ثورة العشرين وحقوق الأمة!!
هادي فريد
التكريتي
hadifarid@maktob.com
ثورة العشرين هي أول وأعظم
حدث في التاريخ العراقي الحديث ، بعد حكم ديني مباشر ـ طائفي ـ
عنصري غير عربي ، دام أكثر من 400 عام ، وقيامها ليس هو فقط
الرد على مظالم القوات البريطانية وانتهاكها لحرمة المدن
العراقية المقدسة ، بل وكذلك المطالبة بخروج هذه القوات من كل
الأراضي العراقية ، وتشكيل حكم وطني بديل لقوات الاحتلال ، ولم
يكن توقيت قيامها من مدينة الرميثة ، عند نجاح إطلاق سراح
الشيخ شعلان أبو الجون من سجن المدينة ، في 30 حزيران ، إلا
ساعة الصفر لهذه الثورة التحررية ، ولم تكن عفوية أو ردة فعل
لموقف بريطاني .، إنما هي ثورة هادفة ، نضجت ظروفها الموضوعية
والذاتية وتشكلت قيادتها عبر مجرى الصراع ، حيث ابتدأ التحضير
لها والعمل على تدارك مستلزمات قيامها ونجاحها ، منذ أن اندحرت
القوات التركية أمام القوات البريطانية في العراق ، تصدرت
المقاومة الوطنية العراقية مجابهة قوات الاحتلال ، فظهرت
الحاجة الفعلية لقيام حكم وطني عراقي ، وتشكيل حكومة وطنية ،
وبعد إعلان نتائج مؤتمر سان ريمو عام 1920 التي وضعت العراق
تحت الانتداب البريطاني ، ابتدأت الإحتجاجات وشملت العراق من
أعلاه إلى أقصاه بقيادة شخصيات سياسية حزبية ووطنية ، أمثال
جعفر أبو التمن ، وغيره من رجال الدين الخالصي والصدر والشيخ
ضاري والشيخ محمود الحفيد ، اندلعت الثورة تتصدرها فتوى
الشيرازي بوجوب القتال ضد الأنكليز ـ قبل وفاته ـ .
الوضع الدولي آنذاك كان من العوامل المساعدة والمحرضة على قيام
الثورة العراقية ، فانتصار ثورة أكتوبر العظمى في روسيا ونداء
السلام الذي أطلقته على أساس المساواة بين الشعوب الحرة وحق
تقرير المصير لكل الشعوب ، كل هذه الشعارات يومئذ ألهبت مشاعر
الثوار وشدت من عزائمهم ، كما أن عصبة الأمم نادت ، كذلك ،
بهذا الحق مما حفز الثوار على الثورة لتحقيق مطالبهم .
كانت انطلاقة ثورة العشرين من جنوب العراق \" الشيعي \" ،
بمبادرة من رجال دين وشيوخ عشائر شيعة قادوا هذه الثورة ، ضد
أحدث جيش وأعتى إمبراطورية استعمارية ، وأحرزوا انتصارا
تاريخيا عليها ، ولم يتحقق هذا النصر بالسلاح المثيل لما عند
المحتل ، فسلاح العراقيين الفعال دائما هي إرادتهم و\" الفاله
والمكوار \" عنوان لهذه الإرادة ، وسلاح المحتل المتمثل
بالمدفع والطائرة لم يحقق دائما النصر له ، ويحدثنا التاريخ عن
هزيمة الإنكليز في معركة الرارنجية التي خسروا فيها أفضل
وحداتهم ، عندما وقف العراقي وبيده سلاحه \" المكوار \" على
المدفع الذي كان يحصد الثوار ، لينطلق بأهزوجته المشهورة \"
الطوب أحسن لو مكواري \" ، فسر النجاح والتحدي للقوة كان مبعثه
الخطاب السياسي الوطني ، وليس الطائفي ، الذي استخدمه هؤلاء
القادة الوطنيين العظام ، فشعورهم بمسؤولية بلد تتعدد قومياته
وأديانه وطوائفه ، تطلبت خطابا عراقيا ، وطنيا ، لا لكنة
طائفية مفرقة فيه ، وهذا ما كانت تعاني منه قيادة قوات
الاحتلال طيلة وجودها في العراق ، حيث تقول مس بيل :\" من
الصعب علينا اختراق الوحدة الوطنية بين المسلمين الشيعة والسنة
..\" والإنكليز والحكومات الملكية المتعاقبة استخدموا مبدأ ،
فرق تسد ، السيئ الصيت إلا انهم فشلوا في تحقيق أهدافهم عن هذا
الطريق طيلة مدة بقاءهم في العراق ، حتى ثورة 14 تموز الوطنية
..فعلماء الدين اليزدي والشيرازي والأصفهاني والخالصي ومحمد
الصدر والشخصيات الوطنية ، مثل جعفر أبو التمن والشيخ ضاري
والشيخ محمود الحفيد لعبوا أدوارا مهمة وفاعلة في ترسيخ الوحدة
الوطنية ، عندما أجمعوا ، مطالبين بدولة عراقية ملكية دستورية
مستقلة من الموصل إلى الخليج . ووثيقة الشيرازي من كربلاء ،
تجسد هذه الوحدة حيث ورد فيها : \"..بعد مداولة الآراء وملاحظة
الأحوال الإسلامية وطبقا لها تقرر رأينا بان نستظل بظل راية
عربية إسلامية فانتخبنا أحد أنجال سيدنا الشريف حسين ليكون
أميرا عربيا علينا مقيدا بمجلس منتخب من أهالي العراق لسن
القواعد الموافقة لروحيات هذه الأمة وما تقتضيه شؤونها \" ..
كما ورد في وثيقة النجف الأولى حيث جسدت مطالب العراقيين \"
انتدبنا بعض علمائنا وأشرافنا ووجهاءنا ... لأن يمثلونا تمثيلا
صحيحا قانونيا أمام حكومة الاحتلال في العراق وأمام عدالة
الدول الديموقراطية ، والتي جعلت من مبادئها تحرير الشعوب ،
وقد خولناهم أن يدافعوا عن حقوق الأمة ويجهدوا في طلب استقلال
البلاد العراقية بحدودها الطبيعية ، العاري عن كل تدخل أجنبي
في ظل دولة عربية وطنية ، يرأسها ملك عربي مسلم مقيد بمجلس
تشريعي ، وهذه رغبتنا ولا نرضى بغيرها ، ولا نفتر عن طلبها
..\". كل الخطابات التي وجهتها قيادة ثورة العشرين ، قبل
الثورة وأثناءها ، وبعد أن دخلت في مفاوضات سلمية مع قوات
الاحتلال ، كانت مطالبهم واضحة لا لبس فيها ولا تطرف ، حقوق
العراقيين كل العراقيين ، تتمثل في حكم وطني عربي ( ليس
إسلاميا ) برغبة وإرادة وطنية عن طريق ملك قد اختاروه مقيدا
بدستور ، لم نجدا نصا صريحا أو مؤولا يشير إلى همٍ طائفي بعينه
، فالحديث والبيانات هي لكل العراقيين وباسمهم ، وتجسيدا للحكم
العربي ، قرر قادة الثورة ـ وأغلبهم من الشيعة ـ على اختيار
ملك للعراق من الهاشميين السنة ، ( أي مفارقة نعيش الآن ) وهذا
دليل واضح من انهم وما ينتهجون للعراق لم يكن مؤسسا على عقدة
دينية ـ طائفية ـ طائفية ، كما أن هؤلاء القادة ، وهم من
المراجع التي لا يمكن الطعن بعلمها ومبادئها ، بقدرتها
ومكانتها ، رغم قصور وسائل الاتصال آنذاك ، كانت متفتحة الذهن
على الحدث وفهمه ، ومواكبة لسيرورة الفعل وما يجري في العالم
من تغيرات ، فثورة أكتوبر الروسية لم تكن غائبة عنهم وكان لها
تأثير كبير على مجريات الصراع في العالم وفي منطقة الشرق
العربي ، وخصوصا على الشعوب المستعمرة والتابعة ، حيث فضحت
ثورة أكتوبر المعاهدات والأتفاقات الدولية التي تم بموجبها
تقسيم العالم..وهناك من يرى ، كما يذكر بعض المؤرخين ، علاقة
واتصال بين قادة الثورة العراقية وقيادة الثورة البلشفية التي
فجرها لينين في روسيا ، وما أشارت إليه وثيقة النجف (... أمام
عدالة الدول الديموقراطية ، التي جعلت من مبادئها تحرير
الشعوب..) يصب في هذا الإتجاه ..
إن الافتراق الذي حصل بين قيادة الثورة والملك فيصل الأول
الهاشمي الذي اختارته ، تم بعد إبرام معاهدة 1922 التي لم
تتضمن المبادئ الأساسية التي ناضلت من أجلها الثورة ، كما أن
الملك قد نَكَلَ عن وعوده التي قطعها للثوار عند المجيء به
ملكا للعراق ، وانحاز لإدارة الانتداب في تعسفها بنفي
المناوئين إلى خارج العراق، ولم يف بالقيم العربية التي يلهج
بها ، فإبعاد قادة الثورة من العراق كان لإصرارهم على رفض
إبرام معاهدة تنتقص من استقلال العراق وتشرعن بقاء قوات
الاحتلال تحت مسميات أخرى ، كما إصرارهم عدم الموافقة على قيام
انتخابات والمساهمة فيها ، الغرض منها قيام برلمان يصادق على
المعاهدة ويضفي الشرعية على اقوات الأنتداب ، وهذا ما ذهبت
إليه فتاوى المرجعية ، بل أفتت بتحريم المساهمة في السلطة
وتحريم الدخول في الجيش .. حصيلة الخلاف بين قيادة الثورة
والملك من جهة والثورة وإدارة الانتداب من جهة أخرى ، أن جرت
انتخابات تأسيسية في العام 1924 حيث أبرمت المعاهدة التي كرست
الاحتلال من جهة ، ومن الجهة الثانية أعلنت المرجعية سحب
بيعتها للملك ، الذي تنصل من كل مواقفه ووعوده التي أعطاها
لقيادة الثورة عندما جاؤا به ملكا للعراق ..
برهنت قيادة الثورة العراقية في كل ممارساتها بأنها لم تكن
للطائفة بل للعراق كله ، وذلك عندما اتفق الرأي حول اختيار
الأمير فيصل أحد أنجال الشريف الحسين ، ملكا للعراق ، وهو سني
، فهل كان انتخابهم له واقع تحت إكراه من أحد ؟ على سبيل
المثال من مجموعة ضغط سنية ، تتمتع بموقع نفوذ في هيئة إصدار
القرار لقيادة الثورة ؟ بالمطلق هذا الأمر لم يكن موجودا ، لأن
قيادة الثورة كانت شيعية بالكامل ، وقد تساوى لديهم الأمر
طالما هو مسلم وعربي ، وهم أعرف من غيرهم بحقيقة الخلاف
التاريخي ولا تجوز المزايدة على علمهم ، فطالما هو من بني هاشم
، وبني هاشم من قريش ، والحديث النبوي قد نص على أن \" الأئممة
من قريش \" ، ولأن قيادة الثورة قد تجاوزت عقدة الطائفية وما
عاد هذا الأمر يشكل عقبة أمام مستقبل الأمة والوطن ..! فهل نجد
مثل هذا الفهم في يومنا هذا الذي تعصف به الطائفية من كل جانب
وتريد تحويل العراق إلى تابع ذليل مجردا من قيمه وتاريخه
الوطني ..؟ لقد خسر الوطن والشعب ، الشيء الكثير عندما ابتعدت
قيادة ثورة العشرين الوطنية عن الملك والحكم ، وأخلت الميدان
للإنكليز وللانتهازيين وغلاة القومية ، أن يحكموا العراق على
هواهم ، ويشرعوا الدستور وفق مقاساتهم ، ويسنوا القوانين
المتوافقة مع عنصريتهم الشوفينية ، دون رادع ، وهذا ما أسس على
انتهاك الحقوق ومصادرة الحريات ، فكل ما حل بالشعب العراقي من
دمار على مدى الحكم القومي ، كان نتيجة لهذا الخطأ السوقي ، في
التعبير العسكري ، فهل سيتكرر الخطأ ذاته في ظرفنا الراهن ؟
عندما تنحاز \" الطائفة \"، وتساوم المحتل ، القوات الأمريكية،
على البقاء في الوطن دون أجل مسمى ليبقى الدمار والخراب
يلاحقنا ؟ فالطائفية ـ بنوعيها ـ اليوم تمارس معالجة أخطاء
الماضي ، كل من موقعه ووفق رؤيته ، بأخطاء فاضحة باعتبار أن
كلا منهما يمثل الشرعية التي افتقدها في يوم من الأيام ، دون
الأخذ بنظر الاعتبار موقف الشعب وقواه السياسية ، وما يعتمل في
الظرف العراقي والدولي ، فما كان يصلح في وقت مضى لم يعد صالحا
الآن ..! وإن اعتقد البعض من المتمسكين بالمظلومية التاريخية ،
أن من حقهم مصادرة حقوق الآخرين وإيقاع الظلم بهم ، نتيجة ظرف
شاذ أوصلهم لسدة الحكم ، اختلت فيه القيم وتواطأت المصالح
المتناقضة ضد الوطن والمواطن... إن القيم المتخلفة التي كانت
سائدة في العهد السابق قد تهدمت ، ولن يسمح الشعب مرة ثانية
لعودة قيم أخرى أكثر تخلفا وقهرا تعود به إلى عصر ما قبل ثورة
العشرين الوطنية ..
المذهل هو الاختلاف بين مرجعياتنا آنذاك واليوم ، ففي ثورة
العشرين كانوا هم الأمة والوطن واليوم هم الطائفة والقرية ، في
ثورة العشرين كانت لهجتهم فصيحة أما اليوم فرطانتهم أعجمية ،
فسبحان الله مغير الأحوال ! آنذاك وقبل أكثر من ثمانين عاما ،
خطاب المرجعية الموجه للعراقيين ، قد تجاوز زمن وقوع الحدث بما
لا يقاس عما يحدث عندنا الآن ، فالأفكار الوطنية والمتحررة من
النفس الطائفي التي صاغتها قيادة ثورة العشرين وأغلب رجالها من
مرجعيات دينية ، كانت متقدمة على أفكار الكثير من القادة
السياسيين ، ناهيك عن المرجعيات الطائفية في الظرف الراهن ،
وهذا ما يجعلهم ـ قادة ثورة العشرين ـ في مصاف الثوار العظام
الذين نفتقر إليهم اليوم في محنتنا حيث العراق وشعبه في خطر ،
فبدلا من أن تساهم مرجعياتنا الدينية ( من الشيعة والسنة على
حد سواء ) في درء الخطر عن الشعب ،وتتحسس هَمْ المواطن وحاجته
، ومحاربة الفوضى ، ولجم من يتحدث باسم الدين والطائفة عند ما
يتجاوز على حرية المواطن وحقوقه ، وعلى القانون وشرعيته، فبدلا
من المساهمة في هذا كله ، تراجعت المرجعية وانكفأت على نفسها
وما عادت تهتم بالوطن والأمة بقدر اهتمامها بنصرة طائفة على
طائفة ، وتغليب الباطل على الحق والعدل ، وشرعنة السرقة
ومصادرة أموال المواطنين ، وكأن الدين وأصوله ناطقان بالمقولة
البائسة : أنصر أخاك ظالما أو مظلوما ، ليتقدم الجاهل الخبيث
على العالم الجليل ، بالنصح والمشورة ، فتلاشت القيم الحقيقية
للدين وضاع جوهر العقيدة والتبس أمرها على الناس ..! وضاعت
حقوق الأمة التي طالب بها قادتنا الوطنيون العظام ، الذين
وحدوا العراق خلفهم ، في يوم من الأيام ، دون اللجوء إلى
طائفية أو عنصرية ..