|
مقاومة الإقصاء والتهميش والكسل الفكري تعيد راهنية الفكر القومي إلى الإشعاع
بقلم: نضال القادري
إن التشكيك بواقع الفكر القومي في البلاد السورية والبلاد العربية لم ينقطع حبله السري منذ نشوء فكرة القومية، ولم يتسن لمروجية الراحة يوما من الأيام تحت ذرائع واهية منها ما هو سياسي بحت ومنها ما هو إيديولوجي ومنها ما كان يرمز له بأنه كفر وافتراء على جوهر الدين الذي وجب أن يكون السيف البتار في كل شؤون لناس والعباد والرعايا على اختلاف أمزجتهم سواء أكان الدين عاملا مؤثرا في نشأتهم الهيولى أم كذلك لم يكن. من هنا كانت الأطروحات التأسيسية لتنظيم أقانيم الحياة جوهرية في الطرح الأيديولوجي وبراقة عند معتنقيها ومروجيها عمليا، وأضحت فكرة الوحدة بحد ذاتها فكرة إشكالية بحتة، وجب طرحها من وجهة نظر المؤمنين بها في الصالونات السياسية دون ان تكون ثقافة وطنية ذات مفهوم شعبي ناظم لها من ألفها إلى يائها، وفكرة الصالونات السياسية لم تكن ذات يوم عملا بأحكام إلهية أو مردها إلى ما قد يعرف بنظرية الشورى في الإسلام، بل مرده إلى أفكار إنتدابية خارجية قسمت قاطني الوطن الواحد والدولة الواحدة إلى أقليات إتنية ودينية وطائفية وعشائرية أو ربما جمعتهم بميثاق قبلي توافقي تحت ذرائع واهية حتى دخلنا عصر الجاهلية البدائي من ناحية النظر إلى المسألة القومية، وهذه العملية أدت إلى خلط السياسة اليومية بالتدرج في التفاصيل الصغيرة من دون تدقيق وتمحيص فأضحت السياسة تتحكم بأرزاق الناس وبكافة ولاءاتهم وبثقافة العقد الإجتماعي وأقانيمه في الوحدة الداخلية والحرية والسيادة والإستقلال. في هذا المجال يشير سعادة في (الرسائل، الجزء الثالث، ص631) إلى أهمية العمل بقاعدة التدقيق الشديد في المسائل العقائدية والفكرية مع الرفقاء الذين أمن بهم كبنية أساسية في منظومة الحزب السوري القومي الإجتماعي الذي يمثل دولة الأمة.. وإذ يدرك سعاده إمكانية، بل أرجحية التأويل الخاطئ لموقف الحزب من قبل أتباع المدرسة الأخلاقية القديمة في السياسة، يوضح حقيقة الموقف القومي الاجتماعي كما يلي: "يقول لنا البعض: (لستم سياسيين)، المسألة تحتاج إلى مرونة سياسية... نحن لسنا بهذه الصعوبة وهذه الصلابة في السياسة التي يتصورها الواهمون الجاهلون، ولكننا لسنا بهذه السهولة في معترك العقائد، معترك الأهداف والمبادئ والغايات والأسس الأخلاقية التي لا تنهض أمة إلاّ عليها. نحن نتساهل في السياسة ولكنهم لا يقدرون أن يحولوا عقائدنا إلى سياسة، وسياستهم إلى عقائد لنا". واستكمالا، قد يقول قائل بأن الدين لم يحكم في أي بلد في كل شؤون الحياة، فلماذا لا نعطيه فرصة ليكون عبرة لكل مشكك ومكفر لفكرة الوحدة الدينية التي يعتبرها أصحابها من مرتكزات الفكر الديني القومي؟ وقد يقول قائل أخر من المختلفين مع الفكر الديني بأن الفكر الديني هو أساس المعضلة وبأنه لا يمكن أن يوحد في الحقوق والواجبات والمعاملات من هم من غير معتنقيه ومحبذيه، من هنا لا يمكن لأي فكرة أن تنتصر فقط بجمهورها ولا يمكن النظر فقط إلى صوابية الفكرة وصدقيتها من مروجيها وأتباعها، إذا يجب في المفهوم العلمي أن لا تساير الفكرة أو تراوغ أو تهادن أي نص مخالف فقط من أجل مكاسب أنية للفكرة ذاتها أو لمطلقها أو لمروجها وذلك بالقفز فوق حاجات المجتمع الذي يطمح أهله العاقلون العلميون لصنعه، لا على أسس عاطفية سواء أكانت العاطفة تلاقي فكرة المجتمع المدني بطريقة بحتة أو تناقض المجتمع الديني بأي طريقة في كثير من مكنوناتها. إن الضعف في بلادنا يكمن في عدم تحديد مسارات واحدة للمجتمع على أسس ثابتة واقية حتى لا يقع في محظورات الهجانة والتفتت. ففي البلاد السورية كما في العربية أيضا، المشهد يكاد يكون متشابها ومتطابقا في نتائجه المستمرة والمتراكمة، مع فرق واحد هو أن مجتمع البلاد السورية قد تعرض لحروب وهزائم مادية ومعنوية جراء إحتلال أجزاء كبيرة من أرضة من كيان الإغتصاب اليهودي الذي جعل مركزه فلسطين التي لطالما شكلت حاوية لأتباع الفكر القومي بشقه الديني ولمفهوم الفكر العلماني، والتي لطالما شكلت أيضا منطلقا صراعيا نحو الحياة والحرية على أوسع مفاهيمها. أيضا، ربما يزيد تفاقم المشاكل الموازية للحالة المذكورة من تفشي أمراض الأمية والفقر والعوز والبطالة وانعدام التخطيط. كذلك غياب الدراسات اللازمة للخروج من الأزمات هو مصدر قلق مضاف يشكل بحد ذاته ثقافة سلبية بأن أمور البلاد لا يتحكم فيها العباد وأبناء الوطن الواحد بل الأقدار والخيانات والصفقات والأمركات والصهينات، وما صالونات السياسة "الضيقة دائما" مهما اتسع فيها الحضور في الكمية والنوعية إلا فكرة هشة لا تلاقي منطلقات الفكر القومي العلماني الذي يقر بالدين كرسالة ثقافية، ولكن ليست وحيدة وكافية لإقامة عقد إجتماعي تتوفر فيه دورة الحياة الكاملة، وبين منطلقات الفكر الوحدوي الديني الذي يمازج بين الدين كأساس وحيد لأقامة العقد الأجتماعي وبين قومية الأمة كنتاج لهذا العقد. وفي ذلك يقول باعث فكر النهضة السورية القومية الإجتماعية أنطون سعادة في كتابه "نشوء الأمم": إن الدولة القومية تقوم على "إرادة عامة ناتجة عن الشعور بالاشتراك في حياة اجتماعية اقتصادية واحدة.. فالدولة القومية تتميز بأنها لم تعد تجبل الأقوام جبلاً في مساحة من الأرض، التي تبسط ظلها عليها... وهي لا تقوم على معتقدات خارجية أو إرادة وهمية، بل على إرادة عامة... الدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتماً.. إنها لم تمثل التاريخ الماضي، ولا التقاليد العتيقة ولا مشيئة الله، ولا المجلد الغابر، بل مصلحة الشعب ذي الحياة الواحدة". ومن أبرز التحديات البارزة في أيامنا الحاضرة لفكرة القومية بمفهومها الواسع هو الغايات المشبوهة والفاسدة اخلاقيا في ترتيب البيوتات العربية والسورية على مقاسات محلية زائفة تخدم فكرة العولمة المتوحشة في إفراغ الحواجز الواقية لكل ما هو وطني وإحلال ثقافة مغربة ومعربة تخدم مصالح فئة قليلة تشرع لها الباب والشباك وكل القوانين الضرورية لخرق المجتمع تحت ذرائع "الخصخصة" أو "إعادة هيكلة القطاعات" أو "إعادة تشغيل وتطوير البنى التحتية"، وذلك كله لمواكبة التطورات التقنية التي ينظر دوما إلى مجتمعاتنا على أنها تابعة وناقصة وقبيحة ومستهلكة، وبالتالي قاصرة على تحديد مفاهيمها في مجالات الكون والفن والجمال.. وفي ذلك يقول المفكر أنطون سعاده في مقالة عام 1942: "كلا لم يكتف زعيم الحركة السورية القومية الاجتماعية بطلب الحرية والاستقلال، ففضلاً عن تعيين الأمة، وتحديد القومية، وإيجاد عقيدة وحدة الأمة، فقد نظر الزعيم في مستقبل الأمة، وما يجب أن تصل إليه من الارتقاء والبحبوحة والعدل الاجتماعي – الاقتصادي، فوضع لهذه الغاية المبدأ الإصلاحي الرابع من مبادىء الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يتضمن العقيدة الاجتماعية للسوريين القوميين الاجتماعيين وهو: إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصالح الأمة والدولة.. وبناء على كل ما تقدم يبرع المفكر اسماعيل أبو البندورة بطرح فكرة تجديدية قابلة عمليا لأن تكون إشكالية في مضمونها إذا ما اصطدمت بالفكر الديني قائلا:".. لا بد من التفريق بين محاولات نقض الفكرة القومية باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من المحاولة الاستعمارية لفك وتركيب الوطن العربي واحداث اختلالات بنيوية فيه وتوظيف ذلك لخدمة المشروع الصهيوني وبين نقد الفكرة القومية في أفق انسدادها الراهن بغية الاصلاح والتجديد وملاقاة العصر ومن أجل اجتراح أفق وإجابات تخرج الامة من مأزقها الراهن. وبين النقض والنقد لا بد أن تتولد رؤية قومية جديدة تقوم على المقاومة.. مقاومة الإقصاء والتهميش، ومقاومة الكسل الفكري والخوف من المراجعة، ولا بد لهذا التراجع أن يتوقف، ونقطة البداية واضحة هي المزيد من المقاومة، كما هو الحال في العراق وفلسطين حتى يتبين الخيط الابيض من الاسود". وما بين قومية المدرسة السياسية البالية في تحجرها وبين الفكر النهضوي التجديدي لا يسعني إلا أن أشهد على عبقرية ما أبدع أنطون سعادة في خطابه المدوّي في اللاذقية عام 1948 عندما قال: "نحن جماعة لم تفضل يوماً أن تترك عقيدتها وإيمانها وأخلاقها لتنقذ جسداً بالياً لا قيمة له". كما اعتبر:"أن أبسط القوميين الاجتماعيين هو أمتن عقيدة وأعرف بنجاح القضية القومية الاجتماعية من أمهر المتلاعبين السياسيين وأخبثهم". إن ذلك كله بنظري الداء والدواء حتى إشعار لا يتنادى به القادم إلى مهنة المتاعب جبران تويني "الديموقراطي السياسي" متشدقا عن ديمقراطية "الغنم"، وبيار الجميل عن "ديمقراطية النوعية" التي اكتمل صليبها في دائرته الأنتخابية فقط، بينما لم يحالف الحظ هلال السيد حسن نصرالله فاضطر كما في كل مرة مكرها لاستعمال صكوك التبليغ الشرعي التي لا تضاهيها في الكمية " كمية". ومنعا للإلتباس لا يسعنا إلا أن نعطي مدارس الإنشاء السياسية الأخرى حقها وخصوصا ظاهرة ناصر قنديل اللبنانية التي شع نورها إلى الشريان الحيوي في الشام فأصابت عماد فوزي الشعيبي وجورج جبور منظري الفلسفات البعثية الحديثة فبقوا يتكلمون عن أمة وصراع وصمود من النقطة التي توقفت عندها متناسين مشاكل الأمة وماأضافه السالفون واللاحقون من كسل لهذه المفاهيم المطاطة في مدلولاتها السياسية. .. وحتى الشفاء من الفيروسات، ما بين الدين والقومية والسياسة هوة لن تندمل إلا بفهم عميق لقيم العلم أولا وأخيرا.. وسنلتقي دوما من دون خوف وسنبقى نعمل للحياة لتتولد رؤية قومية جديدة تقوم على المقاومة.. مقاومة الإقصاء والتهميش، ومقاومة الكسل الفكري والخوف من خيالاتنا المجتمعية.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |