المرأة طريدتهم الأولى
عزيز الحاج
في مجرى الصراع الحاد بين الكنيسة ورجال الفكر والسياسة العلمانيين في فرنسا صرح سياسي جمهوري عام 1870 قائلا: "من يمسك بالمرأة فإنه يمسك بكل شئ. إنه يبدأ بالمرأة، وينتقل للطفل لينتهي بالزوج، أي بالمجتمع كله. ولهذا كانت الكنسية تركز على كسب المرأة لمشروعها الظلامي، وتعمل على غسل دماغها فتضيق عليها وتفرض عليها قيودها الكنسية. ولذلك ركز العلمانيون لا ضد الدين بل ضد هيمنة الكهنوت على المجتمع والدولة.
هذه الحالة مشابهة لبرامج ومشاريع التشدد الإسلامي ومختلف تيارات الإسلام السياسي بجميع مذاهبه. لقد حول الإسلاميون مثلا قضية الحجاب إلى رمز لصراع سياسي محوري في الطريق نحو الجمهورية الإسلامية الكبرى، وفي الغرب كجسر نحو تغيير الدساتير والقوانين الديمقراطية لصالح الجمعيات والتنظيمات الإسلامية. وقد شهدنا صراع التنظيمات الإسلامية في فرنسا منذ الثمانينات حول الحجاب في المدارس العامة، مع أن قانون عام 1905 قد حسم موضوع حظر استخدام الرموز الدينية ومنها الصلبان وتماثيل العذراء في المدارس العامة. وجاء قانون 2004 ليحسم نهائيا الموضوع بعد محاولات من بعض الساسة الفرنسيين تعديل قانون 1905 لكسب أصوات الجاليات المسلمة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
لقد نشرت مئات المقالات والبحوث المتميزة عن محاولات الإسلام السياسي العربي فرض الحصار على المرأة وجعل ذلك معركتهم الأولى للعبور نحو هدف قيام نظام إسلامي. ونذكر بالقانون رقم 137 السيئ الصيت الذي أصدره السيد عبد العزيز الحكيم لإحلال حكم الشريعة محل قانون 1959 المدني للأحوال الشخصية، وكيف قوبل القرار بمعارضة قوية وخصوصا من منظمات نسائية ديمقراطية تدعو لمكافحة كل أنواع التمييز ضد المرأة وجعل الإعلان الدولي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية لصالح المرأة مصدر التشريع في الأحوال المدنية.
ومن يدرس نقاط الخلاف الكبرى اليوم حول مسودة الدستور الدائم لا تفوته مساعي الأحزاب والتنظيمات الشيعية لفرض النظام الإسلامي على العراقيين. وهذا بالضبط معنى جعل الإسلام المصدر الرئيسي، أي الوحيد، للتشريع، وربط القوانين المدنية بشرط عدم مخالفتها للإسلام. ويقترن هذا الطلب بطلب مماثل عن فرض حكم الشريعة في مجال الأحوال الشخصية. ومن يجهل أن حكم الشريعة، وبالفقهين الشيعي والسني، مخالفا في معظم أمور الأحوال الشخصية مع الدساتير العصرية ومع الاتفاقيات الدولية التي سبق للعراق التوقيع عليها ومع الإعلان الدولي عن حقوق الإنسان.
إن هذه المساعي المحمومة، وخصوصا من جانب المجلس الأعلى، هي في نظري لب المشاكل الكبيرة الأخرى موضع الخلاف على الدستور. فإذا قام في العراق نظام إسلامي كإيران أو السودان فإن مركز السلطة في بغداد سوف يتصدى في الوقت المناسب لكل بنود الدستور التي لا تعجبه ولجميع مكاسب القوميات الأخرى. فلا الفيدرالية الكردستانية ستبقى في أمان، ولا حقوق وحريات الأديان الأخرى، ولا حريات التعبير والضمير، وغيرها من نصوص يوافقون عليها اليوم لينقضوا عليها غدا كما فعل نظام ولاية الفقيه تجاه القوى الديمقراطية والأكراد.
إن من المؤسف أن مستوى الشارع العراقي، الذي خربه صدام وزاد الإسلاميون في تخريبه بتأجيج الطائفية، قد وصل من التقهقر لحد رؤية نائبات محترمات من قائمة الائتلاف يتظاهرن أو يظهرن في الشاشة الصغيرة ليدافعن عن حق الرجل في ضرب المرأة بوصفه قد أباحه القرآن، أو يهاجمن مبدأ لمساواة العصري المدني لصالح مساواة في "الفضيلة" والواجبات الدينية وما يدخل في ذلك. وقد عقدت نساء المجلس الأعلى في تموز المنصرم مؤتمرا في النجف يطالب بتسجيل كون الشيعة أكثرية السكان: "إن أغلبية أبناء الشعب العراقي ومن كافة القوميات عربا وكردا وتركمانا وشبكا ينتمون إلى جماعة أهل البيت."[ إقرأ تعليقا على ذلك في مقال نشره موقع عراق الغد في 21 تموز الماضي.] وطالبت نساء المجلس بأن ترتبط حقوق المرأة ب"القيم الإسلامية"، و مساواة المرأة بالرجل ب" رؤية الإسلام في المساواة بينهما"، أي حق الرجل في ضرب الزوجة، ووضع شؤون الطلاق بيد الزوج، وإباحة زواج القاصرات، وزواج المتعة لدى الشيعة، والضرب بالجلد والرجم، الخ..أما الحجاب فقد حول صدام ومن بعده الإسلاميون العراق إلى غابة سوداء من النساء من الطفولة إلى الشيخوخة. ومن الطريف ونحن بصدد النظرة الإسلامية للمرأة أن يستند بعضهم للجن لتبرير الحجاب وإدانة السفور. وقد أمتعنا سعد الله خليل بمقاله عن كتاب عالم الجن الصادر في مصر، والذي من بين ما يرد فيه أن الجني يدخل المرأة التي تكشف وجهها ولكنه عاجز عن دخول المرأة المحجبة والمنقبة!
ما دعاني للعودة لهذا الموضوع الذي سبق لكتابنا الأحرار والشجعان أن عالجوه في الصحف والمواقع مرارا وتكرارا وخصوصا بمناسبة القرار 137، هو اعتصام فريق شجاع من النساء العراقيات في ساحة الفردوس أياما مطالبات بحقوقهن المدنية العصرية، وقيامهن يوم 15 آب الجاري بتظاهرة أمام بوابة الجمعية الوطنية عند بحثه موضوع الدستور.
أعتقد أن على كل الأحزاب والتنظيمات والشخصيات الوطنية المؤمنة بحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني، دعم مطالب المعتصمات وشقيقاتهن ممن يطالبن بدستور مدني ديمقراطي فيدرالي بعيدا عن هيمنة رجال الدين وحكم الشريعة وقيود الفقه الإسلامي غير المنطبقة مع العصر الحديث.
أجل إن المحور الحقيقي وأم المحاور في الصراع الدستوري والفكري والسياسي الدائر هو هل دستور إسلامي وفرض حكم الشريعة أي نظام ديني، أم دستور ديمقراطي علماني يفصل الدين عن الدولة، وهو النظام الذي هو وحده يضمن الحرية الكاملة للدين والمتدينين، ويصون هذه الحرية التي ينتقص منها كل نظام إسلامي بقدر ما يتعلق الأمر بالأديان الأخرى وبحرية الرأي والضمير والعقيدة.
عندما سعى العلمانيون الفرنسيون في الحكم لسن قوانين عصرية وفقا للإعلان الفرنسي عن حقوق الإنسان للثورة، رفعوا شعارات منها: "المعلم للمدرسة، ورئيس البلدية للبلدية، والقس للكنيسة."، وأيضا " لا تقولوا إننا أعداء الدين بل نحن نريده دينا محميا، ومصانا، وحرا."