14
تموز: زعيم ظلنماه حيا ونفتقده اليوم
عزيز
الحاج
14 تموز الجاري هو الذكرى
المجيدة لثورة 14 تموز العراقية لعام 1958. نحتفل به كما يحتفل الفرنسيون
بثورتهم التموزية. ليس مقالي اليوم تحليليا ولا دراسة أو بحثا للثورة،
ومراحلها، وأسبابها، ونتائجها، ومصيرها. كلا؛ بل إنها تداعيات الذاكرة والخاطر
مما يثيره عندي هذا اليوم التاريخي، الذي احتفلنا به ونحن لا نزال في السجون.
إنها تداعيات المقارنة بين تلك الأيام وما يمر اليوم بالعراق، ومقارنة بين عبد
الكريم قاسم وحكامنا اليوم.
أجل، ظلمناه حيا؛ ظلمته جميع القوى الوطنية الحزبية من كل التيارات والمراجع
الدينية بالمذهبين السني والشيعي. وظلمته أولا وحاربته بشراسة القوى الإقليمية،
وخصوصا مصر الناصرية التي نظمت وقادت اعنف الحملات السياسية والتآمرية لإجهاض
وقتل الثورة لربط العراق بالنظام الشمولي المصري عهد ذاك. تآمروا عليه كما تفعل
معظم الأطراف الإقليمية اليوم بعراق ما بعد صدام، وبحمى مماثلة، وبإعلام أكثر
صخبا وخبثا، وبتدخل متعدد الأشكال والأساليب: من تسلل الإرهابيين كما تفعل
سوريا البعثية، وإلى تدفق أموال خليجية لتمويل الأصولية الفاشية ضد العراقيات
والعراقيين، وإلى التغلغل الاجتماعي والسياسي والمالي والثقافي كما تفعل إيران
خميني، التي كادت تبسط سيطرتها التامة على مدينة البصرة وعلى الجنوب وغدا على
المراقد الشيعية المقدسة، والتي تستخدم أتباعها كمقتدى الصدر لتنظيم المظاهرات
الداعية لخروج القوات الحليفة، وهو ما تريده إيران وسوريا وكل أعداء الشعب
العراقي ليتسنى لتلك الأطراف مواصلة العبث بالعراق، وذبح العراقيين، وليصفي كل
من هذه الأطراف حساباته مع المجتمع الدولي.
ليس من المبالغة الحكم بأن العراق لم يشهد حاكا بمثل سماحة ونبل ونزاهة عبد
الكريم قاسم، وروحه الوطنية العراقية المتأججة، وحرصه على تحسين أوضاع الفقراء،
واحترام حقوق المرأة، وتعريق الشركات، وتشجيع الاقتصاد الوطني والصناعة، وما
وجه من ضربة قاصمة لنفوذ الإقطاع، والنهضة بالفلاحين. لم يكن قاسم بلا أخطاء،
وبأخطاء فادحة أيضا، ولكنه أحيط منذ اليوم الأول بحركات التآمر القومي البعثي ـ
الناصري، وبالصراعات الحزبية الدموية، لا سيما بين التيارات القومية والشيوعية،
ومحاولة أحزاب المعارضة بالأمس الاستئثار بالثورة. حكم قاسم منذ اليوم الأول
بين تيارات سياسية وحزبية لم تعرف الاعتدال والمرونة والحوار والأخذ والرد،
وحتى الزعيم الديمقراطي كامل الجادرجي كان متعسفا ومتشنجا في التعامل مع قيادة
قاسم وشخصه، خلافا لمحمد حديد، ذلك الرجل المجرب والمعتدل، وبعيد النظر، وحكم
قاسم بأجهزة حكومية غير نظيفة كان يعشش فيها أعداء الديمقراطية والثورة.
كنا جميعا على درجات متباينة من ضعف التجربة، وقلة النضوج السياسي، والخضوع
لمنطق الفعل ورد الفعل. أتذكر أن المرحوم أبي عاتبني ذات مساء كشيوعي عهد ذاك
على التشنج وسوء التعامل مع قاسم، ولم يكن جوابي غير الغضب وترك الدار أياما!!
لم يُعد النظر وبعمق وصراحة في مواقفه أمس أي حزب سياسي وطرف وطني ساهم في
الأخطاء المدمرة التي قادت تدريجيا لقيام نظام الفاشية الصدامية. كان النقد
الذاتي للبعض خجولا والبعض الآخر بلا نقد ذاتي. صحيح أن العديد من الشخصيات
التي حاربت الزعيم الراحل بالسلاح والتآمر عادت لحسن تقييمه والإشادة به كعراقي
صميم، ورجل دولة لا يعرف أي تمييز عنصري أو ديني أو مذهبي؛ ولكن هذا الاستدراك
المتأخر والمطلوب لا يكفي لمن ساهموا بالخطأ الكبير في هدم الثورة، وتمكين
القومية العدوانية من نحرها، واغتيال زعيمها الفذ بأبشع الأساليب السادية
والبربرية وأمام عدسات التلفزيون. وقد عاد الزعيمان الكرديان الأخوان برزاني
وطالباني لتقييم الراحل عاليا جدا، ولكن لا بد من الإقرار بأن رفع السلاح ضده
عام 61 وبلا استنفاد للمساعي السلمية ساعد أعداء الثورة على سحقها.
نفتقد الزعيم المغدور أكثر وأكثر هذه الأيام، التي غاب فيها الشعور الوطني
المشترك، وطغت الولاءات المذهبية والحزبية في الشارع و لدى معظم الأطراف
الحاكمة، وحيث الفساد الإداري منذ مجلس الحكم ولحد يومنا أصبح مكشوفا للجميع.
ونعود اليوم لنجد عصابات البعث الصدامي نفسها، [لا اعني نفس الأشخاص] ، تحفر
للعهد الجديد، وتسفك الدم العراقي مهدرا مع عصابات الفاشية الأصولية الزرقاوية.
إن ثورة 14 تموز بدأت انقلابا عسكريا، ولكنها تحولت حالا إلى ثورة شعبية ولصالح
الشعب، ويعود فضل كبير في ذلك لشخص عبد الكريم قاسم وميزاته الشخصية، ووعيه،
ووطنيته الراسخة، وتفانيه من أجل الشعب وفي سبيل العراق. وقاسم هو واضع العلم
العراقي الجديد، الذي مسخوه من بعده، ولا أدري لماذا لا تقرر حكومة اليوم
والجمعية الوطنية إعادة رفعه كعلم وطني!
تحيات الحب لذكرى 14 تموز
ولزعيمها الراحل!
|