علي الوردي رائد الفكر الاجتماعي التنويري في العراق

د.. ابراهيم الحيدري

 

مقدمة

يمر العراق اليوم بمرحلة حرجة ومعقدة من تاريخه الحديث بعد تعرضه لمآسي وحروب وحصار اقتصادي داخلي وخارجي كان نتيجة من نتائج الحكم الاستبدادي المزاح والنزعة الابوية/البطريكية واشكالية الدولة التي لم تكتمل بعد وكذلك ضعف روح المواطنة وانقسام الهوية والتباس الوعي الاجتماعي.
ان هذه التركة الثقيلة ادت في الاخير الى سقوط النظام الدكتاتوري بايدي قوات الاحتلال، وتركت ورائها مجتمعا مفككا وشعبا ممزقا ومنقسما على ذاته كما دفع الفراغ الامني والسياسي والاداري الى فوضى واعمال عنف وتدمير طالت جميع مجالات الحياة وفجرت في ذات الوقت المكبوتات التي تراكمت عبر اكثر من ثلاث عقود واججت شحنات الحقد والغضب والعدوانية، كان من نتائجها نهب الكنوز الاثرية العظيمة و اندفاع اعوان النظام البائد الى القيام باعمال نهب وسلب للذاكرة العراقية وقتل وتدمير الانسان والمجتمع والحضارة.
ان المحنة التي ما يزال العراقيون يعيشونها حتى اليوم هي ليست محنة شعب محكوم بنظام استبدادي قمعي فحسب، وانما هي اعراض لتراكم واقع موضوعي يمتد عمقا في التاريخ تداخلت فيه عوامل المكان الجغرافي بعوامل الزمان التاريخي المتذبذب بين قطيعات حضارية وتركيبة مجتمعية من وحدات اجتماعية انقسامية متنوعة مازالت غير موحدة في اطار اجتماعي وهوية وطنية واحدة. كما ان هذه المحنة هي ليست محنة بلد فقير، فالعراق بلد غني بموارده وطاقاته وامكانياته المادية والمعنوية، وله تاريخ حضاري مجيد وتراث عربي- اسلامي زاهر.
 كل هذه المعطيات كان بامكانها ان تساعد على تأسيس دولة حديثة مستقلة ومجتمع مدني متقدم لو اعتمد على تنمية امكاناته وموارده الذاتية بطريقة عقلانية رشيدة، غير ان الانتاج الهائل من النفط ادى الى ارتفاع عائدات النفط واتساع حجم الدولة وتضخم اجهزتها العسكرية والادارية البيروقراطية وانتج دولة "ريعية" احدثت قطيعة بين المجتمع والفرد وتراجعت بذلك الدولة عن خدمة المواطن الذي اسندها.
وبالرغم من ان العراق لم يستطع بناء قاعدة صناعية وزراعية وتجارية قويمة، ولكن ما قام به هو فقط مؤسسات عسكرية وصناعات حربية ضخمة سرعان ما احترقت بفعل ضربات قصيرة وموجعة، افرزت مزيدا من الازمات والتأزمات ومزيدا من الاستبداد والقمع والمقابر الجماعية.
وفي الوقت الذي ما زال العراقي اسير تناقضات اجتماعية وسياسية، انخرط في صراعات اثنية وطائفية وقبلية واصبح الانتماء الجغرافي والعشائري والحزبي الطريق الوحيد للوصول الى السلطة والثروة.
ومع تحطم الوسط ما بين الفرد والمجتمع والسلطة اختل التوازن الاجتماعي وتشوهت البنية المجتمعية وتفكك النسيج الاجتماعي ومعها منظومة القيم الاجتماعية والثقافية والاخلاقية واثرت بعمق على بنية المجتمع بصورة عامة، وعلى العائلة والمرأة والطفولة بصورة خاصة، وافرزت بالتالي مشاكل وصراعات اجتماعية ونفسية وتحللا في شبكة العلاقات الاجتماعية والقرابية والقانونية وعمقت انقسام المجتمع على ذاته، واثرت بالتالي على تشكيل نمط الثقافة وسمات الشخصية في العراق.
وهكذا ظهرت اجيال جديدة لا تعرف معنى الانتماء والولاء للوطن والدولة لانها اجيال نشأت على التسلط والخضوع واضطرت بشكل او آخر الى الالتفاف حول نفسها ومصالحها الآنية والتضامن فيما بينها، اثنيا ومذهبيا وعشائريا وطائفيا، بالرغم من انخراط عدد كبير منهم في الاحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية والمؤسسات العسكرية والامنية، بسبب الخوف والحاجة والخضوع .
كما ان هاجس الخوف المركب من السلطة ومن الآخر ومن الذات نفسها زاد في حدة القلق والخوف على المستقبل وقلل من احتمالات الامل في التعبير وقوى الميل نحو التكيف السلوكي والتطبع بالقيم الجديدة التي يفرزها الواقع، لتصبح في الاخير سمة من سمات الشخصية التي تلجأ الاغلبية اليها.

ان هذه المواقف السلبية من الذات ومن الآخر والخضوع الطوعي لمثل هذه الاحداث التي لا قبل للفرد بمواجهتها، تهدف في حقيقة الامر، الى تقليل حدة التوتر والصراع بين الفرد والسلطة من جهة وبين الفرد والآخر من جهة اخرى، وفي ذات الوقت، استخدامها كفرصة لاشباع الحاجات والمصالح الآنية بحيث يتحول مثل هذا السلوك الى ثقافة سائدة . وليس من الغريب ان تتفجر المكبوتات بعد الاحتلال وسقوط النظام وينتشر العنف والارهاب ويتخذ كذريعة لحسم الصراعات والخلافات على المصالح والاستحواذ على السلطة، وفي ذات الوقت عرقلة عملية تسليم السيادة الكاملة الى العراقيين، باي شكل كانت.

ولعل العودة الى علي الوردي وقراءته من جديد تقدم لنا مؤشرات على مصداقية افكاره الاجتماعية النقدية الجريئة، لانه كان شاهدا امينا على احداث قرن بكامله .والسؤال الذي يطرح نفسه : هل قدم الوردي اجوبة شافية لتشخيص عوامل الخلل الذي اصاب المجتمع والثقافة و شخصية الفرد العراقي وتمزيق هويته وانكسار ذاته وعجزه عن استعادة وعيه وحريته وكرامته والوقوف على رجليه؟! والحقيقة لم يثير كاتب او مفكر عراقي مثلما اثاره علي الوردي من افكار نقدية جريئة. وكان من البديهي ان يتعرض للنقد والتجريح والهجوم من اقصى اليمين الى اقصى اليسار حتى انطبق عليه المثل العراقي المعروف " مثل السمك مأكول مذموم".

حياته

ولد علي الوردي في الكاظمية عام 1913 ونشأ وترعرع فيها وكان مولعا منذ صباه بقراءة الكتب والمجلات وقد اضطر الى ترك المدرسة ليعمل في دكان والده، ثم للعمل صانعا عند عطار المحلة، ولكنه طرد من العمل لانه كان ينشغل بقراءة الكتب والمجلات ويترك الزبائن. ثم عاد الى المدرسة واكمل دراسته واصبح معلما. كما غير زيه التقليدي عام 1932 واصبح افنديا .وفي عام 1943 ارسلته الحكومة العراقية الى بيروت للدراسة في الجامعة الامريكية، كما حصل على شهادة الماجستير وكذلك الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة تكساس الاميركية .وبعد عودته الى العراق عمل في قسم الاجتماع في جامعة بغداد حتى تقاعده عام 1970. وتوفى في بغداد في 13 تموز عام 1995. 

مؤلفاته

كتب الوردي ثمانية عشر كتابا ومئات البحوث والمقالات. خمس كتب منها قبل ثورة 14 تموز 1958 وكانت ذات اسلوب ادبي -نقدي ومضامين تنويرية جديدة وساخرة لم يألفها القاريء العراقي ولذلك واجهت افكاره واراءه الاجتماعية الجريئة انتقادات لاذعة وبخاصة كتابه " وعاظ السلاطين" الذين يعتمدون على منطق الوعظ والارشاد الافلاطوني منطلقا من ان الطبيعة البشرية لا يمكن اصلاحها بالوعظ وحده، وان الوعاظ انفسهم لا يتبعون النصائح التي ينادون بها وهم يعيشون على موائد المترفين، كما اكد بانه ينتقد وعاظ الدين وليس الدين نفسه.
اما الكتب التي صدرت بعد ثورة 14 تموز فقد اتسمت بطابع علمي ومثلت مشروع الوردي لوضع نظرية اجتماعية حول طبيعة المجتمع العراقي وفي مقدمتها دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ومنطق ابن خلدون ولمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث في ثمانية اجزاء.
لقد تنبأ الوردي بانفجار الوضع مثلما تنبه الى جذور العصبيات التي تتحكم بشخصية الفرد العراقي التي هي واقع مجتمعي تمتد جذوره الى القيم والاعراف الاجتماعية والعصبيات الطائفية والعشائرية والحزبية التي ما زالت بقاياها كامنة في نفوسنا. وكذلك الى الاستبداد السلطوي، الزمني والتزامني، الذي شجع وما يزال يشجع على اعادة انتاج الرواسب الاجتماعية والثقافية القديمة وترسيخها من جديد.

فرضيات الوردي الاجتماعية

من اجل الاحاطة بافكار الوردي الاجتماعية نستعرض بايجاز فرضياته السوسيولوجية الثلاث التي تشكل المقومات الرئيسية لنظريته.
ان هذه الفرضيات ترتبط معا بعلاقة جدلية ويجب اتخاذها كثلاثة اوجه لمعضلة سوسيولوجية واحدة تمتد جذورها الى نظرية ابن خلدون حول الصراع بين البداوة والحضارة، والتي طرحها في كتابه " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" .
 ويجب الاشارة هنا الى ان كل فرضية من هذه الفرضيات تأثرت بعالم من علماء الاجتماع. فقد تأثرت فرضيته الاولى بعالم الاجتماع الامريكي مكيفر، والثانية بالعالم العربي المشهور " ابن خلدون" والثالثة بعالم الاجتماع الامريكي اوجبرن.
كانت الفرضية الاولى باكورة اعمال الوردي التي قدمها في محاضرة القاها في بغداد عام 1950 حول شخصية الفرد العراقي، التي اثارت سجالا علميا واسعا في الاوساط الثقافية انذاك، وشكلت محاولة اولية لتفسير "طبيعة" المجتمع العراقي في ضوء ظاهرة "ازدواج الشخصية" كظاهرة اجتماعية وليست نفسية باعتبارها نتاج وقوع المجتمع العراقي تحت تأثير نسقين متناقضين من القيم الاجتماعية، بحيث يضطر بعض الافراد للاندفاع وراء نسق قيمي تارة ووراء نسق قيمي آخر تارة ثانية. وهذا حسب الوردي، مصدر التناقض والصراع في شخصية الفرد العراقي وازدواجيتها وقد اشار الى ان الفرد العراقي من اكثر الناس هياما بالمثل العليا ولكنه في الوقت نفسه، من اكثر الناس انحرافا عنها في واقعه الاجتماعي.
ان ازدواج الشخصية كمفهوم اجتماعي هو غير الازدواج من الناحية النفسية، كمرض يصيب بعض الافراد ويسبب شذوذا في تكوين الشخصية، فازدواج الشخصية ظاهرة اجتماعية تعكس صراعا في القيم الاجتماعية.
ويظهر الصراع في نشاط الافراد وسلوكهم وافعالهم وممارساتهم للقيم والعادات والتقاليد والطقوس التي تلونها المعايير الاجتماعية. وهذا النموذج من "ازدواج الشخصية " نموذج جمعي وليس فرديا، ويمثل نوعية موجودة تلعب دورا مهما في الحياة الاجتماعية. انها ليست شخصية العامل والفلاح والموظف فحسب بل هي ايضا شخصية التاجر والعسكري والمثقف. وهي نمط لسلوك ثقافي -اجتماعي- قيمي، استمده الوردي من عامة الشعب بافراده المختلفين والمتنوعين الذين يعكسون في سلوكهم قيما اجتماعية متناقضة تختفي احيانا في اقوالهم، غير انها سرعان ما تكشف عن نفسها في سلوكهم في الواقع العملي.
وقد استعان الوردي، بذكاء، بمقدمات تاريخية لتوضيح هذه الازدواجية بكل تناقضاتها، من خلال دراسته العلاقات الاجتماعية السائدة وتشخيص مكوناتها ودوافعها واثارها على سلوك الفرد. كما استعان بالتراث العربي- الاسلامي في العراق، حيث وصف اهل العراق بـ "اهل الشقاق والنفاق" وهذه الصفة ليست اصيلة فيهم وانما هي وليدة ظروف اجتماعية، تاريخية وسياسية معينة.
ومن العوامل المهمة لهذا الصراع ميل اهل العراق الى "الجدل"، الذي طبع التراث الفكري في العراق "بطابع مثالي" بعيدا عن الواقع الملموس فعلا، ولهذا ظهرت هوة بين التفكير وبين الممارسة العملية. فبينما كان المفكرون والفقهاء يجادلون بالادلة العقلية والنقلية، كانت الفرق والطوائف المختلفة تتقاتل في ما بينها. ويبدو ان هذه النزعة الجدلية ما تزال قوية في العراق حتى اليوم.
لقد ظهر مثل هذا الصراع خلال حكم الامويين والعباسيين وكذلك العثمانيين. غير ان " ازدواج الشخصية" اصبح اليوم اكثر انتشارا بين فئات المجتمع العراقي، لا سيما بين المتعلمين منهم. وقد لاحظ الوردي ان كثيرا من المتعلمين حفظوا الافكار والمبادئ الحديثة وتحمسوا لها ودافعوا عنها وانتقدوا كل من خالفها، لكنهم في الوقت نفسه، لم يطبقوها، بل خالفوها بانفسهم كل يوم في حياتهم العملية، بصورة شعورية او لا شعورية.
كما تظهر الازدواجية في ظاهرة "الوساطة" حيث يدعو المرء الى المساواة بين المواطنين وعدم التفريق بينهم ولكنه في الوقت نفسه، يحترم الوسطاء واولي النفوذ فيتقرب اليهم ويمدحهم حين يحتاج اليهم او حين يقومون بالتوسط له عند الاخرين، مع العلم ان المبدئين متناقضان.
ومع ذلك يشير الى ان الناس ليسوا كلهم على درجة واحدة من ازدواج الشخصية، وان هذا الازدواج يظهر في المدن اكثر من الريف، وهو نادر في البادية، ويعود ظهوره في المدن الى التربية التقليدية التي تكثر فيها المواعظ والتي تتناقض مع الواقع الاجتماعي المعاش. ومثال على ذلك ظهور الازدواجية في الاغنية العراقية المطبوعة دوما بالحزن والالم والمملوءة بالعتاب والشكوى وخيبة الامل.
 فالفرد العراقي يتعارك ويتشاتم ويتحدى، ولكنه سرعان ما يكون مستضعفا وسلبيا حين يشرع بالغناء. ويبدو ان المرأة في العراق لا تختلف عن الرجل في هذا المجال، فهي تربي اطفالها على هذا النمط من السلوك المزدوج، وبهذا فان التربية الاجتماعية تعلم الفرد ان يكون "اسدا" مرة و "ارنبا" مرة اخرى.

اما الفرضية الثانية، فهي الصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة وترتبط بالفرضية الاولى. وتعود مقدماتها الى محاضرة شارك فيها الوردي بمهرجان ابن خلدون الذي اقيم في القاهرة عام 1962. وقد لاحظ ان العراق، اكثر من اي بلد عربي آخر، يقف على حافة منبع فياض من البداوة، لانه يتلقى ومنذ امد بعيد موجة بدوية بعد اخرى، ولا بد ان يؤثر هذا المد على "طبيعة" المجتمع العراقي وعلى السلوك قليلا او كثيرا، عن طريق انتشار القيم والعادات بين افراد الشعب العراقي.
 وقد خلص الوردي الى ان الفرد العراقي واقع بين نسقين من القيم الاجتماعية المتناقضة: قيم البداوة، وقيم الحضارة، وقد افرز هذا التناقض صراعا مستمرا بين بدوي غالب وحضري مغلوب، ذلك الصراع الذي عانى منه الشعب العراقي وما يزال.
ان من طبيعة البدوي عدم الخضوع للدولة والحرفة ولكنه يخضع للعصبية القبلية، بينما من طبيعة الحضري الاستقرار والطاعة واحترام المهن والحرف، وهذا هو مصدر التناقض والصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة.

اما الفرضية الثالثة فتدور حول التغير والتناشز الاجتماعي الذي بدأ بعد الاتصال الحضاري مع اوروبا منذ بداية القرن التاسع عشر. فبعد دخول المخترعات الحديثة انهارت على اثرها جميع الحواجز بين المعقول وغير المعقول، واصبح كل شيء ممكنا.
وبعد دخول القوات البريطانية الى العراق حدثت تغيرات بنيوية عديدة سببت تناشزا اجتماعيا ونفسيا عند فئات واسعة من المجتمع العراقي. فالحضارة الغربية الوافدة جلبت معها عناصر مدنية وحضارية عديدة كانت متقدمة علميا وتقنيا، وهو ما اثار دهشة العراقي وجعله مبهورا امامها، وفجر صراعات بين مؤيدي الحضارة الغربية "المجددين" وبين الواقفين ضدها " المحافظين" وقد اعتبر البعض المجددين "كفارا" في حين اعتبر المجددون المحافظين "رجعيين".
كما ظهر هذا الصراع في المدن اكثر من الريف وبخاصة في المجالات التربوية وفي الاعلام ووضعية المرأة وغيرها. كما ولد توترا اجتماعيا ونفسيا وسياسيا حادا. ففي الوقت الذي لم يستطع المحافظون مقاومة اغراءات المدنية الغربية، اندفع المجددون وراء اغراءاتها وانجرفوا في تيارها مما ادى الى نوع من التحلل الديني والاجتماعي وظهور صراع بين الجيل الجديد والجيل القديم.
 كما ظهرت نتائج هذا التناشز في الصراع السياسي، وذلك بسبب النزعة الجدلية التي اتصف بها اهل العراق المعروفين "باهل الشقاق والنفاق" وفي المحسوبية والمنسوبية والوساطات وفي توزيع الحقوق والواجبات، وكذلك بالتمشدق بالشعارات الفارغة التي هي طلاء سطحي يخفي وراءه "شخصية زقاقية" لا تكاد تمس اوتارها الحساسة حتى تنتفض وتثور.
ان المجتمع العراقي متعدد الاثنيات والطوائف وان الاتصال بين الريف والمدينة هو اتصال قبلي وريفي وطائفي وهو ما يؤثر على الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية ويحدث خللا وتناشزا اجتماعيا.
ولذلك دعا الوردي قبل كل شيء الى اصلاح الاذهان قبل البدء باصلاح المجتمع لان التجارب القاسية التي مر بها الشعب العراقي علمته دروسا بليغة، فاذا لم يتعض بها فسوف يصاب بتجارب اقسى منها. وعلى العراقيين ان يتعودوا على ممارسة الديمقراطية حتى تتيح لهم حرية الرأي والتفاهم والحوار دون ان تفرض فئة او طائفة رأيها بالقوة على الاخرين.
وقبل نصف قرن قال الوردي، بان الشعب العراقي منقسم على نفسه وفيه من الصراع القبلي والقومي والطائفي اكثر من اي بلد آخر. وليس هناك من طريق سوى تطبيق الديمقراطية، وعلى العراقيين ان يعتبروا من تجاربهم الماضية، ولو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امدا طويلا.
لقد صدق الوردي، فالعراق اليوم يقف في مفترق طرق، وليس امامه سوى ممارسة الديمقراطية حتى في ابسط اشكالها وآلياتها.
لقد رحل الوردي بعد ان ترك لنا ثروة فكرية واجتماعية علمتنا ان نتعرف على ذاتنا وان ننتقدها قبل ان ندافع عنها او نجلدها. وقد آن الاوان ان نعي ذاتنا بعد الازمات والمحن والحروب التي مر بها العراق اليوم وان ندرك مدى ما خلفته من تفكك وعجز واستلاب اجتماعي ونفسي وسياسي وما افرزته من تشوه واغتراب في شخصية الفرد العراقي، مما سهل استلاب حريته واهدار دمه واستباحة ارضه واهانة كرامته، وليس امام العراقيين سوى طريقا واحدا هو ان يستعيدوا وعيهم المستلب ويقفوا على ارجلهم من جديد وان يتوحدوا تحت هوية وطنية واحدة ثم يبدأوا بتغيير انفسهم اولا، ثم بتغيير الآخرين، وليس ذلك بمستحيل . 

 

محاظرة القيت في مؤتمر الجمعية الطبية العراقية في المملكة المتحدة IMA، لندن من 13-14/8/2005.
وسوف يصدر للمؤلف قريبا كتاب حول الدكتور علي الوردي، دار الجمل، كولون.

إيلاف، 15/8/2005

 

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com