|
انهيار الإمبراطورية الأوربية من قبل أن تنشأ
د.هادي نعيم المالكي لقد كان تصويت الشعب الفرنسي برفض الدستور الأوربي، والذي لحقه في ذلك الشعب الهولندي، إعلانا واضحا وصارخا من الشعوب الأوربية المرفّهة برفض فكرة الإمبراطورية الأوربية التي ما برحت تخامر عقول الساسة الأوربيين وخاصة منهم الفرنسيين والألمان، في محاولة منهم لإعادة إنتاج الإمبراطوريات الأوربية القديمة الفرنسية والبسماركية، وربما حتى دولة الرايخ، ولكن بشكل معاصر وباعتماد الأساليب الحاضرة في الاتحاديات الفدرالية بين الدول . فسَّر البعض هذا الرفض على انه نوع من الاحتجاج على السياسية الاجتماعية المتراجعة في فرنسا، وفسَّره آخرون على انه تمسك الفرنسيين بالأمة الفرنسية التي يخشون أن تضيع خصائصها وملامحها المميزة في خضم الموج الأوربي العارم، وهو السبب الأرجح من الأول . بيد أن السبب الحقيقي لذلك الرفض التاريخي أكثر عمقا من ذلك، فأرى إن هذا السبب يكمن في رفض الشعوب المرفّهة، إلى حد كبير، لأي طموحات إمبراطورية لساستهم . فمحاولة تشكيل أوربا موحدة هي بالأساس، كما هو معروف، فكرة فرنسية وألمانية بالأساس حاول من خلالها الفرنسيون والألمان أن يتخلصوا من تجاذبات وربما سيطرة القطبين الرئيسيين في الحرب الباردة وهما الاتحاد السوفيتي سابقا والولايات المتحدة، وذلك من خلال إنشاء قطب أوربي ثالث منافس للقطبين الأولين تحتمي أوربا في ظله . فقد ظلت سياسية فرنسا ديغول، وما بعده، مسكونة بهذا الطموح وبالرغبة في الابتعاد عن الولايات المتحدة وترك مسافة كبيرة بينهما، وما انسحاب فرنسا من حلف شمال الأطلسي في الستينات إلا واحد من الأدلة على ذلك، ثم جاء شيراك ووزير خارجيته دوفليبان لتتركز سياستهما على المكانة والنفوذ الدولي ولكنها سياسية سرعان ما فشلت بخسارة فرنسا لمواقع تقليدية لها في أفريقيا مقابل امتداد النفوذ الأمريكي لتلك المناطق . ثم جاء رفض الشعب الفرنسي للدستور الأوربي ليوجه ضربة قاصمة لطموحات شيراك وسياساته . فالرفض الفرنسي للدستور الأوربي إنما يمكن لأصل الفكرة نفسها، فالمواطن الفرنسي ومن خلفه، إلى حد كبير الأوربي، برفضه المدوي هذا، إنما يضع سؤالا كبيرا عن اصل الغاية من إقامة دولة أوربية واحدة وكبيرة، أي إمبراطورية أوربية . فالمواطن الفرنسي المرفّه والسعيد والآمن والمطمئن على أمنه الداخلي والخارجي، ومثله مواطني الدول الأوربية الغربية الأخرى، ما الحاجة به إلى إقامة إمبراطورية أوربية يفقد فيها سيادته واستقلاله وحريته في تصريف سياسته الخارجية ويشاركه في ثرواته الوطنية فقراء أوربا الشرقية ولن يمكنه لاحقا الانفصال عن هكذا إمبراطورية إلا بحرب أهلية ربما على غرار الحرب الأهلية الأمريكية، ما الحاجة به إلى ذلك ؟ لا حاجة به البتة إلى أمر من هذا القبيل وهو المرفّه السعيد الآمن المطمئن . نعم لا بأس بالاتحاد الأوربي الذي يتمكن في ظله مواطني الدول الأوربية الداخلة في الاتحاد من الانتقال بين دوله بكل حرية والإقامة والعمل والاستثمار في دول الاتحاد المختلفة، ولكن هذا لا يعني أن تتحول أوربا، من وجهة نظر المواطن الفرنسي، إلى أوربا موحدة تمثل إمبراطورية كبرى يرضي في ظلها الساسة الأوربيون طموحاتهم الإمبراطورية في مناكفة الولايات المتحدة على حساب راحة وحرية وسعادة المواطن الأوربي العادي . لو كنت مكان المواطن الفرنسي أو مكان المواطن الهولندي، لقلت لا وألف لا لأي دستور أوربي من هذا القبيل.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |