|
إشكالية الشريعة الإسلامية والدولة والقانون الوضعي (المنظومة السماوية وإدراك العقل البشري) محمد الموسوي /باحث قانوني تحتوي الشريعة الإسلامية على جملة من الأحكام يتعلق البعض منها بتنظيم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بالآخرين كأفراد وعلاقته بالمجتمع باعتباره كائناً اجتماعيا يؤثر ويتأثر في المحيط الاجتماعي ، وبهذا فقد جاءت الشريعة بقسمين من الأحكام ، الأول يتعلق بالعبادات والآخر يتعلق بالمعاملات حيث يمكن أن نطلق على القسم الأول وصف الدين بمعناه الخاص وأن كان القسم الثاني لا يخرج عن نطاق هذه التسمية بمعناها العام الذي يتضمن القسمين معاً . كما أقرت الشريعة مبدأ الثواب والعقاب كجزاء لتطبيق أو مخالفة الأحكام المتعلقة بالقسمين المذكورين . وقد أختلف الرأي حول اعتماد أي من القسمين في قانون الدولة التي ترغب في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فذهب البعض إلى أن الشريعة بقسميها تعدّ قانوناً يحكم الدولة والأفراد معاً في حين يرى البعض الآخر أن القسم الأول المتعلق بالعبادات يجب أستبعاده عن القوانين التي تعتمدها الدولة بل أن تطبيقها يؤدي إلى ( طلبنة الدولة ) وهو الأمر الذي أثبت فشله في تحقيق الدولة العصرية وضمان حقوق الإنسان ( بسبب اختلاط ما هو مقدس بما هو غير ذلك ) ، أما القسم الثاني وهو المتعلق بالمعاملات والجزاءات المتعلقة بها يمكن تطبيقها وأن اختلفوا حول التطبيق المباشر من الشريعة أو من خلال اعتمادها في قوانين تسن لهذا الغرض . فضلا عن من يرى استبعاد الشريعة تماما من القانون وان اختلفت الحجة على مذهبين ، يرى الأول أن الاستبعاد بسبب ما الصق بالشريعة من تشويه بفعل الاجتهادات البشرية التي أوجدت في الشريعة ما ليس فيها و وقد فضّل أصحاب هذا المذهب اعتماد العقل والمبادئ العامة للاجتماع الإنساني في سن قوانين تنظيم الدولة والأفراد وهو ما يمكن أن نطلق علية تسمية (العلمانية المؤمنة) والتي تجد لها قبولا منطقيا من حيث الواقع أما المذهب الثاني فيرى استبعاد الشريعة السماوية لعدم اعترافه بما هو سماوي أصلا وهو ما يمكن أن يطلق عليه (بالعلمانية الكافرة) والتي يرفضها جميع الموحدين دون استثناء. وبغض النظر عن الطريقة التي يعتمدها أي من الرأيين السابقين لابد من الإشارة إلى أن الشريعة وهي تحدد الأحكام بأنواعها المختلفة لم تأت بصيغة النصوص الجامدة التي نعرفها في التشريع الوضعي بل اعتمدت أسلوباً غاية في الكمال ذلك أنها عالجت التنظيم الإنساني من كل جوانبه المادية والنفسية دون أن تغفل جانباً قد يكون سبباً في المخالفة البشرية للأحكام لتكون بمجموعها منظومة سماوية متكاملة تنظم حركة البشرية ،فلم تأت الشريعة بحكم الجلد أو الرجم على الزنىابتداءا بل عملت على إقرار تعدد الزوجات ومنع غلاء المهور وإقرار الكفاءة الإنسانية بين الرجل والمرأة دون النظر إلى ماله أو شكله أو حسبه أونسبه بل لدينه وتقواه فقط إضافة إلى حث الآباء على تزويج الأبناء ( من أستطاع منكم الباء فليتزوج ) مع ضمان الشريعة بجملة من الأحكام التي تكفل سعادة الأسرة وأسس التعامل التي يجب أن تقوم عليها في علاقاتها الداخلية أو الخارجية من واجبات الزوج والزوجة والأقارب والأبناء والجيران والآخرين عموماً و قد تعاملت في ذلك بطريقين أحدهما نفسي والآخر موضوعي وبعد ذلك كله جاء تجريم الزنى والعقاب عليه . وعلى ذلك يجب التنبيه بعدم جواز إغفال جزء ما من هذه المنظومة وتطبيق جزء ، فهذا التبعيض يؤثر حتماً على تكامل المنظومة بآليات تصل بمجموعها إلى الهدف العام وهو سعادة البشرية وخيرها . فلا يمكن مثلاً التمسك بأحكام العقوبات المتعلقة