عودة الطيور المهاجرة .. الفصل السادس

 

بروفسور د. عبد الإله الصائغ / الولايات المتحدة

assalam94@hotmail.com

إشارة : نهاية هذا الفصل تجدون رسالة من صديقي الأستاذ امير السيد جواد الحلو تتصل بمذكراتي .

 ياالهي ما اصعب ان يقاد الشارع العراقي بعنجهية الغوغاء! لست ادري لماذا لايضع العالم حدا لسلطة الغوغاء! انهم يلغون دور المروءة والوعي ويعدون العاقل مترددا ويمقتون الحكمة ويظنون الحكيم مملا! ويَسِمون الرفيع بميسم الوضيع ويرفعون الوضيع درجات فوق اقدار الناس! هل اعدد بذاءات الغوغاء في التاريخ ؟ والتاريخ صنعته الغوغاء وكتبته الدهماء! الدهماء يكتبون التاريخ مادام الغوغاء يدفعون! ولكن ما مسوغ ثورتي على الغوغاء وانا اجلس في شقتي المشمخرة في مدينة انكستر سيتي الطابق السادس واطل من شباك الهول الكبير على ليل مشيغن الجميل! ومن ادراني انه جميل وانا اقضي نهاري وليلي وحيدا فريدا! فلا ازور احدا كما انني لا اشجع احدا على زيارتي! عموما ان كان ليل مشيغن المحروسة كما اراه من نافذة شقتي فهو ليل جميل وجميل جدا! الأضواء الملونة مهرجان وقطار السيارات الصامتة لايكل ولا يمل خلال الاربع والعشرين ساعة! لن تسمع مزمار سيارة ابدا! قد تسمع حين يشتهي ثمل يقود سيارته ان يدفع غرامة عالية للبوليس الذي لا تغمض له عين! احاول الساعة ان ارتب افكاري واسلسل ايامي فأنا واعترف مضطرب! ومضطرب جدا! فقد تأخرت كثيرا عن كتابة مذكراتي! وجل ما اخشاه ياقلبي ان تكف عن النبض قبل ان اتم غصتي واعني قصتي! جل ما اخشاه ان اجلس لذات إصرار كي اتذكر فأجدني لا اتذكرا شيئا ذا بال!! ثمة اشياء كثيرة علي ان اقولها وامسح عنها غبار السنين! ثمة ذنوب كثيرة ارتكبتها وقد آن الأوان لهتيكتها فما اقبح من يوحي للآخرين انه بلا ذنوب! وما اغبى القاريء الذي يصدق كاتبا يتحدث عن نفسه كما لو كان قديسا! ثمة اوفياء وخونة اصدقاء واقرباء ورفاق وزملاء! رسموا حياتي وغيروا بداياتي ونهاياتي!! وثنة حبيبات ورفيقات وصديقات وزميلات و وضيعات في حياتي يقفن بالطابور بانتظار ان اتحدث عنهن او يتحدثن عني سيان! كن صادقا ثم افعل ما يروق لك! يالهي ذاكرتي مازالت تحتفظ باسماء اصدقائي ورفاقي وزملائي ومعارفي ساعدني يارب كي اعري الزيف وأهين النفاق! وهل غدر بعضهم بي سوى عرض من اعراض الزيف والنفاق! لماذا تبوسني ياهذا اذا كنت تكرهني! لماذا ياهذه تدخلين غرفة نومي اذا كنت لاتطيقين لهاثي ودفئي ؟ اي عالم مجنون هذا الذي يحيط بنا! ازدرد اعمار اجدادنا ومضغ اعمار آبائنا وها انني اراه يتلمض ويسيل لعابه على صدره وهو يتهيأ لفنائنا! ولماذا لايعتبر ابناؤنا بنا ؟ يالهم من حمقى! نحن كنا احمق منهم حين لم نعتبر بالأجداد والآباء!!( مرة قلت للدكتورة وجدان وهي ابنتي كما يبدو ثم قلت لأخويها زمان ونهار انكم تعقون اباكم دون مسوغ! وهو يصارع الغربة والوحدة! وانتم بكامل عقولكم حتى انكم استكثرتم على ابيكم كلمة حلوة في عيد ميلاده الذي امضاه وحيدا نكيدا! استكثرتم عليه باقة ورد في عيد الأب! وقد تدافع الزنوج والمكسيكان والعرب والعجم لكي يحتفلوا بعيد الأب مع آبائهم! انكم يانهار ويازمان وياوجدان والله مقبلون على كارثة لا اتمناها لكم وهي قادمة لامحالة سيان كنت حيا او ميتا! هكذا تعلمنا من قراءة تاريخ العقوق والتخندق ضد الرب وأعني الأب ) الذكريات الذكريات! من كتب مذكراته للوهلة الاولى قبل جلجامش ؟ ومن ذا الذي سيكون آخر من يكتب مذكراته قبيل ميقات القيامة ؟ ولماذا يكتب اذا كان ليس ثمة من يقرأ اوراقه بعده ؟ لأي غاية نحن نكتب مذكراتنا ؟ هل المذكرات طفح وجداني أو هذيان إنساني ؟ إن كانت المذكرات غسيلا للسمعة فتعسا لها وبعدا وان كانت المذكرات تصفيات حسابية مع الآخرين الذين خربوا حياتي وجعلوني مهدما مهزوما! ان كانت كذلك فما اهونها وأهونني! واتفهها واتفهني! وابخسها وأبخسني! ثق ايها القاريء الفضولي انني لن ارمم شخصيتي امامك ولن امرغ انوف من قوضوا حلمي بالتراب! سأعترف فقط لكي اريح مروءتي التي جمدها عقلي وحجرها سمتي ثم وأدها هلعي من ان ينهتك سري وما زال في العمر بقية وللعمر محطات وللذنوب سنوات ( لبس خصر العجيج وخصر ماروج! ويروَّجني زماني كَبل ماروج! بالله لا تخبط الماي ياروج! بعد بنفوسنا لعب ويَ الأحباب )! ما اجمل فكرة الكرسي الهزاز! فكرة ان تغيب عقلك المنافق وتستحضر ضميرك المرافق! فكرة ان تعترف بأخطاء قد لاتكون اخطاءا في موازين الآخرين! عموما من السهل عليك ان تصنع للكلب ذيلا حين يطلب اليك ذلك! ولكن يستحيل عليك تماما تماما اذا جيء لك بذيل وقيل لك ركِّب عليه كلباً! أرأيت احيانا تخونك الذاكرة وانت بعيد ومذكراتك في العراق تتثاءب في صندوق مخبأ في بيت الشاعر الجميل عبد الرزاق الربيعي القاطن في عمان اودعتها عنده حين هربت من عقابيل عام 1991 عام المواجهة بين الثوار والغوغاء! وطال انتظاري لها! الربيعي كتب لي مشكورا قائلا ( مذكراتك في الحرز والصون ايها الصائغ ) طيب ماذا افعل بمذكراتي المودعة عندك ياشاعري الخجول حين انتهي من كتابة مذكراتي ؟ او حين الفظ آخر نفس حددته اقداري لي! ما نفعي من الحرز والصون وانا في الصيف ضيعت اللبن!! الطف بي ياولدي رزاق الذي احببته واحبني بزخم كبير وعميق وشاهق! الطف بي وارسل مذكراتي الى عنواني في مشيغن اسوة بصديق عمرك الشاعر عدنان الصائغ الذي سحب رسائلي وكنت قد اودعتها عنده ايضا! سحبها من العراق االى السويد ومن السويد ارسلها اليَّ! ماذا لو حاكيته في فعلته المشكورة ؟ لاضير من المحاكاة حين تنصرف الى الفعل لكن الضير كل الضير ان تكون المحاكاة في القول! لماذا ياحبيبي رزاق الربيعي تجبرني على ان أُرَكِّبَ كلباً على ذيل لبث في ذاكرة الستين وهي تسبح ضد الغربة والتهميش المتعمد والتلطيخ المتقصد! وقطع آصرة الرحم بيني وبين اولادي وكبوة القلب وغدر الأقربين والمقربين!والإصغاء لخطوات الحبيب عزرائيل وهي تقترب مني يوما بعد يوم!! سأدع التشتت جانبا فكأني اهرب من مواجهة القص في فصل جديد من حياتي التي اعشقها رغم كل ما نالني من جديديها! ليلها ونهارها

هل يتعين عليك إذن ياصاحبي الصائغ ان تبوح بأسرارك التي حبستها في صدرك وحدك نصف قرن وزيادة! وإذا بحت بأسرارك فهل ستسمي المخلوقات التي دخلت حياتك فخربتها بأسمائها! والمخلوقات التي ادركت خرابك فرممته!! وإذا جرؤت على ذكر الاسماء دون تردد فهل ستجرؤ على ذكر الأدوار التي قاموا بها وأمكنة قيامها وأزمنتها! لا ادري ان كنت متهيئا لمثل هذه المذكرات في مجتمع يكره البوح ويعاقب الصدق! مجتمع ظالم قاس لكن كل فرد منه يشعر بل موقن انه ضحية وانه مظلوم! هذه اذن ليست مذكرات بل هي اعترافات وتداعيات تنوء بها حياتي التي اوشكت على النهاية! سأقول كل شيء بجرأة كنت افتقدها قبل هذه الساعة بسبب حنوي وتربيتي وقدرتي على التسامح! لاوقت لديَّ كي انتظر! أخشى ان تموت مخلوقاتي فيقول لي الآخرون اذكروا محاسن موتاكم! فإذا كانت مخلوقاتي من الموتى بلا محاسن فهل أجترح لهم المحاسن! شيء واحد اعدكم به وهو انني لن اعاقب خصومي التفيهين فقد كفاهم مني ما كفاهم! كما انني لن اكافيء صحابي الجميلين فقد كافأتهم بمحبتي لهم وثقتي بهم . لكنني لن اغفر لأحد كائنا من كان غدر بي او حاربني في رزقي وحلمي او وقف حائلا بيني وبين فرحي! اذن يا ارباب الذنوب السوابق انتظروني قبل ان تموتوا ارجوكم واصبروا عليَّ قبل ان تملُّوا! أنا سآتي على كل شيء! نعم كل شيء .

....... تركت الصديق الطيب جاسم حكومة دون ارادتي واظنه لم يكمل كلامه معي بعد! وهي ليست المرة الاولى التي أباديه بها! ولكنه سيغفرها لي كما غفر اخواتها معي او مع غيري! عدت الى البيت وكان باب الدار مواربا! حين تدخل بيتنا الكبير في الكوفة ذي الأبواب الثلاثة فلابد ان تدخله من الباب الرئيس وعندها ستكون تحت كشاف اخي الكبير عبد الامير الصائغ! فقد اختار الغرفة الاولى المطلة على الشارع الرئيس الذي يقع فيه بيتنا والشارع الآخر الذي تطل عليه حديقة البيت فضلا عن الشارع العريض الذي يربط الكوفة القديمة السراي والسكة والشريعة بالكوفة الجديدة حي كندة والمعلمين! بل وهو الشارع الوحيد الذي يربط مدينة الكوفة بمدينة النجف!! ان تسألني لماذا اختار اخوك الكبير هذه الغرفة التي ترصد القادم من ثلاثة شوارع والتي تبعد عن باب دارنا الكبير مترا واحدا فقط فهي تقع يمين الداخل للبيت! سأقول لك ان اخي خجول وبما ان لديه قرابة خمس صديقات علاقته بهن ليست عاطفية او موقرة بل هي علاقة حسية! فهو اطال الله عمره يستحي من اختيه الكبرى بدرية التي بدأت تراقبه وتسبب له الغثيان والصغرى حياة التي لاتتعب نفسها في شيء لأن بدرية ستقدم لها المعلومات الكافية عن مغامرات اموري كما نسميه بيننا وشعار حياة الذي تكرره ( اليوم الخبر بفلوس وباجر الخبر ببلاش )! يستحي الكبير اموري من اخويه الصغيرين الفضوليين الوسيط عبد الاله والصغير محمد! وهو يجهل ان محمدا وعبدالإله يعرفان عنه وعن مغامراته اكثر مما هو يعرف! واقول نعرف عنه اكثر منه لأن ما نعرفه على الارض كوم وما يضيفه خيالنا التوليدي الكوميدي عن مغامراته كوم آخر!! تخيلوا كيف كنا نقلق حرية المسكين مع صديقاته فلايكاد يرفع صوته معهن كما انه لايسمح لهن بالكلام بغير الهمس! أي حجر لحريته كنا نمارسه دون علمنا!! وكيف سيغفرها الله لنا ؟ ومع ذلك فقد سمعت صديقته الصغيرة غير المتزوجة غنية ( قتلها ابن اختها فيما بعد غسلا للعار فهي والحق يقال من اسرة محترمة! ) سمعنا صديقته الموجوعة العذراء تصرخ بكلمات مبهمة من نحو ( أي أي أي... يمه احتركَوا اهلك!! ) كنا نعرف ان اخانا لايهمه بعد ان يشبع بطنه سوى النساء! فإذا شبع من النساء واشك انه يشبع فسيكون همه قبل الأخير الصراخ بوجهي لأنني غبي وبوجه محمد لأنه حيال وبوجه بدرية لانها تزوجت مجنونا وبوجه حياة لانها تركت بيتها واقامت عندنا لكي تساعد امها واختها في تدبير البيت! أما آخر همومه فهي النوم العميق جدا! .. أتذكر مرة نسي عبد الاميرعافاه الله واطال عمره غرفته مفتوحة وكان ذلك في احدى صباحات شهر رمضان! فدخلت بدرية غرفة عبد الامير بدافع من الفضول! ثم اطلت من النافذة على الشارع الفرعي وكانت جارتنا صبيحة وهي عشيرة عبدالأمير تطل من نافذة غرفتها ايضا فتهيأ لها ان شبح بدرية من وراء الشباك ذي التور انها صديقها عبد الامير فقالت لها : شوف بعد ما اكَدر اجيك الصبح والظهر! حرام آنه صايمة! اجيك بليل الساعة 11 خلي بابك مفتوحة! فلما لم تسمع جوابا تركت غرفتها وخرجت الى الشارع واقتربت من شباك عبد الامير وهمست وهي لا تدري ان بدرية هي الواقفة : شبيك متجاوبني ؟ موكَتلك صايمة ما اكَدر أجي!! فقالت لها اختي الكبرى وقد استبد بها الحنق والضحك معا : طاحظج يغبرة عله هل صيام تفو عليج تفو تفو تفو ) فهربت صبيحة ويبدو انها شكت ما حل بها على يد بدرية الى عبد الامير الذي كتم غيظه بانتظار ساعة الصفر لكي ينتقم! .............. دخلتُ البيت فخرج اخي من غرفته باللباس والفانيلة والعرق يتصبب منه بما يؤكد انه كان يعالج عيون احداهن! أليس هو مضمد عيون او معاون طبيب ؟! وكانت الشفرة بيننا اذا دخلت واحدة الى غرفته انه يعالج عينيها وحرام الشك!ولكي يثبت لي انه طبيعي فقد اسمعني كلاما يفيد ان الشرطة الملكية حمير لأنهم اتهموا صبيا فاشلا وكان يقصدني! وحذرني من مغبة العودة الى البيت متأخرا في الليل فنظرت في عينيه وكثفت له بعيني كل المعاني التي دارت برأسي التي لم اجرؤ على قولها فتوعدني بعينيه ثم واصلت طريقي الى غرفتي المشتركة مع اخي محمد لكنني لاحظت صديقي الحبيب عبدالاله صالح الحلي يرمقني بنظرات عتاب مهذب! فاختلقت له عذرا مؤداه ان إخبارية وصلتنا ( لا ادري ضمير نا يعود الى من ؟؟!! ) تفيد ان نوري السعيد ووثائق حلف بغداد معه في قصر الملك فيصل الثاني في الكوفة وكان عليَّ ان افتش القصر مع ثلة من الثوار ( كذا ) فصدقني واعتذر لي لأنه نسي مسؤولياتي بعد الثورة ( كذا )! وللتاريخ فقط فإن مسؤولياتي بعد سقوط نوري السعيد تشبه مسؤولياتي بعد سقوط صدام حسين! وأعني انني بلا مسؤوليات لأن قدري ان اكون خارج النص!! مهمشا في الصقيع! قلت لعبد الإله فقط مسافة تبديل الثياب واخذ الدوش الذي آخذه بعد عودتي الى البيت عادة وانظم الى مجلس العائلة والضيوف ولاحظت ان اخي الكبير لم يكن بين الجالسين فقدرت ان لديه مسؤوليات ثقيلة تجاه ضيفته المهمة او مريضته الجديدة! وهي مهمة لأن اية ساقطة تعود الى بيتها عند الغروب ولن تسهر خارج بيتها الا التي تجيء في اسفل درجات الانحطاط!! اخي اطال الله عمره لا يعتب عليه الضيوف ولا نحن! فهو اذا جلس حوَّل كل حديث الى خصومة! غيابه فرصة نادرة لنا وللضيوف لكي نستمتع بسهرتنا فنبتكر النكات والأحاجي والحكايات! وينبغي ان اعترف بأن ضيوفنا الحليين كانوا طيبين يضحكون لأي كلام منا نحن النجفيين حتى اذا ادركوا ان الكلام لا شأن له بالضحك كفّوا واظهروا الجدية في اصغائهم! لم يبق من ضيوفنا- العائلتين الشقيقتين_ سوى صديقي الحبيب عبد الاله! بدرية جلست معنا وكانت تنوء بأفكار لا يمكن معرفتها بيسر! فهي تجلس تصبرا وتضحك مجاملة لأنها في محنة حقيقية بل في مأساة كامدة!( محنة شغلتنا واقلقتنا لزمن طويل! ولكن ما العمل حين يكون القرار بيد سواك ؟ المسكينة تزوجت في سن الثامنة والثلاثين وهو سن اليأس بالنسبة للبنات النجفيات وبخاصة اللواتي ينتمين الى الطبقات الراقية! بدرية علوية وابنة اثرى رجل في مدينة النجف بل وهي ابنة الزرقاء التي كانت سيدة المجالس النسوية النجفية! وهي اي بدرية عزباء! لكن اخوتي لأبي سامحهم الله كانوا يتميزون حقدا علينا نحن اولاد وبنات الزرقاء! كانوا يضربون اي خاطب لبنات الزرقاء الضرة الاخطر لأمهاتهم! كي يطفش وضيعوا على اختي الوسطى حورية خطابا جذَّابين حتى رضيت برجل ريفي محدود الوعي! وبدرية كانت مثالا للبنت النجفية في رشاقة الجسد واناقة الملبس ورياقة المكياج والتصرف! لكنها لبثت دون خطاب وقد اجتاز عمرها محطة الزواج! او فاتها قطار الزواج! وذلك ما يحز في نفسها فظهرت بثور حب الشباب في وجهها رغم انها كما يفترض تجاوزت مرحلة الشباب! يئست بدرية من الزواج فبدت شاحبة الوجه لكن صديقة عمرها! الرائعة الفاضلة العلوية طليعة السيد هلال السيد سلمان الزكَرتي العوادي ووالدها يرحمه الله كان زعيم البو السيد سلمان الزّكَرتي العوادي واتذكرها جيدا يرحمها الله مثالا حقيقيا للجمالين الظاهري والروحي وللمناسبة ما رآها احد إلا وقال هذه شبيهة الفنانة اسمهان الاطرش وكانت تخجل جدا حين ينبهر الناس بجمالها! طليعة ليس لها صديقات سوى بدرية بنت الزّركَة! وبدرية محظوظة ومحسودة لانها صديقة بنت السيد هلال التي كانت تعامل من قبل اهالي النجف كما لو انها اميرة فالخادمات يحطن بها وحين تزورنا فهن يرافقنها ويمشين خلفها! كنت الهو مع الخادمات واكثرهن افريقيات يافعات كانت السعودية المصدر الوحيد لهذا الجنس من البضاعة ( كذا )! طليعة تحركت لنجدة صديقتها بدرية فزينتها لشقيقها السيد حسين السيد هلال السيد سلمان وكان وشقيقه الشبيه السيد حسن يمتلك محلا لبيع كماليات النساء والهدايا في اول السوق الكبير بمقربة من عكَد اليهودي! كما زينت شقيقها حسين بعيني شقيقتي! كان حسين اكثر خلق الله شبها بالممثل الستيني ألن ديلون! شعر اصفر ببشرة بيضاء صافية بعينين زرقاوين صافيتين! وكانت زوجته الأولى وهي ابنة عمه ولم تزل على ذمته اجمل بنات النجف بحيث تبدو شقيقتي اذا قورنت بها وبالسيد حسين كأنها لاشيء! اختي شكلها مقبول بالكاد! فكيف سيتزوجها السيد حسين شقيق طليعة!! واظن ان السيد حسين اصغر سنا من بدرية! لكن لسان السيدة طليعة وقوة تأثيرها جعل اخاها متيما بأختي! وتم الزواج في كربلاء وكان رحمه الله سخيا فاقسم على ان يرافقه عبد الاله ومحمد وهكذا ذهبنا معهما ونحن في حيرة من امرنا! ما الذي اغرى هذا الفارس الجميل بأختنا التي تلبستها لعنة العنوسة! واكتشفنا انا ومحمد مع صغر عمرنا وقلة تجاربنا ان العريس الجميل ليس متوازنا مع الاسف! فكان يحكي لنا : بدرية محمد عبد الاله في اوقات فراغه من مهماته كعريس يحكي لنا حكايات لايتقبلها العقل! من مثل صداقاته مع الجن ومشاهداته لحشرات بحجم الفيل وكان وهو يحدثنا يتأثر بأوهامه فينفعل بحيث ترتجف شارباه الشهباوان! نعم ونحن صغار اكتشفنا ورطة اختنا المسكينة! كانت بدرية محرجة وتريد ان تنبه عريسها الى ان كلامه لم يعد مقبولا حتى عند الصغار اي محمد وانا! كأن تقول ان حسين شاهد هذه الحشرات في الحلم فيحتج حسين ويقول لها اقسم بالقرآن انني رأيتها بعيني هاتين في الواقع! فيصفر وجه معلمتي الرائعة بدرية! زوجها كأي رجل من البو السيد سلمان بل كأي صبي وطفل يحمل في جيبه مسدسا محشوا رصاصاً جاهزاً للقتل! وكان البو الزكَرتي لايتحرجون عن القتل لأن الباشا نوري السعيد صديق زعيمهم السيد عطية السيد سلمان! كان الباشا يأمر بإطلاق سراح اي متهم بالقتل من البو سيد سلمان! هذه العائلة لها صداقات مع العائلة المالكة ففيصل الاول كان صديق السيد مهدي السيد سلمان! احد رجالات ثورة العشرين لكنه نكص! وغازي الاول صديق السيد هلال السيد سلمان! وأهل النجف ليس لهم حقوق مع البو السيد سلمان لأن هذه القبيلة الصغيرة التي ترقى الى عدد قليل من العوائل لاتزوج بناتها للغرباء ولا تسمح لاحد ان يسكن في زقاقهم بل لايسمحون احيانا للمارة ويطلبون اليهم تغيير طريقهم! هذه القبيلة المجهرية دخلت في خصومة مع البو الشمرتي ذوي العَدد والعُدد فكاد الزكَرت ان يبيدوا خصومهم الشمرت حتى استغاث الشمرت برجال الدين وزعماء النجف والعائلة المالكة فتركهم الزكَرت بعد ان كبدوهم خسائر فادحة في الرجال والمال! في هذه الاجواء وقبيل سقوط العهد الملكي تشكلت حساسية بين السيد حسين السيد هلال ( ابو علي ) زوج الاخت الكبرى مع شاب جميل المحيا عالي التهذيب بعمره اسمه الحاج عبد الزهرة الدباغ يمتلك محلا مجاورا لمحله يبيع فيه الغزول الصوفية والوبرية ومستلزمات البدو من خيم وسجاجيد وملابس واغطية! وعباءات الفرو والصوف وكان جاره آية في التهذيب والبهاء فقد كنت اعرفه حق المعرفة ايام عملي في الشارع الصناعي بمحل لبيع قطع غيار السيارات الذي يمتلكه الحاج حمودي منى وكان عبد الزهرة صديقا للحاج حمودي وكنت آنس لهذا الصديق حين يزورنا في محل شغلنا واعجب بشخصيته القوية المؤثرة وطريقته الحميمة مع كل الناس وأسلوبه المثير في السرد والوصف! وكم مرة سهوت نفسي وانا اصغي اليه فأنسى عملي والمشترية فينبهني الحاج حمودي بأدبه الجم وبطريقة تحترم مشاعري كثيرا فهو يقول له مازحا شوف شلون آني معجب بسوالفك حتى صانعي السيد عبد الاله ينسى المشترية واكَفين وهو يسمعك بإعجاب! فأعرف عندها واجبي من خلال خلق الحاج حمودي وابيع للمشترية ما يطلبونه من قطع الغيار! استادي الحاج الجميل الازهر حمودي منى الذي كنت اكن له وما ازال احتراما وحبا شديدين! بدأت النجف وبخاصة السوق الكبير تتحدث عن آخر اخبار خصومات اولاد السيد هلال حسن وحسين مع جارهم الحاج عبد الزهرة الدباغ! وقيل انهما طلبا اليه الانتقال الى مكان آخر ومغادرة المحل خلال اسبوع وهدداه بالقتل ان لم يمتثل لاوامرهما! وفي خلال ذلك ولدت السيدة بدرية مولودها البكر علي وكان اكثر خلق الله شبها بأبيه! كما ولدت العزيزة هناء ثم محمد ( ابو جاسم ) وكانت حاملا حين اطلق زوجها الرصاص على عبد الزهرة وارداه قتيلا مما اثار سخط مدينة النجف المكتوية بالعتو العشائري وخرجت التظاهرات الصاخبة وهي تطالب بإنزال اقصى العقوبات بحق القاتل زوج اختي المسكينة فاضطرت الشرطة الى حجز السيد حسين مؤقتا لتهدئة الحال ثم يطلق سراحه بعدها كأن شيئا لم يكن! وافهم السيد حسين ان احتجازه تمثيلية فالباشا نوري السعيد لن يسمح لاي قائمقام في النجف ولا اي متصرف يأمر بأعتقال اي رجل من الزكَرت! نقل في الليلة نفسها الى مستشفى الفرات الاوسط حيث كان يعمل اخي الكبير مضمدا صحيا ويتصرف كما لو انه طبيب!فهو يرتدي صدرية الطبيب المفتوحة من الأمام ولا يرتدي صدرية المضمد المفتوحة من الخلف ثم يضع السماعة في جيبه ويدعها تتهدل من جيبه!! في اليوم التالي قامت اختي بزيارة ابو علي زوجها في المستشفى فهالها انه كان يدخن بشراهة ويقهقه خلال حديثه مع مريض يحتل سريرا مجاورا له لايعرفه! وحين شاهدها نهض وعانقها ا وحمل ولده علي بين ذراعيه وهو يمطره قبلات مفرقعة اي ذات اطيط! والطفل يبكي! ثم قال لاختي روحي للبيت ولتديرين بال يوم يومين واطلع من الحجز وراح اعلمهم ذولة اللي طلعوا مظاهرات ضدي منو آني! الباشا خابر مدير المستشفى وامره بالعناية بي! ثم سألها اين عبد الاله اين محمد فأخبرته ان عبد الاله كان مسجونا بتهمة اغتيال فاضل الجمالي ثم هرب من السجن وهو مختف بمكان لا نعلمه ومعه محمد! فطمنها السيد حسين السيد هلال ان قضية اخيها عبد الاله بسيطة ايضا فحينما يخرج حسين من المستشفى سوف يذهب الى الباشا نوري السعيد بنفسه ويجلب منه امرا بإعفاء عبد الاله من مسؤولية الاغتيال! وخرجت اختي من القاووش وودعت زوجها وهي منقبضة كأنها تعلم انها لن ترى زوجها بعدها ابدا! وتشاء المقادير ان يسقط النظام الملكي في ذات اليوم الذي تقرر فيه خروج حسين زوج شقيقتي الفاضلة بدرية من المستشفى والحجز وكأن قتلا لم يكن! سقط النظام في 14 تموز في اليوم الذي كان يستعد فيه السيد حسين للعودة الى بيته ومحله! وحين سمع حسين بمقتل العائلة المالكة ونوري السعيد اصابه هلع هستيري افقده الشهية للطعام وجعل اوردته ترفض المغذيات وتشاء الصدف ان ازوره ليلة موته رحمه الله ففجعت لمنظره كان هيكلا عظميا مكسوا بجلد ازرق وبدت جمجمته كبيرة جدا وعيناه كانتا غائرتين في حفرتين داخل الجمجمة وكان يصرخ كلما افاق من غيبوبته : اجاني عبد الزهرة دخيلكم خلصوني منه! فارق الحياة خلال وجودي معه ( لكنني اخفيت الخبر المشؤوم عن شقيقتي الكبرى ) بينا كان حمل شقيقتي ثقيلا وما إن جاء عبد الامير كأنه يحمل البشرى وليس خبر موت زوج اخته التي تكبره في العمر! وقال للسيدة بدرية أخته الكبرى بكل قسوة وتشف : شوفي بدرية حسين مات اتعيشين انتي لازم اتحجزين اموال السيد هلال! تره ذولة عدهم بالسرداب صناديق ليرات ذهب قديمة ومجوهرات و عناتيك وسجاد ايراني! فاستاءت اختي الكبرى السيدة بدرية من هذيانه وكانت تحب زوجها كثيرا وهي معتدة بنفسها ومنزلتها الاجتماعية فغلظت القول معه وغلظ هو القول معها وصرخت في وجهه فرفع عبد الامير قبضته السمينة وانهال على بطن اخته ضرباً ورفسا!! ناسيا تماما مصيبتها الكبيرة وانها حامل امضت التاسع ودخلت شهرها العاشر فصرخت بدرية بصوت مخيف افزعني تطلب النجدة من الجيران وكان صراخها يمتزج بصراخ ذوي الموتى وهم يولولون للموتى الذين يحملونهم الى المغيسل (مكان غسل الموتى) الذي لايبعد عن بيتنا سوى عشرين مترا!! لكن لا احد يخلصنا من يدي عبد الأمير حين يقرر عقابنا حتى الوالدة كانت تخشى من لكماته ورفساته فهو لا يؤدب او يعاقب ولكنه يفقد السيطرة فيتهيأ لمن يراه وهو يضربنا انه قرر حقا قتلنا! ثم جاء بدرية المخاض والحق يقال انها طرحت اي ولدت بشكل قسري! فانهارت واربد لون وجهها فجلست كما اتذكر على السلم الذي يربط الهول بالسطح كما المغمي عليها! وكانت تتوجع نفسيا وجسديا فتطلق صراخا ينخلع له قلبي! لا ادري كيف ولدت المسكينة! وقد شاءت المقادير ان تلد شقيقتي الكبرى واستاذتي الجليلة السيدة بدرية الصائغ توأما بعد سويعات ضئيلة من وصول خبر تحولها الى ارملة وقد تجشم اخي الكبير اطال الله عمره مهمة ايصال الخبر بنفسه وبطريقة تشعر اختي البائسة انه يستفزها ويشمت بها!! موت زوجها وولادة ابنيها هو اختزال لقانون الحياة ولكنه جاء اختي بطريقة قاسية! فرحت المفجوعة بولادة التوأم فكأنهما تعويض من السماء لها على موت زوجها الجميل! فاسمت الكبير اي الذي جاء اولا صبري والصغير خلف ثم مات الصبر كما تقول السيدة وبقي الخلف! وخلف اذن مولود في 20 تموز 1958 وقد تخرج من الجامعة وتزوج ابنة عمه السيد حسن رحمه الله بينا تزوج اخوه الوسيط محمد البنت الثانية لعمه السيد حسن بخلاف الكبير الذي تزوج شابة جميلة مهذبة احبها وهي غريبة عن البو السيد سلمان اسمها نهضة مديد! بينا تزوجت هناء احد ابناء عمومتها وهو السيد هادي مع ان فارق السن بينهما كبير جدا! لكن تقاليد البو السيد سلمان لن تتغير وان تغير الزمان والدولة! هذه اطلالة لابد منها لبيان عذاب الزرقاء ببنتيها الكبرى والصغرى! ) سهرنا معا كل من عبد الاله الحلي وحياة وبدرية والزرقاء وام سعد! اما الباقون فقد عادوا الى الحلة فهم تجار كبار السيد محي تاجر تبغ كبير وكذلك اخوه السيد صالح! وقد خفف سفرهم الاعباء عن الوالدة والشقيقتين وكانت السهرة جميلة بحق فقد كنت ابتكر النكات وارتجلها وحين احكيها ويضحك الآخرون اجدني اكثرهم ضحكا من نكتتي ذلك ربما لأنني اسمعها مني اول مرة! ودب النعاس بيننا بحيث لم نشعر بخروج صديقة اخي التي نسيت الباب مفتوحا الى الصباح وكان صديقي الحلي يحمل معه ثروة كبيرة من الدنانير عليه ان يوصلها غدا الى اصحابها وهي مرسلة من ابيه وعمه! الله لطف بنا فلم يسرق بيتنا علما ان منطقتنا مركز للصوص القادمين من ريف السهلة والشواطي! في الصباح استيقظ عبد الاله الحلي ولم يأخذ دوشا ولم يحلق ذقنه كعادته الصباحية فلديه شغل في النجف ولابد ان يذهب مبكرا ولكن ليس قبل ان يهرول ساعة في الاقل وطلب اليَّ هذه المرة ان ارافقه في الهرولة!! كيف لمثلي ان يجاري مثله وهو الذي حاز على بطولة لواء الحلة في الركض السريع وطموحه بعد هذه البطولة المحلية ان يكون بطل العراق! وما الضير ؟ وهو والحق يقال يمتلك طاقة احتمال وخفة في الجري كبيرتين! ثم عدنا الى البيت لنجد افطار الصباح مهيئاًُ تناولناه مع العائلة! واتذكر ان الساعة كانت التاسعة والنصف صباحا حين خرجنا الضيف الحلي وانا متجهين الى النجف وواسطتنا سيارة مصلحة نقل الركاب الجميلة وكنا نسميها الأمانة لأن امانة العاصمة في بغداد جلبتها للمواطنين اول مرة فاطلق عليها العراقيون اسم امانة او الأمانة! حتى خارج العاصمة فالذاكرة الشعبية تبسيطية فالسيف الآتي من الهند صار اسمه (مهند) حتى السيوف المصنوعة في سوريا!! وقطعة القماش التي توضع على الراس المصنوعة في الكوفة( الكوفية ) باتت علما لكل نظائرها حتى المصنوعة في شنغهاي! ومسحوق الغسيل تايد لبث اسما لكل مساحيق الغسيل بعده!! حملتنا الامانة متهادية تتوقف عند كل منطقة لينزل منها نفر ويستقلها آخرون! كان عبد الأله الحلي ذا ميول شيوعية لذلك ازداد اعجابه بي حين علم انني لم اشتم الشهيد فهد رغم اصرار الجلادين في الشعبة الخاصة على ان اشتمه! كان يحدثني عن عدد الشيوعيين في العالم واحصى الشعوب السوفيتية والشعوب الصينية والشعوب الفيتنامية ولم يكن ليسمح لخياله ان هناك في هذه الشعوب من لايؤمن بالشيوعية! كنت احدق بعينيه وهما تحلمان بغد شيوعي لكل البشرية! ووصلنا النجف وترجلنا من السيارة فوجدنا تجمعات هنا وهناك مما يوحي ان شيئا ما حدث او شيئا ما سيحدث! لايهم كل شيء يمكن حله بالمحبة والديموقراطية! ويقول مايكوفسكي ( إذا حدثت مشكلة بسبب الديموقراطية فإن حلها المزيد من الديموقراطية!! ) وليتني اعرف اية ديمقراطية تلك التي يعنيها مايكوفسكي الذي انتحر فيما بعد! وهذا ماوسي تونغ وقد قعد على كرسي السلطتين الحكومية والحزبية ازيد من نصف قرن وكان يتهم بالخيانة كل من يجتهد خارج اجتهاده او يعترض على قرارته لهذا فجل رفاقه بمن فيهم زوجته كانوا ضمن اعداء الشعب الصيني! وهذا فيدل كاسترو لاينوي مغادرة الكرسي المتسلط بكوبا وقد قعد عليه ازيد من نصف قرن!! ولكنني معجب ببعض اقوال مايكوفسكي فهو شاعر جميل حقا ولن يغير من معرفتي لطبيعته النرجسية التي ضجت بها مقهى الادباء بعد ثورة اكتوبر1917! يقينا انني كنت افكر بشكل صامت فلا احد يرضى عنك ان لم تكن ايماناتك متطابقة مع ايماناته! كنت استمتع بحديث زميلي فهو بسيط بساطة اهل الحلة لكنه عميق وصعب ان تعين عليك ان تختبره! يتحدث دون بلبلة او شكوك فالأمور لديه محسومة! ترجلنا من السيارة فاحاطت بنا جماعة من حملة العصي والسكاكين واتذكر من بينهم او على رأسهم الشقاوة المنبوذ مظلوم الشرطي! وهو يعرفني جيدا فبيننا ما يشبه الصداقة! اقترب مني فصافحته مباركا له نجاح الثورة وهزيمة حلف بغداد! لم تكن ملامحه منفرجة بل كانت ملامحه توحي بشيء آخر! شيء ما يشغله عن تهنئتي! ويبدو انه يقود هذه الجماعة لغرض تأديبي! سألني مظلوم الشرطي فجأة : عبد الإله انت مع من وضد من : الوحدة ام الاتحاد الفيدرالي ؟ اقسم انني اسمع بالاتحاد الفيدرالي للمرة الاولى في حياتي! فسألته ما اعرف شنو الاتحاد الفدرالي! فقال لي ماذا تعرف ؟ فقلت له اعرف فقط الوحدة! فثنى كوعيه ووضع كفيه المغلقتين على خصره من جهة الحزام وصرخ في وجهي : هها هها انت ماتريد الفدرالي ولكنك تريد الوحدة وغمز لحملة العصي فانهالوا علي ضربا! اما مظلوم الشرطي فقد امسك كفي اليمين ولواه ولوى كوعي الى ظهري بما شلني عن الحركة! فتذكرت انه في العام الماضي كان يقرأ كتابا للمصارع العالمي الألماني الهر كَريمر مدرب المصارعة في النادي الأولمبي في ساحة عنتر ببغداد اسمه ( أقتل حتى لا تقتل ) وكان يشرح لي الضربات التي تشل حركة الخصم او تميته! ويبدو انه استعمل معي واحدة من الحركات التي جعلتني طوع يديه! وبعد ان نلت نصيبي من العصي والرفس والركل وكنت احاذر السكاكين والقامات والكَديميات! قادتني الجماعة بما يشبه قيادة التعزير في الاسلام الى مركز الشرطة الذي كنت محتجزا فيه قبيل الثورة! وكنت لا ادري ما الذي فعلته كي يعيدني مظلوم الشرطي وجماعة الغوغاء الى المكان الذي هربت منه! ادخلت على ضابط اشيب يبدو انه من الضباط الاحرار( صورته لم تفارق ذاكرتي حتى هذه اللحظة!) واخذ يستفسر عن تهمتي فقال مظلوم الشرطي وقد عثر بالقول ان الصائغ يقول يعيش عبد الكريم قاسم ويسقط عبد السلام عارف! وان وان وان ثم ان الصائغ لايحب الاتحاد الفدرالي لأنه يحب الوحدة!! فقال له الضابط ساخرا وقد غمز لي : يعني الصائغ كَال يعيش الزعيم عبد الكريم قاسم رائد الوحدة الفورية وكَال يسقط العقيد عبد السلام عارف رائد الاتحاد الفيدرالي!! فقال مظلوم الشرطي : والعباس سمعته بأذني هاي سمعته يهتف بحياة عبد الكريم قاسم وسقوط عبد السلام عارف! فأمرالضابط مظلوم الشرطي ان ينصرف هو وجماعته! فقال له مظلوم الشرطي بيك اوامرك وأدى له التحية وسجل الضابط محضرا شكليا ضدي وقال لمظلوم وجماعته بره خلوني اشوف شغلي كل شوية جايبين مواطن بريء! أدرك الضابط الكبير الممثل للعسكريين في بغداد ان مظلوم الشرطي كذاب وانه غبي لكن من رجاحة عقل الضابط ان صرفه عني فولى عائداً! اما انا فقد طلب الي الضابط ان اجلس على كرسي كان يجلس عليه شرطي قبلي! فنهض الشرطي واخلى مكانه لي وهو لا يكاد يصدق ما تراه عيناه! الشرطي هو احد الجلادين الذين عذبوني بشكل عنيف! في تهمة اغتيال الدكتور فاضل الجمالي! كنا نسميه ابو خلوة كي نغيضه ( الخلوة هي المرحاض بلهجة اهل النجف ) فهو ابوخولة! فهو يتذكرني واتذكره! ويعرفني وأعرفه! لعله يقول في نفسه لنفسه وهو يراني صيدا سهلا بيد مظلوم الشرطي وعدد من الغوغاء : مع من اذن سيكون عبد الاله هذا المسكين! ؟ العهد الملكي حبسه والعهد الجمهوري يريد حبسه! قدم لي الضابط الكبير ماء فشربت جرعة منه وشكرته! ثم طلب اليَّ بعد ان طرد الشرطي من غرفته ان اكتب رسالة الى الزعيم عبد الكريم قاسم اشرح له فيها ما يدور في النجف فاعتذرت له ورجوته ان يطلق سراحي فقط فأبتسم وهو يغالب خجله لتمنعي وقال لي لابأس عد الى بيتك ففي المرة القادمة قد لا استطيع ان احميك! فشكرته بلهجة صادقة وغادرت المركز ومعي صديقي عبد الإله الحلي وهو منذهل غير مصدق لما جرى لي مع هؤلاء! حتى انه آثر الصمت وقد بدا الامتعاض على ملامحه! قلت له هيا نذهب الى عناوين التجار لكي تسلمهم الأمانات من ابيك وعمك فقال وكأنه يريد ان ينفجر : يا امانات يا تجار يابطيخ! النجف ملتهبة خلينه نرجع بسلامة الى الكوفة! فمشينا قليلا حتى وصلنا محطة صغيرة لمصلحة نقل الركاب! واحتللنا مقاعدنا في الدرجة الاولى ففوجئنا بصوت الجابي ( قاطع التذاكر ): دادة عبد الإله كروتك وكروة صديقك جبة ( أي على حسابي)! فالتفت صوب الصوت فإذا بي امام زميلي في مدرسة ابن حيان الإبتدائية! كان اجمل الزملاء شكلا وصوتا! وربما كان اجمل اهل الكوفة طرا! انه محسن جبر الكوفي فاقترب مني واقتربت منه وتعانقنا وتحسرنا معا على مدرسة ابن حيان ومديرها استاذ راضي الاعسم ومعلميها الأساتذة حسين عبود اول من اكتشف موهبة محسن وطورها! وحسن البصري ونسميه حسن ( نخلة البو ماضي ) لطوله وسيد جواد الحبوبي الجغرافي الرائع وهادي حوسة القزم الحقود ولقمان ابو الرياضة المعلم اللعوب! شكرت صديقي محسن على كرمه وعرفته على صديقي عبد الإله! ويبدو ان الحبيب محسن قد سمع بأنني قتلت على ايدي جماهير النجف! فحمد الله على سلامتي ولم يحرجني بالأسئلة فهو غاية في الأدب والذوق! كان محسن لما يزل بعد خلي القلب والفكر فلم يتعلق بالمعلمة التي سلبته عقله وحياته فيما بعد بل حرمت العراق من موهبة غنائية كبرى! ( وقد صار فيما بعد مطربا كبيرا له بصمته في الاغنية الريفية العراقية ثم مات بعد ان ذاب قلبه في حب معلمة تكريتية استنكف اهلها ان تتزوج بنتهم المعلمة من جابي يقطع التكتات والأكثر انه مطرب وأبو البنت من طبقة راقية مع ان المعلمة كانت مجنونة بحب محسن جبر وهددت بتسليم نفسها لمحسن ان لم يسمحوا لها بالزواج منه فما كان من ابيها الا ان اجبرها على الاستقالة والعودة بها الى تكريت! فظل محسن يغني ويهيم في الطرقات ولا يشتهي الطعام ففتك به السل وقاء دما ومات! لكن أغانيه وحكايته كانتا خالدتين في وجدانات عاشقي الفن الريفي ). نزلنا المصلحة هذه المرة قبالة بيتنا مباشرة ولما بلغنا البيت وكنا جياعا فقد تمنينا طعاما من يدي فتحية الحلي شقيقة عبد الإله!! لكننا تذكرنا انها عادت الى الحلة مع ابويها! رضينا بأي طعام يمكن ان نتناوله! لكننا فوجئنا بحالة هرج ومرج في البيت!! فعلمنا ويا للهول ان خبراً وصل الزرقاء فهبت كالمجنونة يتضمن الخبر ان ابن الزرقاء الأوسط عبد الإله قد فتكت به الجماهير التي توهمت ان الصائغ من مخلفات العهد الملكي! فهرعت الزرقاء شبه مجنونة الى النجف!! ولم يرافقها سوى جدتي ام سعد! فكان علينا نحن العبدلين ( عبدالإله الحلي وعبد الإله الصائغ ) كان علينا ان نتوجه الى النجف على وجه السرعة لكن المفاجأة الأخرى ان والدتي الزرقاء وجدتي جلوة عادتا من النجف مع صديق العائلة الرائع السيد ناجي السيد مجبل الشريفي بعد ان طمأنهم الضابط الكبير ممثل ثورة العسكر ان الصائغ لم ينله اي مكروه!! ولكن هيأتيهما كانتا تبعثان على الرثاء إن لم اقل على البكاء!! هكذا اذن ياروحي من محنة الى محنة! ومن شرخ الى آخر!! وانا مازلت غض العود طري التجربة! تعانقت كل منهما معي ودخلنا صالة الإستقبال لنجد الجيران جالسين وهم لايعلمون ماذا يدور في الشارع النجفي! طمأنت الجميع وجلست معهم جلسة مجاملة وعلى مضض! فلما لاحظ الضيوف انني اتثاءب استأذنوا وطلبوا مني ان لا ازور النجف مؤقتا حتى ينجلي الموقف! وهكذا اصبحنا لوحدنا ومعنا صديقي عبد الإله الحلي الذي كان يظنني شيوعيا فلما شهد بعينيه ما جرى لي على يد مظلوم الشرطي الذي يدعي زورا وبهتانا انه شيوعي وهو شرطي مأجور من لدن الشعبة الخاصة الملكية! لما شاهد ذلك بدأت تتنازعه مشاعر متضاربه اعترف لي بها فيما بعد! وهي من هو عبد الإله الصائغ الذي سجن على انه شيوعي ثم وبمجرد سقوط العهد الملكي القي القبض عليه بتهمة معاداة الثورة! اين تكمن الحقيقة ؟ هل كان الصائغ مدسوسا على المعتقلين مثلا ؟ هل كان شيوعيا حقا وأسيء فهمه ؟ هل هو مستقل كغالبية العراقيين ؟ اهو قومي من حزب الاستقلال وجل اصدقائه من القوميين ؟ كان ينظر اليَّ فإذا لاحظته ارتبك وخفض عينيه الى الارض! اما مشاعري فقد كانت مشاعر صقر كسير الجناح! في المساء زارني بشكل مفاجيء الشهيد وزميل الدراسة محمد موسى التتجني ومعه ميري عريعر مسؤول اتحاد الطلبة في الكوفة وزهير شكر واستقبلتهما بترحيب غريق وجد طوق الحياة فجأة! جلس التتنجي ووضع رجلا على اخرى وكان بادي الإرتباك وقال لي بعبارات واضحة : زميلي العزيز الصائغ جئتك معتذرا عما حصل لك على يد الأشقيائي مظلوم الشرطي وعدد من المحسوبين على الحزب واقول لك ان هؤلاء لايمثلوننا وقد ابلغنا مظلوم الشرطي بسخطنا عليه بسبب موقفه اللااخلاقي منك ومن آخرين نالهم العنت نفسه! فقال لنا مظلوم انني لست شيوعيا وليس من حقكم محاسبتي او منعي عن حماية الثورة! ونحن بصدد البحث عن طريقة نحدد بها تصرفاته التي طالت اصدقاء الحزب تحديدا! ونهض وعانقني وعانقني ميري عريعر لكن المصور زهير شكر لم يعانقني وهو صديق قديم بل ولم يكن مرتاحا من اعتذار التتنجي لي! ( إشارة : اخبرتني بالهاتف وقبل ايام الشاعرة وئام ملا سلمان المقيمة في السويد وكانت جارتنا في النجف وهي شقيقة صديقيَّ المناضلين الحبيبين الأستاذ رضا ملا سلمان الدلال والأستاذة سعاد ملا سلمان الدلال لتنهي الي ان زهير شكرالرجل الخجول والمصور والشيوعي قد انتقل الى رحمة الله تعالى!! وطلبت اليَّ بتودد ان اطوي صفحته واغتفر له الأذى الذي نالني على يديه ووعدتها خيرا ) وهكذا كما ينبغي ان هذه الصفحة اللئيمة طويت من حياتي بعد سقوط العائلة الهاشمية المسكينة! فعدت الى حياتي الطبيعية واعترف ان سعادتي الغامرة بزيارة الوفد الوطني لي كامنة في ان صديقي الحلي عبد الإله صالح يعرف من هو محمد موسى التتنجي ويكن له تقديرا كبيرا( كل العراقيين كانوا يتلقون بطولات محمد موسى التتنجي في العصر الملكي من اذاعتي صوت العرب والقاهرة وكان المذيع يكرر ان المناضل التتنجي صعد على ظهر دبابة عسكرية في ميدان النجف والقى كلمته التحريضية ضد حلف بغداد ونوري السعيد وثمة مواقف اخرى كثيرة لهذا الشاب الطاهر الذي عذبه البعثيون وغيبوا اخباره والى السبعينات كان اخوه وهو يضع الكوفية و العقال على رأسه ويمتلك محلا في السوق الكبير لبيع الأحذية فهو وكيل شركتي زبلك- زبلوق - وكاهجي! كان اخوه يبحث عنه دون هوادة وقد كلف عبد السلام عارف للمساعدة في العثور عليه فوعده خيرا لكن عارفا بعدها كان يتهرب منه ولايسمح له بمواجهته! وقد اعلمني احد اصدقاء البالتاك ان عائلة الشهيد محمد موسى التتنجي تسلمت جثته اخيرا ودفن في مقبرة وادي السلام )! فإذا جاء الى بيتي قادما من النجف رغم كثافة مسؤولياته فهذا يعني ان الصائغ موضع احترام الحزب وان مظلوما الشرطي تصرف بغباء جرَّ عليه نقمة الكثير من معارفي!

غادرني الصديق العذب عبد الاله صالح في اليوم الثاني بعد ان اوصاني بالحيطة والحذر وكنت في وداعه الى كَراج حلة نجف! وشعرت بالانقباض حين تحركت السيارة النيرن وفي حناياها تربي وقريبي وصديقي عبد الإله باتجاه الحلة! وقررت التسكع في السوق الكبير وفق نظرية ابن بطوطة المغربي في رحلته المشهورة يقول : ( لايعرف النجف من لايزور سوقها الكبير )! وهناك التقيت اصدقائي جلهم فرادى : جواد كاظم الشمس ورشاد الخوجة ورشاد على عودة وعلي صالح معله وموسى كريدي وحميد المطبعي ومحمد كاظم العادلي ومحمود البستاني وكلهم يسألني اما عن تهمة اغتيال فاضل الجمالي او محاولة قتلي بعد ثورة 14 تموز 1958!!فشعرت بضيق شديد فتركت السوق الكبير وقررت زيارة بيت الشيخ سلمان الخاقاني لتحية صديقي النجيب صادق الخاقاني الاديب والظريف وبعد ان وصلت البيت علمت من عائلته الكريمة انه سافر الى المحمرة في مقاطعة عربستان والتي يسميها الفرس ( خرمشهر ) فحزنت لأنني بأشد الشوق اليه! وهكذاقررت العودة الى بيتنا في الكوفة باغتني الحنين للوالدة والجدة واخي الصغير محمد!! ذهني مكتظ بهموم واحلام كثيرة لايربطها رابط!! لابأس يتعين علي اذن ان احث الخطو لكي انطلق وقد بلغت شارع الرابطة الادبية المحادد لشارع سور النجف العظيم يتعين علي ان اندلق الى شارع الخورنق مبتدئا من نهايته اي مقهى الأدباء ( ابو البسامير ) ومن حيث محل المكوجي حمزة زيارة البو اصيبع! الوجه الإجتماعي النجفي الحميم! والوطني البارز سأسلم عليه وامضي فهو يناديني خالو لأنه قريب جدا من الوالدة! ثمة مكتبة الامل لصاحبها الصديق علي كَناوي العريض مكانها مدخل زقاق البو جريو! علي اكيد لن يدعني امضي بسرعة اذ لديه الكثير ليمنحنيه فهو مثقف ومحب ومتحدث خجول بيد انه لبق! سأعترف للصديق العريض ابن كَناوي تاجر الأقمشة في السوق الكبير وشقيقه الكبير صديقي ايضا هو الأستاذ عبد كَناوي الشاب القومي المهذب! سأعترف له انني غير قادر على التأخر فالشمس بدأت بالمغيب وانا اريد العودة الى بيتنا في الكوفة قبل ان تظلم الدنيا! هو صديق يتفهم بسرعة ويسر ولا يثقل على الأصدقاء لذلك كنا نحبه! حدث ما كنت اتوقعه واجتزت شارع الخورنق فكانت متوسطة الخورنق عن يميني وقد بدت سقيفة قاعتها الكبرى الزنكية بلون النحاس المشتعل بسبب انعكاس ضوء الاصيل عليها وعن يساري بيت مذبوب الصغير الذي باعته والدتي بثمن بخس لأنه مسكون بالجن والعفاريت ( كذا ) فهو اي البيت مقابل المتوسطة ويشكل مدخلا من الوسط لعكَد خانية المشهور جدا! كنت هميما في خطواتي بحيث عبرت عيادة الدكتور محمود صفوت وصيدلية الإمام وعيادة الدكتور صاحب الطريحي ومررت على خان السراي موقع الحاكم العثماني ومن ثم الحاكم الأنجليزي وفي هذا الخان قتل الابطال النجفيون بقيادة نجم البقال العاني وكاظم صبي الجنرال الانجليزي وقد اصبح مقرا فيما بعد لقادة ثورة العشرين وسجنا للأسرى من انكليز وسيخ وكَركَة! وفي سرداب هذا السراي الذي اعطبته المياه الجوفية وعاثت به الجرذان والعث في هذا السرداب ملابس ثوار العشرين وملابس بعض الشهداء واسلحة الثوار وغنائمهم والوثائق المهمة والبيانات الصادرة واول علم عراقي! وقد حاول الصديقان الأستاذ كامل الجبوري والشهيد عبد الرحيم محمد علي انقاذ ما يمكن انقاذه من آثار الثوار العشرينيين في النجف مما اغضب السلطة الشوفينية العنصرية الطائفية الحاكمة! ثم اجتزت السراي وفي قلبي لوعة لمصير هذا الصرح المعماري الجميل! كان البنك النقطة الاولى التي مررت بها بعد السراي ولم يتبق امامي سوى اكسبرس لوندري الذي يديره الأخوان الرائعان عبودي الطفيلي والمرحوم ضياء الطفيلي بكفاءة تدعو للإعجاب ومحلهما مقابل موقف مصلحة نقل الركاب ومتاخم للإستوديو الكبير الذي يمتلكه الفنان الجميل الحاذق نوري الفلوجي! ثمة ازدحام غير اعتيادي امام محل المصور الفلوجي! ياإلهي ما الذي حصل لصديقي الفلوجي ؟ هو يحيا بكلية واحدة فهل اصيبت كليته الوحيدة لاسمح الله! هرعت ووصلت الى بؤرة الإزدحام! ولأني رياضي وفتي فقد اخترقت الزحام بجهد ضئيل حتى بلغت مصدره وكانت المفاجأة ان المصور الفلوجي يعرض صور مذبحة قصر الرحاب التي اهدرت دماء العائلة المالكة على يد عسكري احمق ودموي كان من المفروض ان يحميهم فغدر بهم! وقيل ان هذا الأحمق اصيب بالجنون لأن العائلة المالكة كما زعم للصحافة كانت تداهمه يوميا في احلامه حتى اطلق على رأسه الرصاص كمن يعاقب نفسه بنفسه فاستراح وأراح! هي ذي الصور امامي تماما وقد سلط الفلوجي عليها الاضواء! الصور رأيتها للمرة الأولى والأخيرة! المرة الاولى مفهومة اما للمرة الأخيرة فلذلك حكاية تتصل بالعقلية العسكرتارية! فقد خشي العسكر ان تتسرب الصور الى الإعلام العالمي فيحدث المحظور فأرسلوا معتوهاً فسحب الصور من الفلوجي مع النيجاتيف واتلفها جميعها دون ان يعلم انه يتلف وثيقة مهمة تساعدنا في قراءة فترة مهمة من تاريخ العراق! اعود الى الصور لكي اقدم بين يدي القاريء العزيز فكرة كافية عنها! ولسوف انجِّم المعلومة:

صورة تظهر فيها العائلة المالكة وقد غادرت القصر باتجاه الباب الرئيسي والى يمينهم الحوض المشؤوم وثمة من يحمل قطعة قماش بيضاء وربما كان الكتاب المفتوح الذي تحمله اميرة كبيرة السن هو المصحف الكريم! الملك الشاب فيصل الثاني والى جانبه خاله الوصي عبدالإله وعدد من الاميرات والخدم!

صورة تظهر تلا من الجثث متشكل من اجساد العائلة المغدور بها رجالا ونساءً والبعض كان في الحوض! الصورة كانت بشعة جدا والدماء بادية رغم ان الصورة بالأسود والأبيض!.

صورة لجثة نوري السعيد السمين المترهل وقد شدت رجله بالحبل لسحله والجثة مشوهة وبعض انحائها محزوز بالساطور!

صورة لجثة عبد الإله معلقة على مدخل وزارة الدفاع وكانت بعض اعضائه ( كذا ) مبتورة! الجثة مشوهة جدا والذراع الأيسر مقطوع! ويقال ان العسكريين من ثوار تموز 1958 تعمدوا تعليق جثة عبد الإله في الموضع ذاته الذي علقت فيه جثة احد العقداء الخمسة الذين ثاروا ضد الملكية في مايس 1941 بعد ان غرر بهم الطائفي العنصري رشيد عالي الكَيلاني عميل المخابرات الألمانية في عهد المجرم التاريخي ادولف هتلر فوهرر المانيا! وكان رشيد عالي الكَيلاني كما يذكر الأستاذ يونس بحري في مذكراته ( هنا برلين حي العرب ) صديقا شخصيا لغوبلز وهيس! ومن يتذكر صور رشيد الكَيلاني والعقداء الخمسة سيلتقط طريقة تسريح شعرهم والشارب الكث المبتور من الجانبين عند الكيلاني والعقداء الخمسة!! .

صورة اخرى لجثة الأمير عبد الإله في احد شوارع العاصمة وقد ربطت الغوغاء الحبال برجليه وسحلته! الجثة كانت مشوهة جدا وعليها حجار ابيض واحذية! ويبدو الأمير ذا سمنة قليلة .

صورة للصديق الصحفي ( متقاعد حاليا ) الأستاذ عبد الرضا النجم صبيحة 14 تموز داخل غرفة العرش وقد وضع النجم حذاءه على كرسي العرش الذي كان يجلس عليه فيصل الثاني ومن قبل غازي الاول ومن قبل فيصل الأول! ورغم صغر سني فقد سالت النجم : ما البطولة ان تضع قدمك على كرسي المملكة بعد ان ذبحت العائلة عن بكرة ابيها! وكان جوابه لي باهتا! عبد الرضا النجم صار صديقا فيما بعد لعبد السلام عارف وكان يستقل معه سيارة واحدة او طائرة واحدة في كل اسفاره الفنطازية ثم جعله مسؤولا عن احدى صحف الثورة ثم استطاع ان يؤسس صحيفة التلغراف الناطقة وكانت تبث من شاشات السنما قبيل عرض الفلم!

ثمة صور ممحوة من ذاكرتي مع الاعتذار للنفسي مما الحقته بها الغربة!

هرع الناس نحو سيارة مصلحة نقل الركاب ( الأمانة ) المتوجهة الى مدينة الكوفة او الجسر على لغة الناس عهدذاك وعلمت ان المقاعد في الدرجتين الأولى والثانية قد حجزت فقررت البقاء واقفا لكي اصل الى البيت! وما إن استقر بي المقام في السيارة وامسكت بالعلاقات الجلدية المثبتة على اسطوانتين بيضاوين من الجهتين اليسرى واليمنى ومتوازيتين بطول السيارة! حتى سمعت من يناديني : خالو عبد الإله تعال مكانك محجوز! فعرفت ان المنادي هو الفتوة الكبير المعروف عراقيا :عبد بن حمد ابودراغ البو اصيبع! يرتدي اليشماغ الفراتي الابيض المبقع بالأسود والعقال الأنيق ودشداشة بيضاء فيها لون الجويت الأزرق الذي لايكاد بيبن بياقة منشاة معضدة ببطانة من قماش ( تروزوفونايت ) الذي لايقدر على استعماله سوى الخياط محمدي والخياط علي اكبر فجلست الى جانبه بعد ان صافحته وقرفت من رائحة الخمرة المنبعثة من جوفه! قلت له على سبيل المجاملة : على خير خالو ؟ فأجابني وعيناه جمرتان متقدتان انه يريد زيارة ابنة عمه! ويقصد والدتي الزرقاء! فابتلعت ريقي اليابس وانا اكره واخوتي واخواتي معي اكره دخول هذا الفتوة الى بيتنا لأنه متهم بقتل الكثير من الناس ومطلوب ثأر في كل مكان فضلا عن انه سكير وامي ارملة ثرية وجميلة وابنة زعيم قبيلتي اصيبع وزيارة! ولماذا الزيارة في المساء ؟ لكن امي بثقة تامة تقول انه صاحب قيم نبيلة فهو ابن حمد ابو دراغ الذي تضرب الأمثال بمراجله! كما انه مفيد للعائلة المنكوبة بغياب ربها! عبد ابو دراغ كان يجلب الينا ( النوبة ) لأن الحفارين يخشون سطوته ويسلمها كاملة غير منقوصة للزرقاء! وحين مات إثر دهسة سيارة عمياء مسرعة له بينما كان هو نائما في الليل ويعمل حارسا لشركة إكمال متطلبات تبليط كوفة حلة حين مات تنمر الوكلاء على مقبرة وادي السلام واخذوا يتلاعبون بمبالغ النوبة مستغلين قرف اولاد الزرقاء وبناتها من النقود التي تصلنا من وكلاء المقبرة والحفارين كبدل دفنية! وهو ايضا قادر على لجم وكلاء الوالدة الزراعيين في الميهي والنفاخ! بل هو القادر الوحيد على كبح جماح اخوتي لأبي حين يستبدون بوالدتي كأنهم يطلبونها ثأراً! فكم من مرة داهموا البيت واستولوا على ممتلكات الوالدة مستغلين غيابها فيذهب اليهم عبد ابو دراغ ويستعيد منهم ما سرقوه من زوجة ابيهم التي تصغرهم في السن بعد ان يوبخهم ويتطاول عليهم ان بالضرب او الكلام البذيء! بين قوسين احيانا نلتمس للزرقاء عذرا حين يزورنا ابو دراغ فهو ذو علاقات متينة مع السياسيين بل ومع العائلة المالكة العراقية فلديه قدرة مدهشة على خدمة الوجهاء وبصمت تام! فلماذا لاتستفيد منه قريبته الزرقاء لقاء مبالغ معلومة تقدمها له غب انجاز اية خدمة! المهم سارت بنا الامانة مغادرة النجف مارة بشارع الهاتف وحديقة فيصل الثاني جهة اليمين وسور مقبرة النجف المرعب من جهة اليسار ثم مررنا بقصر الأديب فاضل الرادود الذي لم يكمله بعد فقد دخل السجن وتركه على حاله ليستغله ولده عصري فيعمل منه مقهى رائعة ورائعة جدا! فمقبرة صالح جبر فمسجد الحنانة فحي السعد وحركة البناء فيه على قدم وساق!! هنا طابوق وهناك خشب وتلك اكياس الإسمنت! امسك عبد ابو دراغ بيدي وهو يهمس لي : عجبتك الصور التي عرضها نوري الفلوجي! وقبل ان اعترف له بأنها لم تعجبني وانها مقرفة صرح لي بأنه هو من التقط الصور للدقائق الأخيرة من حياة العائلة المالكة فقد كان على موعد مع بعض وجهاء النجف لكي يودعوا فيصل الثاني وخاله في قصر الرحاب وهما ينويان مغادرة بغداد الى تركيا لإكمال جهاز العروسة التركية فاضيلة التي احبها الملك فيصل لكن الموت والفناء كان لهما بالمرصاد! وحكى ابو دراغ لي بعض ما شاهده من تصرفات الغوغاء واللصوص حين سقطت العائلة مضرجة بالدماء فقد عمد البعض الى سرقة القصر ووثائقه والملابس الملكية والمجوهرات والذهب والأواني! وزعم ابو دراغ انه شاهد احدهم وهو يتنزع ساعتي فيصل وعبدالإله وهما ملطختان بدم عبيط! واشياء اخرى يشيب لها الرضيع فقررت ان اكتب شيئا من اماليه ومشاهداته للحظات الأخيرة من حياة العائلة المالكة وصارحته بذلك فوافق على الفور!! ..............و البقية تجدونها في الفصل السابع فإلى هناك .

بروفسور د. عبدالإله الصائغ

مشيغن المحروسة في الثلاثاء 28 جون حزيران 2005

 

عزيزي صائغ الكلمات

سارعت الى فتح الانترنت على اسمك الحبيب وقرأت الفصل الخامس من عودة طيورك المهاجرة ، واكرر (حسدي) الاخوي على ذاكرتك الرائعة واتشرف بنشر ماذكرته عني ورسالتي اليك .ان الاجتماع الذي تشير اليه( في الفصل الخامس ) يعود الى تنظيم الشباب القومي العربي التابع لحزب الاستقلال والذي كان بقيادة المرحوم الشيخ احمد عبد الكريم الجزائري والاستاذ احمد الحبوبي والمرحوم محسن البهادلي ، وكنتُ والاخ عبد الاله النصراوي في الحلقة المسؤولة عن العمل الطلابي في التنظيم ومعنا علي كمونة وعلي منصور وعلاء البرمكي وغيرهم ، واذكر للتاريخ اننا قدنا ثورة النجف عام 1956 واضرابنا كما تتذكر في السدير والخورنق وتقديمنا للشهداء عبد الحسين الشيخ راضي (ابو نايف) واحمد الدجيلي وغيرهما. وقد انتقلت الى بغداد بعد تخرجي من الاعدادية في اعقاب 14 تموز 1958 وتدرجت في العمل الحركي حتى اصبحت عضو قيادة حركة القوميين العرب عام 1963 عندما اعتقلني البعثيون مع مئات من الضباط والقوميين بتهمة التآمر ولم اخرج من قصر النهاية وسجن رقم واحد الا بعد قيام عبد السلام عارف بانقلاب 18 تشرين الثاني 1963 وبقيت عضو في القيادة حتى المؤتمر القومي عام 1966 .

انها ذكريات سياسية مرت اتذكر بها (ايام عرسي) . النصراوي العزيز فرح جداً برسالتك وتحياتك وسنبقى على اتصال .. كل شيء لايطاق... في العراق ، مع الاسف.

موقعنا على الانترنت (aljaridah.net) ولي مقالة اسبوعية كل يوم اثنين في الصفحة الاخير يكتبها صحفي متقاعد وهي بأسمي.

مع محبتي (الحقيقية) وتحيات الوالدة ام سمير التي فرحت بك كثيراً وسميرة واميرة .وزوجتي ابتسام ام خالد .

 اخوك امير الحلو

16/6/2005

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com