|
بين وجيه عباس .. والسياب .. والمسيب
في ملحمته (وقائع موت حلّي ) تبنى الشاعر وجيه عباس لغة هي الى الدمع والدم والألم أقرب منها الى الأبجدية العربية ، وتظاهر وجيه عباس بأنه كان يكتب مرثية ، الا أنه يدرك كما يدرك جميع من قرأ وقائع موته الحلّي أنه خرج على قواعد اللغة والأدب .. وانطلق الى فضاء أرحب ليصف الموت على عربات البطيخ ، في مفارقة دامية تستدعي وقفة مع نحيبه الذي لم ينفك يغرق مع كل دمعة وكل صرخة ألم لشاهدة عراقية تقف صامتة على صعيد وادي السلام .. لتصف وقائع الفجيعة .. من خلال صمتها الذي هو أبلغ من اللغة ومن التعبيرية . وجيه عباس الذي لم يتوانَ عن أن يتوغل في جراح الأحبة ، ليصف القيح والصديد الذي ملأ النفوس ، وجاشت به الصدور ليكتب عن ملحمة شعرية تقترب كثيراً من الواقع ، وبوصفه شاعراً يحاول أن يحلق بعيداً عن أرض الحدث نراه على العكس يحلق بعيداً عن لغة الشعر قريباً من الحدث ليتمكن مما لم يتمكن منه غيره في الاغتراب مع الكلمة حتى تصل الى غرابة الواقع ذاته . يستوقفني المقطع التالي سكبت ترابي في العراء مآذن فبأي آلاء الدماء أحـــاولُ التناغمية التي استخدمها وجيه عباس بين الشعر والقرآن في (فبأي آلاء ربكما تكذبان) ليست تخضع الى قانون القصدية فقط ، بل تراه يجعلها نوعا من المحاكاة بين تساؤل الرب تجاه اجحاف العبد من جهة .. وبين تساؤل العبد تجاه صمت الرب من الجهة الأخرى . ورب قائل هنا بأن ذلك يتضمن الكفر .. لكنني أقول هي سنام الإيمان كونها تتسق مع التوجه نحو الله ، وترتقي نحو الكلام مع الله ، ثم تتسنم ذروة العتب مع الله .. وليست تلك تجارة (العبيد أو التجار) حتى توصم بالتطاول .. بل التجاء الى الذات المقدسة مع حسن الظن بالخالق المعبود .. وقال تعالى في حديثه القدسي (أنا عند ظن عبدي بي) . نعود الى ملحمة وجيه عباس .. وقائع موت حلي كانت محاكمة للذات قبل أن تكون محاكمة للجريمة .. فوجيه أغلق باب حوار الطرشان مع القتلة ، وهذه النقطة ليست هامشية في معرض التعبير عن تفصيلات الواقعة .. بل كأنما يجعل وجيه عباس (القاتل) لاعب أساسي في لعبة الموت ذات الانشطار المتسلسل (على حد تعبير فيزيائيي الذرة) الماضية مع الوقت تولد مع اشراقات الصباح وتنام مع المغيب لتستيقظ ثانية الى ماشاء الله . يقول وجيه :- لكن الخالق أرسلك لطبابة مستوصفكم بعربانات البطيخ فالبطيخ كما يروي القرضاوي مزروع بخدود الحور ويطيّب ريح القبر ويسكر منكر ونكير عربات الموتى تأخذ ريح البطيخ وتبقي رائحةالفقراء على كف العازة والعازة ذل بين عيون السائل حتى تسكنه أهداب الفقر. والملاحظ أنه لا يحاكم القاتل ، بل يحاكم (الله – القرضاوي) ، وكأنه لا يخاطب (الله) الذي نعرفه ، بل (الله)القرضاوي الذي يؤمن (هذا الـ الله ) بمنهج الموت ذاك . وهذا يفسر المقطع السابق وياأيها الرب العظيم،إن كان هذا يرضيك،فخذْ من العراقيين دمهم وجوعهم لتشبع بهما الملائكة المقربين حتى يرضوا عنّا،فهم مخابراتك السماوية الذين هتفنا أمامهم(لاحــاكم إلاّ الله)،ولم نرشح سواك لرئاسة جمهورية الجوع في بابل. لكنها عودة على بدء مع توجيه الخطاب الى الله ، فهذه (الثنائية) بين (الله) وبين (الله) القرضاوي غير موجودة في الواقع وهذا التناقض مع الوحدانية هو الذي يدفع به الى الجنون .. لاحظ التشابه في فلك الابتعاد عن الشعر الى غربة الواقع عند السياب ، والتوجه بالعتب نحو (الله) عند السياب . شهور طوال وهذي الجراح تمزّق جنبي مثل المدى ولا يهدأ الداء عند الصباح ولا يمسح اللّيل أو جاعه بالردى. ولكنّ أيّوب إن صاح صاح: «لك الحمد، ان الرزايا ندى، وإنّ الجراح هدايا الحبيب أضمّ إلى الصّدر باقتها، هداياك في خافقي لا تغيب، هداياك مقبولة. هاتها والغريب في الموضوع أن وجيه الشاعر يختلف تماماً عن وجيه الكاتب الساخر الذي يملأ الصفحات بنقده اللاذع الذي ينال كل يقف في وجه رؤيته للعراق ، وهذا المنهج بعيد تماماً عن لغة السياب وشاعريته ، لكنهما يتطابقان تطابقاً غريباً في الشعر ولغته وسموه . الا أن لوجيه خصلة لايملكها السياب الا لماماً ، فالسياب يحمل ألمه ومعاناته على راحته حين يكتب الشعر ، وينطلق نحو رسم تلك الوشيجة الدامية بين الألم وبين التعبير الأدبي الشعري ، ويشذ عن هذا الخط أحياناً حين يصف العراق ، والجوع والمرض ، لكن الصفة الغالبة على شعره هي (الأنا المتألمة) . بينما لا تجد هذا الحس لدى وجيه عباس ، فوجيه حين يذكر نفسه في شعره يذكرها لاطمة على آلام الغير ، وحسه المرهف غارق في (النحن المتألمة) ، وهو يتفوق على السياب في هذا . لاحظ للسياب وبقيت أدور حول الطاحونة من ألمي ثوراً معصوباً كالصخرة ، هيهات تثور والناس تسير الى القمم لكني أعجز عن سير –ويلاه – على قدمي وسريري سجني، تابوتي ، منفاي من الألم والى العدم بينما لو قرأت لوجيه تجد غياب الأنا ، وظهروها كـ (لاطمة) ، بينما تجد ظهور الـ (نحن المتالمة) وللمحاويل ياربّاه ألف يــــد تومي إليك بها،إنْ هاهنا وَلّدُ طفل من الوردِ،ذي تبّاعة ذهب فأين عيناك؟أين الروح والجسدُ مابيننا الموت لاعين ولارصدُ نــحن اقتربنا،وأنت الآن تبتعد
وأيضاً أعرْلغتي فما،وقافية خـجولا أغني غربتــيك بها طويلا ومدّ بخرقتيك عــلى قلوب أناخ بهــا الردى إلاقلـيلا أفي كـفن طويت! وماسمعنا بأن الأرض كفّنت النخــيلا سأطلق في يديك حمام روحي وانكرها مخافة أن تقــولا ومم؟ ونحن في البلوى سـواء رحيل فيك يـبتـكر الرحيلا أجر بعــرجتي أحزان عيسى وأحمل فيك قافيــة بتـولا وأيضاً أسمع صوتك،كأس العرق المدلوق على لوحة وجهك،ماذا أبقى الحزن بوجهك يانائم فوق الاسفلت...أعلم أن القلب وحيد،وفراشك باردْ... مثل الشمع المطفأ في ليلة تشرين أعمى..أعلم ان الحزن سيوقد من شمع القلب لكي تبصر وجهي: سأصلّي الوحشة فـي عينيكْ وأريق الدمع الغافي بين يديكْ وأقول ســــلام الله عليكْ و(قلْ أعوذ برب)القلقْ،وشاعر ومانطقْ... هرول ظلّكم خلف طفولتنا،فأضعناكم،وضعنا،حملتنا ثيابكم...ونحن نعوي مثل ذئب جريح: جسرا مشيناه ندري أنْ سيحملنا لكن سبقت إليه الـناس ياوَلَدُ
ولو قرأت مقالات وجيه عباس لوجدت أنه اذا كتب بحرقة تقطع القلوب كـ (وقائع موت حلّي) تراه يكتب مقالاته بلغة الشعر حتى في تقطيعته وعروضه ، لاحظ :- مهـد خشبي يرسم في الحزن هلالا تحمله أم ثكلى،تطرق أبواب الجيران: - من منكم يعرف قبر حبيبي،طفل الحلة،هذا الواقف بين الفرضة وزناد التسديدِ،والراقد فوق الأخمص،والبردان بليل الموت الحلّي،لمْ يبصر أحدأ يوصيه بأنْ لاأحزنَ،فبقيت العمر ألوم أباه... ياهذا النائم فوق تراب الحلّة سكرانا من همّ يحفر موضعه بين الأضلاع...أين تركت وليدي يلعب.. للشارب خطّ فوق الشفة الورد،والذئب تقمّص وجه عنيفص،فاركضْ..اركَْض..إركضْ.. بالعباس عليك... إحملْ قلبي بين يديك...قلبي قربة دمع تتشهى موتا ينبض فوق رموش الولد الساقط تحت بساطيل التفخيخ . إنها حالة تستحق الوقوف تباعاً .. أن يكون الساخر الذي يجبرك على الضحك .. تراه يقطع نياط قلبك حين يسترسل في سرد المأساة .. لكنه لا يستطيع أن يلج باب المآسي الا شعراً ، حتى وان حاول خداع القاريء أو خداع نفسه بأن يكتب المقاطع كـ (نثر) الا أنك تميز الشعر وان حاول اخفاءه ، فوجيه عباس شاعر ، لكنه يطفو بسخريته فوق واقعه كشاعر ، فهل يخجل الشاعر من شعره ؟ وهل يتردد في إظهار شاعريته ؟ حتى تستفزه المأساة فتغور فيه الصفة المصطنعة (الكاتب) ليظهر الشاعر من بين حناياه ؟ هذه الأسئلة لا يستطيع الاجابة عنها الا وجيه عباس . أما في محاكمة الذات فيسوق المقاطع التالية :- ويافقراء الحلة...إذكروا نعمة الله عليكم،إذْ مررتم على مفرزة من الشرطة وهم خاوون على كروشهم،فقال لكم الله/ موتـوا...فمتْمْ. وأيضاً .. كان صوتك يودّعنا،شممنا عطره المبلل، تيممنا ونحن نحمل نعشكم فوق جسر المسيب،أوقفتنا مفرزة من قصار الثياب تبحث عن غيمة فوق رأس ذبيح،قلنا لهم لم نركم،حلفنا بأيمانهم،لكنهم أبصروا وجوهكم في عيوننا،فأقاموا الحدَّ علينا،ومشوا،كانت رؤوسنا تدار على رماح الشماتة،وكنت أحدي بهم: عَوَزٌ..عَوَزْ فأينا مشى وأيّنا قفزْ وأيهم علا رقابنا وَحَـزْ كاني به يصف قطيعاً من (البشر) ، يستوقفهم قصار الثياب ، كأي ذئب يستوقف الشياه ، ويختار أسمنها ليقيم حفل عشاءه مع الرسول (رسول القرضاوي) ، دون أني يحرك ساكنا ، بل ينتظر لعل (وحي ) الموت لا يرى فيه سمنة تسد غائلة الجوع الى الدماء .. ولكن هيهات . شيء أشبه بقصيدة (المومس العمياء) للسياب :- عشرون عاما قد مضين وانت غرثى تأكلين بنيك من سغب ، وظمأي تشربين حليب ثديك وهو ينزف من خياشيم الجنين ! وكزارع لهم البذور وراح يقتلع الجذور من جوعه ، وأتى الربيع فما تفتحت الزهور ولا تنفست السنابل فيه ليس سوى الصخور إنها محاكمة للذات المستسلمة في كلتا الحالتين ، الوقوف في حضرة الظالم بلا حراك ، علَّه لا يختار عند ( وجيه) ، وعلَّه يختار عند ( السياب ) ، لكن الاستسلام واضح عندهما معاً . ولعل الفكرة الأسمى من المحاكمة هي تشخيص العلل في الواقع المتردي ، ومحاولة استثارة غضب المتلقي الى حالة سلبية عنده عليه أن يقاومها . لذلك ترى أن السياب يورد البيت التالي في (المومس العمياء) وكأنه يزرع الأمل مع أن الأمل مفقود في حالتها لكنه يزرعه على أي حال ، وربما يجعل ذلك الأمل قوتاً بديلاً يجعل لحياتها معنى فقدته على فراش الرذيلة . فامضِ عنها يا أساها! ستجوع عاما او يزيد، ولا تموت ففي حشاها حقد يورث من قواها ستعيش للثأر الرهيب والداء فى دمها وفى فمها ستنفث من رداها من كل عرق من عروق رجالها شبحا من الدم واللهيب شبحا تخطف مقلتيها امس ، من رجل آتاها سترده هي للرجال ، بأنهم قتلوا آباها وتلقفوها يعبثون بها وما رحموا صباها. لكن وجيه لا يلجأ الى (بيع) حلم ضبابي ما له من وجود كما فعل السياب ، فهل يقصد أن لايترك أمام حزننا من منفذ لكي لا نلتقط أنفاس الغفوة ثانية ؟ هل يقصد أن يدفع بالوجع الى أقصاه فلا نلتفت الى الخلف ولو قليلاً ؟ هل يقصد وجيه عباس أن لا يترك الجرح دون أن يخزه مرّة تلو المرّة كي لا يلتئم ، فلا ننساه ؟ اذن فالرؤيتان لا تتحدان في الغاية وأن اتحدتا في الوسيلة .. فالوصف للألم والغوص في حشرجاته متحد ، لكن التنفيس مفقود عند وجيه عباس على العكس من السياب ، فوجيه لا ينفك يطارد الألم ... ويشير باصبعه اليه .. وعلى المتلقي أن يفهم .. دون مساعدة سوى الوجع والدم هما اللذان يدلانه على طريق الخلاص . المسيب بعد حادثة المسيب توقعت أن يصدر وجيه عباس ميتماً جديداً على شكل شعر ، لكنه كعادته لا يستعجل الفكرة ، ولا القصيدة ، يتركها تنضج مع الألم رويدا رويدا حتى تكبر كولد له يخرج الى النور سليما معافى يمتلك الرؤية الكاملة للحدث ، ولما بعد الحدث ، يغوص معه في تفصيلاته حتى كأنه يحياها ، ثم تخرج من قلمه مضرجة بدم الشهداء ، ومعمدة بدموع الثكالى ، والأرامل ، ومصبوغة بحرقة أكباد اليتامى .. تتنفس آلام المحترقين على أشفار الموت ، وتصارع ركلة عزرائيل لكل المذبوحين ، وتشم رياح الأشلاء المتبعثرة .. فيخرجها وجيه الينا بطعم المسيب ، ورائحة الشواء البشري الذي حصل في المسيب ، حتى تنبجس منها اثنتا عشرة عينا من آماق البكائين .. فيجعلنا نخجل من كينونتنا التي جبلت على الصمت .. رغم جعجعة طواحين الموتى ، وجيه عباس هو الذي يثبت لنا أن دون كيشوت هو الشريف الوحيد في هذا الزمن الأخرق .. فهو الذي يحمل حسامه في كل حين ويقاتل من أجل أن يكون .. بينما نحن لا نقاتل حتى من أجل أن نمنعهم من ارسال ارتال الشهداء الى مملكة الحزن الالهي على موتانا . وجيه .. أيها الشريف في زمان العهر .. من للقرية يا وجيه ؟ من للفتية يا وجيه ؟ من للأطفال يا وجيه ؟ لم نعد نجيد الا الصمت وإحصاء الموتى .. هل صدقت نبوءة ارشيدوق ألبانيا وبن عثيمين ؟ بأننا نحب أن نكون على رأس القائمة .. في كتاب غينيس للأرقام القياسية .. بأن مقبرة النجف هي الأولى في العالم ؟ أجبني يا وجيه .. فأنا وأنت وحدنا في ساحة حرب التيارات نندب الضحايا ، ولا نضحك بعد انقضاء العزاء .. قررت أن لا أقرأ سورة الفاتحة بعد اليوم على الأشلاء .. بل سأقرأ تعاليم جيفارا .. كيف تحمل البندقية . قررت أن لا أضم صوتي لصمت العقلاء .. بل الى دخان البنادق يا وجيه .. إنها حفلة نشهد رقصات الفجور بأم أعيننا فيها .. ونتسائل .. أين الذبيحة ؟ فإذا بنا أنا وأنت ... نحن كبش المحرقة يا وجيه . ليست محرقة .. بل سلسلة محارق .. تأكل أبناءنا وأطفالنا وأعمارنا .. بينما يلف الصمت بعضنا كأنهم بلا هوية .. تبت يد ربتت على أكتاف الموت ، وتبت يد كفت عن صدّ ذلك المد.. آليت على نفسي أن لا أمسح الدمع بعد اليوم .. حتى يسألني ذوو الضحايا .. ممَّ ذاك ؟ فلا أجيب .. حتى يسألني كل من يراني .. ممّ ذاك .. ولن أجيب .. لعل السؤال يدلهم على الطريق .
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |