|
"الفيدرالية" الشاملة . . خيارنا التأريخي علي آل شفاف
من البراعة والمهارة والإحتراف السياسي أن لا تسمَى المسميات بأسمائها, وإنما يُدار حولها دون ملامسة حقيقتها؛ أو تغلف بأعتم الأغلفة وأشدها خداعا, أو يحاوَل إلفات النظر عنها إلى قضية مصطنعة, أو ترسَّخ في أذهان الرأي العام أوهام وأفكار جوفاء, حتى تصبح مقدسة ـ بالتقادم ـ فلا يمكنه الفكاك منها أو تجاوزها. أو غير ذلك من أساليب الخداع والمراوغة, التي يوصف من يجيدها أو يعمل بها, بأنه سياسي بارع! أما التعامل بصدق ومباشرة وبدون خداع, فلا يعد بين السياسيين إلا سذاجة. من يفعلها لا يجيد أبجديات السياسة! لذلك يفشل الكثير ممن يتعاملون بهذه الطريقة, لاحتفاظهم بمبادئهم العقائدية أو الأخلاقية. إن محاربي فكرة إقامة الأقاليم هم ما بين جاهل, ومختلط عليه الأمر, وخاضع لسحر المصطلحات الخرفة, التي عفا عليها الزمن. وكل أولئك يرجى لهم التنبه عن الغفلة, والتبصر في عواقب الأمور, والإعتبار مما جرى. وإنا لنحسن الظن في كثير منهم. (وإن عشا بعضهم جهلا لنعذره * * * خوفا عليه وما جال الخطا فينا) أما الطامع بإعادة الديكتاتورية, وتسلط فئة قليلة على ثروات ومقدرات وآمال الشعب, اعتمادا على دعم الغرباء . . فهذا له شأن آخر! إن حق تقرير المصير للشعوب, كفلته كافة الشرائع والقوانين. وهو وجه الديمقراطية (المدعاة). والتي تعطي الحق الأول والأخير للشعب في تقرير نوع الحكم, وشكل الدولة, وكيفية توزيع السلطات, بما يكفل الأمن والإطمئنان للأجيال اللاحقة فضلا عن الجيل الحاضر. ولا نعرف لماذا يتجاهل دعاة الحرية والديمقراطية هذه الإرادة الحرة للشعب؟ ولماذا هذا الإستبداد, جمودا على قوالب صاغها شخص ما, في زمن ما؟ فليس هناك أي سبب منطقي في تقديسها وتقديمها على رأي الشعب أو حتى على أي رأي منفرد آخر. فلا ندري عن أي سوء استخدام للحرية يتكلمون . . وحياة الناس مهددة بخطر الإبادة؟ وعن أية "ديمقراطية تلك التي فسحت المجال لطرح أفكار غير مسؤولة" ـ كما يقولون ـ والطغيان لازال يفتك بالإنسان والحيوان والنبات وحتى الجماد؟ إن عدم المسؤولية, والسفه ـ كل السفه ـ فيمن يقدس أصنام الأفكار والمصطلحات الزائفة متجاوزا الواقع المرير, ولا يعرف كيف يحافظ على كرامته وأمنه وخيراته المسلوبة . . بل يعود بنفسه ـ القهقرى ـ إلى مستنقع الذل والظلم والاضطهاد والفقر. إن من لا يعتبر من مجريات تأريخ طويل من القهر والظلم والإستبداد, لَيُعَدّ غافلا وجاهلا. وحري به أن يعيش عبدا مقهورا مغلوبا, وربما يستحق كل ما جرى وسيجري له. ولَإِن كان القانون لا يحمي المغفلين, فالتأريخ أولى بذلك؛ وسوف لن يرحمهم, وسيسطر بأحرف الخزي والعار سيرة كل من يدعي العلم والثقافة والسياسة ولم يسعَ في محاربة الظلم, ومنعه؛ وخذل الشعب في تحقيق هدفه, في السعي لإقامة الكيان الأكثر استقرارا وصلاحا, والحياة الأكثر أمنا وسلامة. فالعراقيين الذين كانوا وما زالوا وقودا لنيران نزوات الحاكمين, وجشع الطامعين, وخيانة وتآمر وغدر الأقربين, وخذلان الأبعدين؛ عاشوا عقودا وقرونا من السحق المستمر لشخصيتهم ووجودهم. وكأنهم ما وجدوا إلا ليحكمهم الطغاة الطغام, والقساة اللئام . . وليتهم عدلوا لكان أهون في المصاب, وأوهن في الطلاب . . لكنهم خربوا وأفسدوا ودمروا كل شئ . . حتى الإنسان. فإنساننا يا سادة كائن مدمَّر . . فلنضع يدا بيد, لانتشاله من واقع مرير, وماض أمر. إن المطالبة بـ "إقليم الجنوب" أو "الفرات