بجرائم السرقة وإغفال ما أوجبته الشريعة على الحكام والأفراد من واجبات مالية وعدالة تنظيمية وسياسية و اقتصادية فلا يمكن الاستئثار بموارد المجتمع لفئة معينة وقطع يد السرّاق من خارج هذه الفئة من المحرومين حيث أن القول بذلك مصادرة لمقاصد الشريعة ، ذلك أن التشريع السماوي منظومة متكاملة بتكامل جوانب الحياة سياسياً واقتصاديا واجتماعيا وثقافياً أو موضوعياً ونفسياً فكل شيء مترابط كالعقد المنظوم إذا ما انفرطت منه حبه تداعى بأكمله وكل جزء يؤدي إلى الأجزاء الأخرى ويرتبط به . ثم أن الشريعة وهي تحدد القانون العام لحركة البشرية ضمن الحركة العامة للكون بجميع المخلوقات تدرك – لان مشرعها هو العليم الحكيم الخبير – إن الإنسان متغيّر الطباع وإن البيئة متغيّرة الخصائص وإن الزمن متغيّر الآليات وعلى هذا فإن الأحكام تتغير – في طبيعة التعاطي بما يحقق مقاصدها – بتغير الزمان والمكان والأشخاص ، وهو الأمر الذي أوجب القبول الفلسفي لدور العقل في البحث والاستنباط وأبعد الشريعة عن الجمود والتآكل والانحسار . وهنا تثور الإشكالية التي أدت إلى حدوث كوارث ثقافية دفعت المجتمعات من تنظيمها وتطورها ودماء أبناءها الكثير ، وهي إشكالية التطبيق فهل ما يستنبطه العقل جزء من الشريعة ومقدس كقدسيتها وبالتالي لا يجوز تبديله أو الخروج عليه إذا ما تبدل الزمن والمكان والأشخاص وهو ما يقول به السلفيين ، أو هناك إمكانية لفصل الثابت عن المتغير وتقرير الثابت والبحث عن آليات جديدة لهذا التغير . ويرى الكثيرون إن ما سار عليه الأشخاص سابقاً يمكن استنساخه على الحاضر وهو أمر لا شك فيه الكثير من المغالطة من جهة وانحسار الفهم عن مقاصد الشريعة من جهة أخرى فكما قلنا أن الشريعة حرمت وعاقبت على الزنى بعد أن استكملت منظومة الزواج بجميع جوانبها وعاقبت على السرقة بعد استكمال كل ما يتعلق بالجانب الاقتصاد للبشر ، فلا يجوز اليوم وقد انتهكت تماماً منظومة الزواج أو منظومة الاقتصاد وضاعت أحكام الشريعة فيها إن نتمسك بعقوباتها فقط وهو منا يبرر نظرة منظمات حقوق الإنسان في اتهام الشريعة الإسلامية بالقسوة والتعذيب . مع العلم إن ما ساعد على انتهاك التكامل بالشريعة ، في جزء منه ، الفتاوى التي أدينت المصالح أو تصرفت حسب الواقع في حينه وتم استنساخ أحكامها دون النظر لجدلية الثابت والمتغير والمقدس والاجتهاد . وهذه الإشكالية جعلت من تطبيق الشريعة أو اعتماد عقوباتها في القانون الوضعي للدولة العصرية محل شك في الصلاحية وخلاف ، لا بل أن طريقة التطبيق هذه أساءت إلى الشريعة نفسها فلايمكن أن نفهم أن في نيجيريا تستباح الحقوق وتسرق مسلّمات الحياة ويطالبون بتطبيق الرجم على الزنا وقطع اليد على السراق ، كما لايمكن فهم دور المطوّعين في السعودية وطريقة حكم آل سعود أو ما قامت به دولة الخلافة الطالبانية في أفغانستان أو بعض ما تقوم به دولة ولاية الفقيه في إيران أو ما يتم الجدل فيه بمناسبة إعداد الدستور الدائم للعراق. إذن لكي نطبق الشريعة علينا آن نفهم مقاصدها والية التدرج التي اعتمدتها في بناء الإنسان نفسياً وموضوعياً واجتماعياً ومن ثم البحث في مرحلة تطبيق العقوبات لا العكس الشائع وهو ما يجب على الدولة العمل عليه إن صدقت نيتها في تطبيق شرع الله إذ عليها إن تسير بنفس عملية البناء الهرمي الذي اعتمدته الشريعة وأن تبدأ كما بدأت ومن ثم تنتهي إلى ما انتهت إليه . وهذه العملية استغرقت في بناء الشريعة الإسلامية آلاف السنين حيث ابتدأ الله وضع القواعد من آدم وأنهاها في رسالة المصطفى ( ص ) . أن الاستخدام الخاطئ لمفهوم الشريعة ومقاصدها واختلاط الجهد الإنساني في الاستنباط بالمقدس الوارد في الأحكام وظهور المغالاة والتكفير جعل من المجتمعات الإسلامية مجتمعات غير سوّية قد فقدت أسس التطور والاستقرار وهو ما يتحمله الجيل السابق والحالي من المسلمين والذي أوصل الأمر إلى ما نحن عليه الآن من قتل وتدمير وفرقة وخراب ومفخاخات . وبناء على ما تقدم ولكي نصل إلى الدولة المؤمنة لابد من العمل منذ الآن على الآتي :- 1- فهم مقاصد الشريعة بصورة عميقة . 2- فهم مبدأ التدرج والتكامل ومعرفة الثابت والمتغير من الأحكام . 3- فصل المقدس من الاستنباط العقلي غير المقدس . 4- فهم طبيعة التغير في الزمان والمكان والأشخاص . 5- التأكيد على حقيقة أن ما يصلح العباد ما قرره له خالقهم -لانه الأقدر على معرفتهم- وبين الأحكام التي تؤدي في النهاية إلى سعادتهم جميعاً . 6 – أما ما يتعلق بالدولة الحديثة وطريقة تعاملها مع الشريعة فيجب أن يفهم إن طريقة إدارة الدولة ونظام الحكم من الأمور المتغيرة التي يجوز فيها اختيار الوسائل المناسبة والمحكومة بقاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان وأن الشريعة حددت مبادئ الحكم وواجبات الحاكم العامة في تحقيق الحرية والعدل والأمن والكرامة الإنسانية مع ضمان تطبيق المقومات التي تبني المجتمع الإيماني والذي عالجته الشريعة بالتدرج والتكامل النفسي والمادي 7- معرفة أن كل قانون يوضع الآن يجب أن ينظر إلى ما يحققه من سعادة للبشرية دون محاولة زجّه بمصطلح معين كالقانون الإسلامي أو الشريعة أصل التشريع لان هذا المصطلح واقعاً قد داخله الكثير من التشويه سوء الفهم الأمر الذي لم يعد من خلاله قادراً على مواكبة الحركة البشرية المتطورة لا بل أنه أضحى تهمه إرهابية تجلب على المسلمين الويلات وهو ما يحاول أعداء الدين استغلاله ببشاعة ساهم المسلمون فيها بصورة مباشرة وغير مباشرة . 8- معرفة إن هناك نوعين من الأحكام القانونية في الشريعة منها ما يتعلق بالحدود أو العقوبات المنصوص عليها ومنها ما ترك للتعزير والنوع الأول يجب النظر في تطبيقه إلى ما قلناه عن تدرج وتكامل الأحكام وأخذ مقاصد الشريعة وطريقة البناء المنطقي لها في العامل مع الإنسان أما الثاني فيجب أخذ تغير الزمن والمكان والأشخاص أساساً في تقريره وعدم الاستنساخ البشري لما سبق من تناول لموضوعاته واعتماد العقل والبحث العلمي للوصول إلى القواعد التي تضمن الحرية والعدل والأمن. 9- التركيز على القوانين التي تحقق الحرية والعدل والأمن بحسب الترتيب دون أشغالها بالمصطلحات والمرجيعيات وبذلك نحقق مقاصد الشريعة الإسلامية دون الدخول بالخلافات الثقافية التي في جزء كبير منها إساءة واضحة للشريعة السمحاء . 10 – إنشاء مركز للبحوث الإنسانية يضم خبراء من علم الاجتماع وعلم النفس والعلوم السياسية والعلوم القانونية والاقتصاد واللغة العربية يدرس كافة النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ويقارنها بالشريعة الإسلامية – بالمعنى الذي شرحناه آنفاً – والتوصل إلى نقاط الفراغ فيما بينها للخروج باليات تحاول الوصول إلى مقاصد الشريعة وفهم آليات المنظومة السماوية للحركة البشرية وذلك باعتماد المنهج العلمي التجريبي المتحرر من الحزبية أو الشوفينية بغية التوصل إلى مبادئ عامة تساعد على فهم الثابت والمتغير وطريقة التعامل معهما لتحقيق سعادة الإنسان. 11- واخيرا نشدد على أن كل عمل وكل كلمة تكون النتيجة المتحققة منها في الواقع سعادة الإنسانية هي ما يريده الله صاحب الشريعة منّا بغض النظر عن مرجعية هذا العمل وهذه الكلمة أو اسم المصدر المستقاة منه. وعلى هذا فليعمل العاملون والعاقبة للمتقين.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |