انتفاضة معسكر الرشيد وحسن سريع وقطار الموت والظرف الراهن ..!

هادي فريد التكريتي

hadifarid@maktob.com


في 3 تموز من العام 1963 وقبل أن تجف دماء الشهداء الضحايا، أبطال المقاومة العراقية الوطنية، التي أراقها الفاشست أبطال \" عروس الثورات \" العاهر، في شوارع بغداد والكاظمية وعكد الأكراد والشيخ عمر والثورة، انطلقت دبابتان على متنها ثلة من غيارى جنود الجيش العراقي، لتغسل العار الذي ألحقه بالشعب، قوميون وبعثيون أوغاد، في الثامن من شباط الأسود، وكاد قائد الانتفاضة العريف الشهم، حسن سريع، أن يحقق الهدف عندما لملم زبالة الحكم وقادته، واتجه بهم إلى السجن العسكري رقم 1، في معسكر الرشيد، ليستبدلهم بالمناضلين الوطنيين من أطباء ومهندسين وضباط ومحامين وغيرهم من الكفاءات العلمية، الذين تم إيداعهم هذا السجن، بعد نجاح مؤامرة 8 شباط، لم يحقق قائد الانتفاضة حسن سريع الهدف، لاختلاف قي توقيت ساعة الصفر، ولخلل في ترتيب أولويات تنفيذ الانتفاضة، ولأنه ثائر حالم، كان يحلم بمحاكمة علنية وعادلة للمجرمين أمام الرأي العام، ردا على الجريمة الكبرى التي ارتكبها قادة شباط غداة اغتيال قائد ثورة 14 تموز الوطنية، عبد الكريم قاسم ورفاقه وهم أسرى عندهم، ما كان أروعك يا حسن سريع لو قلت \" واحدة بواحدة والبادئ أظلم \" ونفذت بهم إرادة الشعب ثأرا للشهداء، وقمت بتصفيتهم، واحدا واحدا، في صباح ذلك اليوم من تموز العراق، بدلا من الحوار الذي استدرجوك إليه والعهد الذي قطعوه لك، والأيمان المغلظة التي أقسموا بها من أنهم سيطلقون سراح كل السجناء والموقوفين ويعيدوا النظر بكل قراراتهم ومعالجة ما اقترفت أيديهم من جرائم .. نسي هذا القائد الحالم أن العملاء الجبناء لا عهد لهم، ولا ذمة أو ضمير، اغتالوه في الحال، وهو يفاوضهم واغتالوا أحلامه بغد تموزي يشيع الحرية والعدالة للجميع ..إنتهى الحلم، على أبواب سجن رقم واحد، وهو على بعد خطوات معدودة من تحقيقه، ورفاقه البالغ عددهم أكثر من 400 مناضل، ينتظرون، داخل زنازينهم وأعناقهم مشرئبة إلى سمائها لا ترى سوى حيطانا إسمنتية، وآذانهم ملتصقة بالكوى الضيقة لمعرفة مصدر واتجاه أصوات زخات الرصاص، رفاق حسن سريع، أمل الشعب، هم أيضا ضاعت أحلامهم، عندما شدد الفاشست الحراسة عليهم، وضيقوا الخناق حتى على قضاء حاجاتهم الإنسانية، وجمَعوا كل المعتقلين، في الساحة الضيقة، وهم في أسوء حال، نتيجة للإرهاق وللمعاملة أللا إنسانية، المفعمة بالضرب والسب والشتم والعبارات السوقية القذرة، وما رآه المعتقلون من حقد جسدته عيون الجلادين، تمثل لهم المصير المجهول الذي ينتظرهم، وتقدم إليهم جلادون قساة متمنطقين أسلحتهم وبأيديهم عصائب سود لعصب عيون الموقوفين، وحبال من ليف قاسية، لشد أيديهم إلى الخلف ولربط كل اثنين معا، حشروهم في عربات نقل لا منفذ لهواء لها، ووسط الزعيق والشتائم انطلقت الحافلات إلى المصير المجهول، والضحايا يتهامسون بصوت خافت، وكل يسأل صاحبه إلى أين؟ وبعد مضي وقت قلق ظنوه الدهر كله، توقفت سيارات الشحن لتفرغ حمولتها من أغلى القيم وأعلاها شأنا، هم كل مستقبل العراق وثروته، خمن الضحايا المكان الذي هم فيه من خلال زعيق مكائن الديزل، غدوها ورواحها، إنها محطة قطار، ولكن أي محطة هي؟ سُمِع لغط كثير، وأوامر تصدر من هنا وهناك، إلى الخلف ! أبعدوا هؤلاء أولاد القحبة إلى العربة الثانية ! لا تحاولوا أن تفكوا عصابة أحدا منهم، وإلا، أولاد الزنا سنضعكم بدلهم إن انتم خالفتم أمرنا ! هيا حركوهم إلى الداخل ! أغلقوا العربات ! هل قد تم تجهيزها كما يجب؟ نعم سيدي قد جهزناها كما طلبتم، أرضية العربات وجدرانها مطلية بالقار والنفط الأسود، وكل العربات قد أخرجناها من المرآب إنها جديدة سيدي ..! والضحايا تسمع دون أن ترى شيئا ودون أن تفهم إلى أين سيكون المصير ..! تقدم شخص ما من العربة وقال بصوت هامس : \" إنهم مجرمون سيقتلونكم نتيجة حرارة تموز وسيدفنونكم في الصحراء \" ..! ولكن أين نحن؟ تسائل الرفيق النقيب رشيد أبو خلدون؟ أجاب ذلك الشخص المجهول هامسا : \" أنتم الآن في محطة قطار البصرة، الساعة العاشرة مساء، وكل رجال الحكم هنا، عارف والبكر والحاكم العسكري العام رشيد مصلح الصباغ التكريتي وطاهر يحيى التكريتي، كلهم، كل أعضاء مجلس قيادة الثورة، من الرئيس إلى مدير السكك العام، كلهم هنا يشرفون على نهايتكم فرحين ! سينطلق القطار بكم بأدنى سرعة له الساعة الخامسة صباحا، وبعد أقل من ساعة ستشرق الشمس عليكم وستموتون اختناقا بالغاز المتولد من القار والنفط الأسود المتفاعل مع حرارة شمس تموز، أتمنى لكم النجاة وسأحاول أن أوصل خبر القطار لمن أعرف ! حظا سعيدا لكم \" ..! غادرنا بعد أن أغلق الباب، نزعنا العصائب من أعيننا، بعد أن تعاونا على فك الحبال، لم نعد نسمع كلاما، سوى أصوات الرفاق المرتبكة داخل العربة، والرؤيا ظلام في ظلام، فنحن في عربات حمل مصفحة، حُشر أكثر من أربعين شخصا في العربة الواحدة، ولا منافذ للتهوية فيها.. ! \" الفاشست الألمان كان أرحم من هؤلاء الخونة بضحاياهم \" ! قال الدكتورالجراح رافد صبحي أديب ..أجابه العميد إبراهيم الجبوري :\" صانع الأسطة أسطة ونص \"، دار حديث ولغط كثير وما عاد أحد يفرق بين الأصوات، فالأوكسجين بدأت كمياته بالتناقص داخل العربة المطلية بالنفط الأسود، ليدخل البعض في غيبوبة، وتحفظ البعض عن الكلام غير المجدي توفيرا للطاقة ومقاومة للواقع المستنزف للحياة ..وساد سكون لم يعد أحد يسمع فيه غير حشرجات موت وآهات ألم، في قطار حديدي محكم الإقفال، ساد صمت عميق في كل عربات شحن \" قطار الموت \".. ولم يعرف أحد منا الوقت الذي غادرنا فيه المحطة .! قالوا لنا بعد أن أسعفنا أهل السماوة الشرفاء، الحمد لله على السلامة، إن من أنقذكم هو سائق القطار حيث جاوز السرعة المرسومة لقطار حمل، كما جاوز هذا المواطن الأوامر التي صدرت إليه بتحديد السرعة .. لقد استشهد المواطن الرائد التركماني يحيى نادر، وآخرون نقلوا إلى المستشفى للعلاج، ليضم هذه النخبة الخارجة من الموت المحقق، سجن نقرة السلمان الصحراوي، ليعيش ويحكي كل من نجا لأحفاده قصة \" قطار الموت \"، وفق ما وقع له وعايش وحدث..! \" قطار الموت \" كان وصمة عار أبدية لدعاة الأمة العربية الخالدة، دعاة الحقد والكراهية،ولكل من ساهم في أعداده وأشرف عليه وسيره في 3 تموز من العام 1963، قطار كانت حمولته المئات من أفضل العقول التي أنتجتها قوميات وأديان وطوائف هذا الوطن، من العراقيين الوطنيين والديموقراطيين والشيوعيين ...؟
كانت على الدوام القوى الوطنية وجماهير الشعب، من مستقلين ويموقراطيين وشيوعيين، رأس النفيضة في مواجهة المخططات اللاوطنية الهادفة لإلحاق الأذى بالوطن وبالشعب، والثمن كان الكثير من الضحايا والشهداء، على مر العصور والعهود، منذ تشكيل الحكم الوطني وحتى اللحظة، أين حقوق كل هؤلاء الرجال؟ هل تذكرها أعضاء الجمعية الوطنية عندما طالبوا بحقوقهم أولا وقبل أن يفعلوا أي شيء.للشعب وللوطن؟ أين حقوق هؤلاء الضحايا وعوائلهم؟ هل الحقوق لمن هم في الحكم فقط؟ وحقوق دماء الشهداء التي عبدت الطريق لهذا اليوم؟ هل ضاعت في مجرى المزايدات والمحاصصة؟ متى يصدق العراقيون أن عهد الفاشية ولى ولن تكون فاشية جديدة تستكمل مقوماتها في الطريق قادمة إليهم؟ لن ينتهي الألم عند هذا اليوم الذي نحن فيه، فستسير قطارات أخرى أكثر دموية، وستدمر حلبجات نجهلها اليوم، غير حلبجة الكورد، وستحفر جرارات الطائفية مقابر جماعية تهون أمامها ما حفرته الجرارات القومية الفاشية، ولن يستقيم الأمر دون أن تترسخ مبادئ العدالة والديموقراطية والمساواة، قولا وفعلا، بين العراقيين كافة، والإقرار بالحريات العامة والخاصة واحترامها من الجميع، والسهر على تطبيقها، للرجل والمرأة، ولكل مواطن عراقي، من أي دين أو قومية أو مذهب كان، وجعل التعددية الفكرية والحزبية والممارسة لهما سمة من سمات الدولة العصرية، فما يحصل الآن في الكثير من مناطق العراق العربي ومدنه ما هو إلا شكل جديد من فاشية تلبس لبوس الإسلام الطائفي تسير باتجاه إلغاء كل المظاهر الحضارية والمدنية التي عرف بها الشعب العراقي، تحت عِلْم وبصر ومعرفة الدولة والحكومة ورجالاتهما ومؤسساتهما، دون أن نرى أو نسمع، من الجهات ذات العلاقة والمرجعيات الطائفية، إجراءات تحد من هذه الأنشطة وتوقفها، مما يدلل على وجود تواطؤ مسبق للقائمين بهذه الممارسات، ومَن ذكرنا مِن جهات، مع قوات الاحتلال، لإطالة معاناة العراقيين، وفرض واقع يحقق السيادة لأمريكا وديكتاتورية طائفية للعراق .. إن الحديث عن الديموقراطية وسن الدستور وصياغة فقراته، سيكون حديث خرافة، وسط أجواء هدر الحقوق وسلب الحريات، والتدخل في شؤون الناس، وحتى أمورهم الخاصة جدا، فمتى ما استتب الأمر لهذه الفاشية الجديدة فستلغي ليس الدستور وهيئة صياغته، وإنما كل مظهر من مظاهر المجتمع المدني، وسنعود من جديد لعهود انحطاط الطوائف، وآنذاك سيسود الظلام وعلى الشعب العراقي السلام ... !!

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com