصفت بأنها" مباركة من السيد"، وهو أسلوب يعود بالإنسان لعصور ولت لغير رجعة في العالم كله،و هو اتخاذ الدين غاية وما هو بذلك،فالدين من أسمى الوسائل لتبيان الطريق لحياة أفضل للبشر،الدين ما هو إلا طريق للتقرب بين العبد وبارئه، ونسأل : هل المطلوب أن يتحمل السيد السيستاني حفظه الله عقبات عدم تنفيذ الحكومة لما وعدت به( سواء أثناء الانتخابات وعند تقديم برنامجها للتصويت عليه من قبل أعضاء البرلمان) وهل علينا أن نلوم السيد إذا لم تنفذ هذه الحكومة ما وعدت به وتراجعت عنه بتبني سياسات مخالفة تماما؟ ألا يشعر أحدُ بكم الإهانة التي نوجهها لمرجعية رشيدة ساعدت في استتاب الأمن جزئيا بالبلاد وأصدرت العديد من الفتاوى لدفن مخططات الفتنة الطائفية، أليس في إقحام الشخصيات الدينية تنزيلا لهم من مكانتهم في قلوبنا وجذبا لهم بالقوة لمستنقعات السياسة التي توصف دوما بأنها لعبة قذرة، ولست أنسى تعليق ونستون تشرشل عندما زار قبر أحد الساسة، ووجد مكتوبا عليه " هنا يرقد السياسي الشريف فلان" فعقب بالقول " عجبت كيف يدفن شخصان في قبر واحد" وقائل هذا الكلام هو نفسه سياسي خبر لعقود بواطن عالم السياسة وما تدفعه للمرء من ألاعيب لا أعتقد أن السيد السيستاني حفظه الله سيكون سعيدا بالولوج لها بعدما أقحم البعض اسمه في انتخابات البلاد،لقد صار تقديم بعض النصح والنقد لحكومة البلاد من الصعوبة بمكان بل قد يوصف بأنه تجديف في الدين وصار النقد خفيفاً وحذرا، إذ كيف نلوم وننتقد قائمة السيد؟؟،هكذا يصبح التمسح باسم السيد السيستاني ليس مجرد استغلالا ولكن أيضا وسيلة لتحصين المرشحين من النقد مهما أخطأوا وتعثر أداؤهم وهي أمور واردة في عالم الساسة ونواميس الكون، فكل البشر خطاءون وليس منهم معصوم.. فهل هذا ما أرادته كتلة الائتلاف: ألا تسأل عما تفعل بحجة مباركة السيد السيستاني لها؟؟

 وإذا تركنا الوسيلة التي صعد بها الائتلاف للحصول على أعلى الأصوات (سيل الوعود وتوظيف - حتى لا نقول استغلال - اسم السيد السيستاني) فإن ما قدم من بنود في الوعود الانتخابية ببرنامج الائتلاف العراقي للأسف - مع كونه فضفاضا - لم يترجم على ارض الواقع إذ جاء برنامج الحكومة هو الآخر ليكون أكثر عمومية وربما غموضا-فكيف لم يتم مثلا الإشارة ولو على استحياء لبند خطير مثل بند 58 المنصوص عليه في قانون الدولة الانتقالي، والأخير هو القانون الذي خاض على أساسه الائتلاف الانتخابات ووصل لسدة الحكم: وطالما هناك صبغ لكل شيء بالدين فدعونا نذكر بالآية الكريمة" وتؤمنون ببعض الحديث وتكفرون ببعض "، ثم لاحقاً جاءت بعض السياسات والتصريحات لتنقض ما تم الإعلان عنه وما وُعد الناخبون به.

 زمنياً؛ يجب أن تنظر إلى تصرفات الحكومة الحالية بمعيار التوقيت الذي تصدر به والذي تتحدث عنه، لتفهم كم التخبط في الأداء والتصريحات اللا متناهية :

انظر معي إلى وعد ضخم مثل إنهاء الاحتلال - وتواجد القوات الأجنبية بالعراق : اختر ما تشاء من مسميات، ستجد أن وزيرالخارجية يطلب من مجلس الامن وبناء على تعليمات الحكومه العراقيه استمرار تواجد القوات متعدد الجنسيات بالعراق لعام كامل بالعراق أي مدة أطول من مدة بقاء الحكومة العراقية الحالية،فهل تريد حكومة السيد الجعفري تأبيد التواجد الأجنبي للعراق لما بعد مدة حكمها القانونية ؟؟

ثم ما محل التصريح الأخير من الإعراب، وهو تصريح للدكتور الجعفري في حديث مع صحيفة واشنطن بوست 23-6-2005 "تحديد موعد لرحيل القوات سيكون خطأ،نريد أن نشهد انسحاب القوات الأمريكية بأسرع وقت ممكن لأن وجود أي قوات أجنبية على أراضينا يعني أن هناك ضعفاً وأننا لا نستطيع وحدنا السيطرة على الموقف الأمني." فهل هو إقرار بضعف "فطري" للقوات العراقية التي تتدرب منذ أكثر من عامين دون جدوى ؟ أم هو مطالبة بألا تتركنا القوات الأمريكية نواجه الإرهابيين لأنهم يخافون فقط منها؟؟ أليست هذه رسالة للإرهابيين أننا لا نملك حقاً ما نواجهكم به ؟؟ الغريب أن الآنسة كوندليزا رايس - ثم تبعها الرئيس بوش- ما أن قرأت هذا للتصريح وسمعته حتى أتحفتنا بتصريح آخر أن بلادها لا تفكر الآن مطلقا في وضع جدول زمني لسحب قواتها من العراق،و أضاف بوش لنفس التصريح موجها كلامه للجعفري"لا تقلقوا لا نفكر في الانسحاب من بلادكم"!! هذه التصريحات أطلقت فور كلام الجعفري رغم أن تصريحا قبل يومين لمسئول أمريكي أنه سيجرى سحب 20ألف جندي أمريكي من العراق قبل نهاية آذار القادم.،فانظروا ماذا أحدثت مثل هذه التصريحات ؟

لقد كان هناك العديد من الاعتراضات الشعبية حتى بالمناطق التي حصلت فيها قائمة الائتلاف على أعلى الأصوات ضد قرار تمديد التواجد الأجنبي بالبلاد،راجع مثلا البيان الوطني لاتحاديات الطلبة بجامعات( بغداد والمستنصرية والكوفة والقادسية والبصرة وديالى والرمادي والموصل والجامعة التكنولوجية والجامعة الإسلامية وهيئة التعليم التقني) مطالبة حكومة بمد أمد القوات الأجنبية منوهين لأنهم "لم ننتخب ولم نقترع ونرهن دماءنا بصناديق الاقتراع إلا من أجل مسألة جوهرية تبنتها القوائم الانتخابية وطرحتها في برامجها السياسية وتتمثل في مطالبة القوات المحتلة بالانسحاب من العراق" لقد اعتصم بعض الطلبة-18- يمثلون محافظات العراق في ساحة الفردوس وسط بغداد، احتجاجاً على قرار الحكومة تمديد فترة بقاء القوات المتعددة الجنسية مطالبين "بالإيفاء بوعدها ووضع برامجها السياسية موضع التنفيذ لتحظى باحترام الشعب لها،و عدم تبني قرارات مصيرية من دون الرجوع إلى ممثلي الشعب في الجمعية الوطنية» ودعوا أيضا لـ"جدولة الانسحاب مندهشين من «تمسك الجعفري وحكومته ببقاء قوات الاحتلال فيما يطالب الكونغرس بسحبها».

هؤلاء هم الطلبة ضمير الأمة كما يطلق عليهم يفكرون بدلا عن الحكومة ويطالبون بالمعقول-جدولة الانسحاب- ويذكرون الحكومة بأن هناك برلمان من حقه مناقشة أمورا خطيرة مثل مستقبل سيادة البلاد،فمن حق كل من رهن دمه للوصول لصندوق الانتخابات إذن أن يحاسب من انتخبه على إخلافه للعهد والوعد،هذا ألف باء الديموقراطية.

تماما مثلما استنكر مجلس محافظة ميسان «العمارة» في وقت اعتقلت فيه القوات البريطانية المتواجدة ضمن القوات المتعددة الجنسيات في ميسان سبعة أشخاص وجاء في بيانهم "ذلك القرار جاء خلافا لما بشر به جميع الفرقاء في الجمعية الوطنية وما حوته برامجهم السياسية والتي تتصدرها جدولة انسحاب قوات الاحتلال، والذي على أساسه انتخبوا الجمعية الوطنية" وهذه العبارة مؤشر هام على فهم ووعي المواطن العراقي أنه مطالب بمساءلة ومراجعة أداء الحكومة لأنه هو الذي أوصلها بصوته للسلطة، ولكن يبدو أن الفائزون نسوا تلك القاعدة.

ثم تعالوا مثلا إلى الوعد الذي قطعته الحكومة بإحلال الأمن، لقد سمعنا تصريحا للسيد بيان جبر وزير الداخليه (اللهم اجعل كلامنا خفيف على مسامعه) قبل أيام يقول أن الأمن سوف يحل بعد ستة أشهر- أي أنه يتحدث عن أجل قطافه نهاية العام أي قبل الانتخابات القادمة بأيام معدودة؟ ثم هل استقدام خبراء إيرانيين للمساعدة في مكافحة الإرهاب-حسن تقارير صحفية- هو الوسيلة التي ستحل الأزمة ؟ وهل ننسى ما قامت به أجنحة في الحرس الثوري الإيراني من دعم لبعض المخربين وتدريب لقواتهم على حرب الشوارع فاستخدموا هذه الوسيلة لترويع المدنيين والمخالفين لهم ؟

ثم كيف نفسر تصريح الدكتور الجعفري للواشنطن بوست أيضا بأن"الهجمات الأمريكية العراقية الأخيرة على مواقع الإرهابيين قد حسنت الموقف الأمني بصورة حاسمة، وأن التأييد المتنامي من جانب العراقيين خلق مناخا من التعاون وأتي بمعلومات كانت مفيدة في التصدي للمقاتلين " ألم يكن واردا التصدي للإرهابيين بدون استخدام طائرات الإف 16 ؟ هل يصدق الجعفري حقاً أن تأييدا متناميا الآن بالشارع العراقي لعمليتي البرق والخنجر وغيرهما؟ إن المواطن العادي لا يتابع تفاصيل العمليات بقدر ما هو مهتم أن تؤدي لأمان حقيقي وهو ما لم يحدث بالفعل حتى الآن،فالعمليات العسكرية رغم أهميتها ليست وحدها القادرة على توفير الأمان.

 إنسانياً ؛ لم نكن نتوقع أبداً تجاهل حقوق الشهداء في برنامج حكومة الجعفري القادم من حزب ضحى بآلاف الشهداء، حرص الدكتور الجعفري على تسمية بعضهم في غير مناسبة- وأحيانا نسى أسماء شهداء الحركات والأحزاب المعارضة الأخرى مما جعل البعض يأخذ على خاطره منه - على قولة المصريين،و رغم احتواء برنامج كتلة الائتلاف على بند"الاهتمام بعوائل الشهداء والمتضررين من النظام السابق لأسباب سياسية وطائفية وقومية، وتوفير العيش الكريم لهم" فها هو برنامج الحكومة يغفل إنشاء صندوق لشئون الشهداء والمتضررين ناهيك عن إغفاله تطبيق المادة(58) من قانون إدارة الدولة العراقية، الخـاصة بالمرحلين والمهجرين وهم أيضا ضحايا للنظام السابق،هل حساسية السيد الجعفري من بعض تفاصيل هذا البند-الذي وقع عليه في فترة مجلس الحكم - يمنعه من الأخذ بأمور غير خلافية فيها مثل بند المرحلين والمصادرة بيوتهم بكركوك؟؟ ثم ها نحن نستمع لوزير المالية في الحكومة الدكتور الدكتور على عبد الامير علاوي يقول أن صرف مستحقات المتقاعدين بل ومعاشات عوائل الشهداء سيخضع لاعتبارات علمية مدروسة، بل حدث أن توقف صرف رواتب عوائل شهداء في أكثر من محافظة بدعوى أن هناك عجزا في الميزانية، فهل عوائل شهداء العراق من احزب التحالف الحكومي مشمولين بهذا القرار أم أن هناك موارد أخرى غير ما تجود به الحكومة عليهم يجعلهم لا يتضررون كثيرا من هذا للقرار ؟؟

 المزعج حقاً هو أن وزارة المالية تتحجج بالالتزامات التي سوف- انتبه جيدا لسوف هذه- تفرضها وتطلبها المؤسسات المالية والنقدية العالمية من تقييد للمصروفات الحكومية وتقليص الدعم والإنفاق الحكومي بصفة خاصة. فلم لا نجعل "البكا على راس الميت" وننتظر حتى نتفق مع صندوق النقد والبنك الدولي وغيرهما، علهم يكونوا أكثر رحمة بمستضعفي العراق من وزارة ماليتنا.

 ولنا عودة لأمور أخرى في برنامج وأداء حكومتنا العزيزة،نرى أنها نقاط تستحق التوقف مع النفس والمراجعة من قبل حكومة الدكتور الجعفري، فنقد الذات ليس بالأمر المحرم دينيا، والاستماع لرأي الشارع هو معيار للنضج السياسي، ومراجعة الخطأ هو عرف لدى الساسة الحاذقين والوطنيين، ونحسب الدكتور الجعفري منهم.

 
 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com