الأوسط" أو غيره, لم يأت من فراغ؛ وما جاء نزوة. كما يحاول تصويره وتزويره عبدة أصنام الجهالة والغباء. تلك الأصنام التي صاغها مجموعة ما إن بدأت بفك الحروف, حتى تزعمت وتسنمت عرش ثقافتنا البائسة. في زمن كان من يجيد القراءة والكتابة فيه يعد رائدا ومثقفا وعلامة ربما! هذا البعض الذي ما انفك يسور خياشيمنا بأنتن الأفكار وأجيفها. ضانا أنها مقدسات ينبغي عبادتها. وما هي إلا قيود ابتدعها من زينت له نفسه حب السلطان, والسيطرة, وسرقة أموال وثروات الشعوب؛ أو الغارقين في خيال ليس له حقيقة في أرض الواقع. إن العمل نحو إقامة "الأقاليمية" أو "الإتحادية" أو "الفيدرالية" ـ سمها ما شئت ـ جاء استجابة لضرورة تأريخية ملحة, في منع تكرار ما جرى من مآس على شعبنا. أني لأعجب من الكثيرين الذين يسبقون أسماءهم بحرف (د), وربما قبله حرف (أ)؛ كيف لا يفهمون هذه الضرورة, والبعد التأريخي العميق في كبح جماح التسلط والطغيان؛ وتحرير الشعب من سيف سلط على رقابهم عشرات ومئات السنين, ومازال مشهورا على الأعناق, وجشع امتص الدم والمال. لقد كتب البعض متسائلا ـ وإني لآسى على جهله: "ما دخل ما جرى من ظلم واضطهاد وقتل في إقامة إقليم في الجنوب؟" أي: كيف يكون في إقامة إقليم في الجنوب منعا للظلم؟ ويتساءل آخر : "هل أن أهل هذه المحافظات الثلاث لهم طابع يميزهم عن الآخرين ؟ أي هل أنهم من طائفة خاصة أم من قومية خاصة؟ أم من دين خاص يميزهم عن المحافظات المجاورة؟" إن من الواضح والجلي, أن إقامة أقاليم لها ثقل أكبر من المحافظات, ولها درجة من الصلاحيات أعلى من السابق, في مقابل تقليل صلاحيات المركز؛ سوف لن يسمح لأي سلطة مركزية أن تطمح إلى التفرد والإستبداد والسيطرة على مقدرات الشعب. دون ذلك . . فإن جميع الضمانات الدستورية, في إقامة حكم برلماني تعددي هي محض خرافة. فقد علمتنا الليالي والأيام, أن كل هذا يمكن أن يلغى بعدة دبابات . . فالدستور لوحده ليس ضمانا لشئ حتى يُحَصَّن . . و "الأقاليمية" أو "الإتحادية" هي التي ستكون ذلك الحصن والضمان للدستور نفسه. وليس العكس. فمن يخرق الدستور ـ بعدها ـ سوف يجد نفسه محصورا في منطقة ضيقة, هي الإقليم المركزي فقط, أو أي إقليم آخر. ولن يستجيب له أحد ـ خصوصا ـ وأن الأقاليم ستكون ذات ثقل سكاني وجغرافي كبير, لا يستطيع الخارق للدستور السيطرة عليها أو إرغامها . . لذا سوف يضطر خاشعا خانعا العودة إلى مقررات الدستور. إذا فالإتحادية هي ضمان استقرار الدولة ودوامها وازدهارها. أما "ما يميز هذه المحافظات الجنوبية الثلاث عن غيرها؟" . . فهذا سؤال يستبطن الدعوة لإقامة إقليم ذو هوية متميزة عن الأقاليم الأخرى. أي إقليم شيعي مثلا وهذا يعني ـ بعرفهم ـ الدعوة لتقسيم العراق تحت عنوان طائفي, وهو ما يزعمون محاربته . . وهذا لعمري تناقض واضح. إذا فإقامة إقليم جغرافي كإقليم الجنوب, هو رد حاسم على كل من يصور أن هذا الإقليم شيعيا, أو من طائفة واحدة. أما قضية توزيع الثروة فلا يختلف الأمر كثيرا, فلكل إقليم حصة من ثروات البلاد, بما يتناسب مع الثقل السكاني والحاجة الواقعية. بالإضافة إلى حصة (معنوية) للإقليم مصدر الثروة, على أن تكون الرقابة على الصرف مركزية, لمنع الفساد والسرقة والتلاعب. فلا يستطيع بضعة أشخاص ـ حينها ـ الاستئثار بالثروات دون الآخرين . . لتصب في جيوب طالما امتلأت من خيرات العراق, فكافأته بالقتل والتدمير والتخريب. لقد كشف الطامعون في إعادة عجلة الزمن عن سوء نيتهم, من خلال البدائل التي طرحوها . . حيث أنهم يطرحون اعترافا بإقليم الأكراد, وحكما لا مركزيا للمحافظات . . بخ بخ. لقد ملأت الدعوات الكاذبة للامركزية في الحكم أغلب تنظيرات البعث المقبور, فما زادتهم غير استبداد وتسلط وطغيان. وهاهم يعاودون الكرة مرة أخرى . . فالويل لمن لا يعتبر! فقد يأملون ـ جهلا وسخفا ـ أنهم عندما يسيطرون على الجزء العربي, سيتفرغون للجزء الكردي!! ولعل سائل يسأل : إن أتباع سلطة البعث في العراق هم أقلية صغيرة, فما بالكم تخشونهم, وكأنهم قوة كبيرة؟ فنقول: إن هذا سؤال من لا يعرف بواطن الأمور, فالبعثيين وأتباعهم مستعدون لبيع العراق ـ كل العراق ـ للشيطان من أجل هامش من السلطة (انظر تملقهم الحالي للأمريكان! وانظر كيف كانوا أول من طلب منهم الدخول سلما, ثم يَدَّعون المقاومة!!). إن ورائهم دول كثيرة, وأموال طائلة؛ نراها عيانا تتحول إلى متفجرات وقنابل تقتل أبناءنا. وقد باعوا العراق بما فيه ـ من قبل ـ من أجل المحافظة على سلطانهم. وما دخول القوات الأجنبية للعراق, إلا ثمرة من ثمار جشع الصداميين وحبهم للسلطة. فضرورة إقامة الإقليم واضحة جلية لا لبس فيها. وهي الضمانة الوحيدة لوحدة العراق, والمحافظة على الدستور المزمع. ودون ذلك سيشهد العراق ما يتخوف منه الكثيرون. لأن قوى الشر مازالت عازمة على محاربة أغلبية الشعب العراقي. وهذه حقيقة لا ينكرها إلا مكابر, أو جاهل أو مشبوه. فلا يكون أمام غالبية الشعب إلا التترس بمناطقهم, لحماية أبنائهم والمحافظة على دمائهم . . وهذا حق طبيعي مشروع ومكفول . . عندها سيندم الكثيرون . . ولات ساعة مندم! بقي علي أن أوضح نقطتين: كثيرا ما يطلق خطأ مصطلح "فيدرالية الجنوب", والمقصود ـ طبعا ـ هو "إقليم الجنوب". فالإتحادية أو "الفيدرالية" هي مجموع الأقاليم التي تحكم بدرجة (معينة) من اللامركزية, ولا يشكل الإقليم الواحد إلا جزأ من "فيدرالية" تشمل أقاليم أخرى. كما أن هناك خطأ شائع في استخدام مصطلح "الفيدرالية الشيعية", تعبيرا عن "إقليم الجنوب". وهذا خطأ آخر من جهتين: الأولى في استخدام كلمة "فيدرالية" مكان إقليم كما ورد أعلاه. أما الثانية ففيها خطأ مقصود ـ في الغالب ـ لأسباب سياسية, وإن استخدمه البعض جهلا. فإذا ما سمينا "إقليم الجنوب" بـ "الإقليم الشيعى", فماذا سنسمي ـ إذا ـ أقاليم أو مناطق أو محافظات الفرات الأوسط (كالنجف وكربلاء والحلة والديوانية والسماوة) الشيعية؛ وماذا سنسمي "الكوت" الشيعية؛ وماذا سنسمي عاصمتنا بغداد ذات الأغلبية الشيعية الكبيرة؛ وماذا سنسمي "ديالى" ذات الأغلبية الشيعية البسيطة ـ على ما يبدو. لذا فتسمية "إقليم الجنوب" بـ "الفيدرالية الشيعية" أو "الإقليم الشيعي", هي مغالطة واضحة ذات أهداف مشبوهة. تستبطن التقليل من الثقل السكاني الشيعي في العراق. فإقليم الجنوب هو إقليم جغرافي, وليس طائفيا. وهذا يؤكد زيف البعد الطائفي الذي يزعمه الرافضون للإقليم, للهجوم على من يرى المصلحة في إقامته والأقاليم الأخرى. ولو كان هناك من بعد طائفي ـ قد تفرضه ضرورة مواجهة الإبادة الطائفية الحالية, إذا ما تفاقمت , لا قدر الله ـ فإن هذا الإقليم سيتكون من عشر أو تسع محافظات إذا ما استثنينا العاصمة بغداد. إن تعابير واضحة وصريحة من هذا النوع, قد تخدش مسلمات البعض . . لكن الواجب توضيحها ليعلم كل منا واقعه ومكانه, وما عليه أن يفعل لحماية نفسه وأهله وماله وعرضه.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |