|
العراق الجديد وضرورة التحرر من العقبات الثلاث محمد سعيد المخزومي تعاني العملية السياسة في العراق من قيود كثيرة وُضعت في طريق بناء العراق السياسي الجديد. وفي مقدمتها العقبات الأساسية الثلاث التي عليها مدار الجدل المحتدم في الواقع السياسي للعراق, والتي تشكل مساميرا خطيرة يجب الالتفات إلى ازالتها بحزم إذا أرادوا بناء عراق حضاري حر . ويمكن تسميتها مسامير لأن الظرف السياسي الطاريء قد وضع في قواعد بناء العراق الجديد مسامير نشأت بظروف استثنائية أمْلاها واقع السعي إلى الإجتماع من اجل إسقاط النظام البائد, وبعضها أمْلتها ظروف التأسيس لمرحلة انتقالية طارئة للحكم, وبقي المتصدون يحومون حولها لا يعرفون كيفية التخلص منها, وكأنها اخطبوط يدور حول العملية السياسية. وبالتالي فمن المنطقي الثابت اعتماد أسس جديدة لبناء العراق الجديد غير مبتنيات المرحلة الطارئة في معارضة النظام البائد وتأسيس الحكم الانتقالي وما رافقه من مستجدات, ومن تلك العوامل التي يجب على كافة السياسيين وضعها في نظر الاعتبار والعمل على تجاوزها من اجل خدمة شعبهم وبناء بلدهم هي: العقبة الأولى: اعتماد السياسيين العراقيين على اتفاقات المعارضة السياسية العقبة الثانية: اعتماد الساسة العراقيين على قانون ادارة الدولة المؤقت العقبة الثالثة: اعتماد الساسة الكرد على المنطق القومي في بناء العراق الجديد
العقبة الأولى: اعتماد السياسين العراقيين على اتفاقات المعارضة السياسية إن سبب تشبث الاخوة الكرد بمنطق اتفاقاتهم السياسية مع بعض احزاب المعارضة السياسية وقتذاك يجعل العملية السياسية تدور في فلك التدويخ. وكما هو معروف انهم اتفقوا على أمور مهما كانت صحيحة أو مغلوطة إلا أنها اتفاقات بين احزاب معارضة تمثل رأي نخبة من السياسيين التزمت منهج مقارعة الظلم والظالمين, وهم بذلك من المشكورون وعلى جهادهم من المأجورين, وأن جهادهم لَمِمّا قد صبغ العراق بالدم الطاهر الزاكي. أما اليوم وبعد سقوط نظام الاستبداد يجب أن تتغير الأمور رأسا على عقب بموجب المنطق الحضاري في التعامل السليم مع الواقع العراقي الجديد, ذلك المنطق القائل: أن سقوط نظام الاستبداد لم يكن قد حصل بجهود الأمريكان أو غيرهم, وانما كانوا قد استفادوا من الظروف الموضوعية الكامنة في إرادة الشعب للتخلص من نظام عفن ظالم غاشم. ولو كان الشعب قد ناهض قوات الاحتلال يومها لما كان لهم وجود على الأرض, وانما سقط الطاغوت وتهاوى نظام الاستبداد القومي الطائفي, بفضل الدماء الطاهرة التي سكبت على ارض العراق, والتضحيات الكبيرة التي قدمها أبناء شعب المقابر الجماعية والاعدامات الفردية والكوارث التي يندى لها جبين التاريخ, والتضحيات الكبيرة للعلماء الابرار, ورعيل المفكرين الأحرار, والنخب المؤمنة التي قارعت الظلم والاستبداد وطالبت بعراق اسلامي حر وحضاري متين يحمي الإنسان ويحفظ الحقوق وفق المنطق الحضاري للحياة لا المنطق القومي الجاهلي المؤمن بالانانية الحزبية, والانانية القومية والعرقية, ولا المنطق الجاهلي الطائفي المؤمن بالانانية والحذف, فَتَرَكَ شعبُ المعاناة نظام الاستبداد ليصارع قدره المحتوم وحده. فالشعب هو الذي اسقط نظام الاستبداد حتى جائت النخب أو الكتل السياسية, فصعد بعضها سدة الحكم, وكانت معهم تلك الاتفاقات السياسية القديمة التي كانوا عليها ايام جهادهم ونضالهم يوم كانوا احزاب معارضة سياسية, أما اليوم فقد اختلف الأمر الذي يجب أن يستوعبه الجميع من حيث: 1. انهم غير الأمس, بالأمس كانوا معارضة سياسية. ومن الطبيعي أن يكون منطق المعارضة وثقافتها هو الإجتماع مع كل المعارضين بتطلعاتهم المختلفة وثقافاتهم المتباينة, والعمل على العوامل المشتركة وهي إسقاط النظام المستبد, وإرجاء ما يختلفون عليه إلى المستقبل لتحكم به قناعات القوم وفق الميدان القادم لأنهم في فترة المعارضة يعملون في إطار ميدان محدود ذلك هو ميدانهم السياسي الحزبي, بينما ميدان ما بعد التغيير سيكون ميدان الشعب بملايينه الرهيبة, وعليه فلا يصلح لهم اتخاذ أي قرار يتعلق بمصير يستوجب موافقة الشعب كل الشعب بدون تشطيره قوميا ولا طائفيا ولا غيره. 2. بناءا على تغيير المرحلة من المعارضة إلى مرحلة الحكم والتصدي, يجب منطقيا العمل بمفاهيم ومنطلقات جديده, وهي لغة وثقافة العمل على بناء العراق الذي كانوا يناضلون من اجله, وإدارة الحكم الذي يعني منطقيا إدارة مصالح العراق وشعبه بكافة قومياته ومذاهبه وطوائفه. 3. إن ثقافة بناء العراق الجديد تقتضي أن لا يكون السياسيون أسراء اتفاقاتهم السياسية الخاصة بهم ايام المعارضة, إذْ يجب أن يخضع كل شيء إلى رأي الشعب. وأن يدرك كافة الفرقاء السياسيين أن الشعب هو ميدان كل هذه التجاذبات السياسية, وبالتالي فله الكلمة الفصل وليست الكلمة الفصل لإتفاقاتٍ سياسيةٍ بين اطراف في المعارضة السياسية آنذاك. 4. على كافة الفرقاء السياسيين معرفة حقيقة ما هم عليه وهو أن تشبثهم بمنطق الاتفاقات السياسية للمعارضة السياسية القديمة التي تحولت إلى جهاز حاكم, إنما يعني مصادرة الشعب حقه, وهذا يعني (إستبداد) لو كانوا يعلمون. 5. المطلوب من جميع الفرقاء السياسيين توخي المرونة في استيعاب المرحلة الجديدة التي هم فيها, والتي تعني بناء العراق, والعمل وفق إرادة الشعب وليس خارجه أو على حسابه. العقبة الثانية: اعتماد الساسة العراقيين على قانون إدارة الدولة المؤقت 1. إن قانون إدارة الدولة المؤقت وباختصار هو من تاسيس إدارة الاحتلال في العراق على عهد بريمر, وعليه فتكون تلك القوانين غير ملزمة للشعب العراقي, لأنه لم يكن الذي قد سنّها ولا وافق عليها ولا أسسها ممثلون عنه, وهذا خلاف المنطق الديمقراطي على الإطلاق. ثم بموجب أي نص ديمقراطي يجب على الجمعية الوطنية المنتخبة من قبل الشعب أن تكون مقيّدة بقوانين سنتها حكومة الاحتلال في عهدها البريمري وفي ظل ظروف استثنائية, وهل على الشعب قبول تلك اللائحة من خلال إملاءها على الجمعية الوطنية أو غيرها؟ . 2. الديمقراطية تعني حكم الشعب كما بيّناه في بحث سابق, وحكم الشعب حسب أبجديات المفهوم الديمقراطي يعني حكم اغلبيته إذا صوّتت على حرب أو سلم أو سن قانون أو تشريع أو غيره, وخلاف هذا يعني الكفر بمباديء الديمقراطية التي عليها الديمقراطيون أنفسهم. بناء على ذلك فلا يجوز إنسانيا ولا ديمقراطيا ولا إسلاميا أن يصوّت الشعب بأغلبيته على أمر ثم إذا رفضته الأقلية سقط ذلك التصويت وألغي ذلك الحكم, وهذا ما وجدناه في قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية في البند(ج) من المادة الواحد والستون حيث يقول: (يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة اكثرية الناخبين في العراق، واذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو اكثر) فهذا القانون يؤكد على حكم الأكثرية في الانتخابات والمصادقة على الدستور بقوله (يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة اكثرية الناخبين في العراق) ثم يسقطها بقوله (واذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو اكثر), وهذا يعني ظلم الأغلبية وإسقاط الديمقراطية بإسم الديمقراطية والقانون, وبهذا ما لا يمكن المجاملة فيه على حساب الحق وخلاف المنطق, فأقول مِنْ أجل سواد عيون مَنْ قد سنّت حكومة الاحتلال هذه اللائحة؟ ولأجل خواطر مَنْ اسست حكومة الاحتلال مثل هذا القانون؟ وإلغاءا لحقوق مَنَْ سنّت الديمقراطية ظلم الأقلية للأكثرية إذا صوّت الشعب باكثريته على انتخاب أو دستور أو غيره. ألا يعني هذا إدخالا العراق في دوّامة من التدويخ القومي لتدوخ الأكثرية وتستلم إلى إرادة الأقلية كما يريدها الاحتلال. وهل هذه هي الديمقراطية التي يراد لها أن تحكم العراق؟ فهل يراد للعراق كوارث تتبعها كوارث؟ ثم هل يراد للعراق ديكتاتورية تحت ستار الديمقراطية؟ هل يراد للعراق أن يدور في دوامات توقف عملية بناءه وتطويره؟ وهل يراد للعراق البقاء أن يدور حول نفسه لتعبث فيه ايادي الإرهاب البعثي بثقافته القومية, مناهجه الانقلابية, وروحه الطائفية, مع تحالف السلفيين بثقافتهم التكفيرية ومناهجهم الأقصائية الدموية؟ ألم تكن في كندا اقلية فرنسية واكثرية انكليزية؟ فهل كانوا وما زالوا يعالجون مشاكلهم القومية على غرار ديمقراطية قانون إدارة الدولة العراقية؟ ألم يكن في امريكا اكثرية ناطقة بالإنكليزية واقلية ناطقة بالاسبانية فهل تحل الديمقراطية الأمريكية امورها على أساس تحكيم رأي الاقلية الاسبانية على حساب تصويت الأكثرية الانكليزية في قضاياهم؟. فماذا يراد للعراق؟ ألا يراد له أن يكون حرا؟ أم يراد للعراق أن يعيش آلام المسامير والقنابل السياسية والاعواد المنهجية تحت اقدامه على طول التاريخ؟ وإلى متى؟ 3. صحيح أن الديمقراطية فكرة أو منهج يعني اعتماد التصويت الجماعي في بناء المشاريع التي يراد بناء البلد عليها, وصحيح أنها تفتقر إلى فكر مؤسَّسٍ متكامل عن نظرية متكاملة كما هو حال المناهج الوضعية كالماركسية وحتى البعثية التي اعتمد فكرعفلق السارق لفكر زكي الارسوزي, إلا انه في النتيجة النهائية عنده فكرة طوباوية ممنهجة ترمي إلى تغيير هوية الأمة والمجتمع, إلا أن الديمقراطية لا تعتمد فكرة واضحة المعالم شاملة الابعاد سوى فكرة اعتماد رأي الشعب على التصويت في الحكم والعمل بموجب رأي الأغلبية, أما باقي التنظير السياسي والاجتماعي والاقتصادي فيعود إلى آراء ارتجالية وآنيّة تأتي في حينها, وصحيح ذلك كله. أما من غير الصحيح أن تطبق الديمقراطية على العراق منهجا استبداديا تحت شعار الديمقراطية وعنوان التجديد. فيلغون حق الأكثرية رعاية للأقلية لأن دعاة الديمقراطية في بلادنا يميلون إلى الاقليات السياسية أو الدينية أو العرقية, وهي سياسة قديمة بثوب جديد. العقبة الثالثة: اعتماد الساسة الكرد على المنطق القومي في بناء العراق الجديد إن المطّلع البسيط على مجريات الواقع السياسي للعراق يكتشف أن الاخوة الكرد يتمنطقون بذات المنطق القومي الذي كانوا عليه في مرحلة العراق القومي القديم. وما هذه المشاكل السياسية التي نراها اليوم إلا من مخلفات عاملين هما الثقافة القومية التي تأصلت بفعل المشاريع القومية العربية للحكومات التي توالت على الحكم في العراق التي خلقت ردة فعل قومي معاكس, إضافة إلى تمسك الاخوة الكرد بالمناهج القومية التي أثبتت فشلها في العالم العربي والاسلامي على وجه العموم فضلا عن الغرب نفسه كما بحثناه في محله. والعامل الثاني هو قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية, والذي أريد له أن يكون القواعد الأساسية للدستور الدائم قَبِلَ العراقيون به أم لم يقبلوا, لأن هذا ما تريده ديمقراطية الإكراه والفرض والإرغام. حيث يؤكد في الفقرة (ب) من المادة الثامنة والخمسين على ضرورة ترسيم الحدود الادارية بين المحافظات, فيقول: (لقد تلاعب النظام السابق ايضا بالحدود الادارية وغيرها بغية تحقيق اهداف سياسية، على الرئاسة والحكومة العراقية الانتقالية تقديم التوصيات الى الجمعية الوطنية وذلك لمعالجة تلك التغييرات غير العادلة) وبهذه النقطة يراد التأكيد على العمل بقانون الفعل ورد الفعل لما قد فعل النظام السابق في تغيير بعض التبديلات الادارية في حدود محافظات العراق لمشكلة قومية بينه وبين الكرد, الأمر الذي يكشف عن النوايا الانفصالية خصوصا إذا ما أريد لتلك المحافظات تجذير الفكر القومي القديم. وأن بحث هذا الأمر يتطلب الوقوف على بيان أن الكون والعالم والإنسان والمجتمع البشري خاضع للتطور والتكامل, والعمل على تغيير مبانية وترويضها وفق التطورات المنطقية في الحياة, وهذا يتطلب البحث في النقاط التالية: النقطة الأولى: الاستجابة إلى التطور أساس التكامل الكوني حيث أن الله تَعالى قد بنى الكون على أساس التكامل والتوسع يوما بعد يوم لم يتركه متوقفا عند حدوده القديمة, وذلك بموحب المنطق العلمي القائل (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ([1]) وقد اكدت التحقيقات العلمية على توسّع الكون باستمرار وزيادة في حجم المجرات واجزاء الكون المترامي, فالعالم إذن يخضع إلى التطور والتكامل في البناء . النقطة الثانية: الاستجابة إلى التطور أساس التكامل الإنساني حيث خلق الله سبحانه الإنسان على أساس التكامل والانتقال من مرحلة إلى أخرى متقدمة اكثر وفق منطق (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً)([2]) فصار ينتقل من طور إلى آخر بغية التطور والتنامي والتكامل في الحياة, بل خلق الإنسان على الأرض التي جعلها مهدا تحتاجه البشرية إلى التكامل كما يحتاج الطفل إلى المهد, فإذا كبر وتطورت قدراته انتقل من المهد إلى المرحلة الآتية من الحياة. كذلك صارت له الأرض مهدا لأن منطق (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً)([3]) جعل المهد لتنمو فيه قدرات البشر وتترعرع وتتكامل فيها حتى البلوغ إلى تمام النضج, فإذا انتفع الإنسان من امكانيات المهد انطلق من هذا المهد الذي هو الأرض إلى المرحلة القادمة من الحياة وهي الآخرة التي يجد فيها الإنسان ما كان يعمل فيها محضرا, ف(يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ) وفيها ما لا يخطر على بال أحد (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ) حتى أن أوج بلوغ التكامل يصل مرحلة لا تدانيها مرحلة إلا مرحلة (وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ([4]) وبقاء اللذة أبدياً فلا يتعبون في شيء منها و(لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ) ([5]), وأي تكامل أبلغ من هذا التكامل؟ وأي استفادة من المهد الذي كانوا يتمتعون؟!. النقطة الثالثة: الاستجابة إلى التطور أساس التكامل الاجتماعي لما اودع الله تَعالى في المجتمع الإنساني قابلية البحث عن النمو والتطور, حيث جعله توّاقا إلى الكمال سائرا نحوه, فلم يرد له التخلف والتقوقع أو التحجر على أفكار لم يكن لها نصيب من التحضر والحياة فقال (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) ([6]) فالتعارف في هذه الآية الكريمة إنما هو من اجل البناء, بل أن التعارف هو عنوان التكامل في البناء, لأن التكامل مرهون بجملة من العوامل منها التعارف المؤدي إلى التآلف, وذلك الذي يفضي إلى معرفة الطاقات بعضها البعض, فيدفع بالجميع إلى اجتماع الطاقات البشرية وتراصّ القدرات الإنسانية إلى بعضها لتشكل طاقة خلاّقة وقدرة عملاقة تعمل في بناء الحياة وعمارة الأرض لأنه (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ) ولم ينتهِ الأمر عند هذا البيان لإجل الإخبار فحسب, بل (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)([7]) لأن الغاية منه العمارة والبناء الذي لايتحقق إلا بالتعارف المؤدي إلى التكامل. النقطة الرابعة: سعادة المجتمع الإنساني بالتكامل الحضاري التكامل الحضاري في المجتمعات البشرية لن يتحقق ما لم يستكمل شروط البناء الحيوي الذي يكمن في التعارف الإجتماعي وليس التناحر والتحزب لمناهج التشرذم والتمزق. ثم لا يمكن أن يتحقق التعارف إلا بتوافر الشروط التالية: الشرط الأول: تحقيق التفاهم بدل التخاصم لأن لا يمكن التعارف مع التعنت والتصلب والتعصب.لأن خلاف التفاهم يعني التعنت والتخاصم. الشرط الثاني: التفاهم من اجل معرفة الحقيقة إن دافع التفاهم دافع ذاتي في الإنسان, وغايته الوصول إلى الحقيقة, وإلا فإن التفاهم ينعدم إذا كانت غاية الإنسان فرض ما عنده على غيره. ومَثَلُ ذلك انصات اثنين من المتحاورين في قضية ما فمرّة ينصت للآخر هادفا التربص به لردّه ونقض رأيه قبل أن يسمع مقالته, ومرة يصغي بكل جوارحه وجوانحه هادفا فهم حقيقة مطلوب الطرف المقابل, من هنا يسقط التفاهم من قاموس الأول لعدم أرادته الحقيقة فلا يصل مع صاحبه إلى حل فنتهدم العلاقة ويتلاشى ما بينهما من مشروع, بينما الثاني يصل مع صاحبه إلى حلول ايجابية تؤدي إلى بناء العلاقة ونجاح المشروع, ومحور ذلك التفاهم هو معرفة الحقيقة. الشرط الثالث: معرفة الحقيقة مرهونة بمحبة الإنسانية لا يكون الإنسان محبا للحقيقة ما لم يكن محبا للإنسان والإنسان الآخر. وإلا فإن الإنسان الذي يبغض الآخر ويكنُّ له الحقد لا يمكنه أن يكون محبا للحقيقة. الشرط الرابع: محبة الإنسانية مرهونة بالتجرد من الأنانية إن محبة الإنسانية لن تتحقق ما لم تتحقق السيطرة على النفس ودوافعها الاهوائية والتجرد عن الأنانية, لأن الاناني لن يكون محبا للإنسان بقدر ما يكون محبا لنفسه ورهطه وحزبه وقومه. الشرط الخامس: تشخيص أنانية كل مشروع في المتمحور الذاتي بناءا على ذلك فإن أي مشروع عدَّ نفسه دينيا أو علمانيا إذا ما تمحور على نفسه وتقوقع على ذاته الشخصية أو الحزبية أو القومية أو الدينية فهو مشروع أناني, خصوصا وان الإسلام يتعجب من بغض الإنسان للآخر كما الإمام الباقر عليه السلام (وهل الدين إلا الحب) ([8]) فالإنسان الذي يبغض الإنسان الآخر أناني الطبع والثقافة السلوك, وأن المشروع الذي يبغض الآخرين ويتطرف لنفسه الشخصية أو الحزبية أو القومية أناني هو الآخر. الشرط السادس: معرفة أن الأنانية حقيقة المشاريع القومية تأسيسا على الحقائق المنطقية السابقة فإن القوميين والطائفيين بشكل عام أنانيون من الدرجة الأولى واعداء الإنسانية, لأنهم لا يحبون إلا أنفسهم ولا يريدون أن يحوزوا النار إلا إلى قرصهم ولو كلفهم قتل الآخرين جوعا. ومن لا يهتم إلا بأنانية نفسه أو طائفيته أو قوميته فلن يكون محبا للانسانية, ومن لا يحب الإنسانية لا يكون محبا للحقيقة, ومن لا يحب الحقيقة لا يستطيع التفاهم, ومن يتعذر عليه التفاهم يتعذر عليه التعارف مع الآخرين والانسجام مع القدرات الخلاّقة, ومن يتعذر عليه التعارف مع بني الإنسان يتعذر عليه التكامل, ومن يتعذر عليه التكامل يتعذر عليه البناء, ومن يتعذر عليه البناء يتعجل الهدم إشباعا لإنانيته. وفي مقابل ذلك فإن الفكر الحضاري يؤكد على وجوب تكامل الإنسان, فيوجب عليه كل يوم العمل على التقدم والتكامل والتطور, فيوجب عليه البحث عن الفكرة الأكمل في الوجود, والصيغة الأشمل في الحياة, والاسلوب الأفضل في التعامل, والطريقة المثلى في التعارف. وقد أكد الإمام الصادق عليه السلام على وجوب التقدم والعمل على التكامل والسعي الحثيث على التطور والتطوير, وليس الجمود ولا التوقف لما في ذلك من التردي والتأخير فيقول: (منِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ) ([9]) والتساوي هنا في أن يكون الإنسان أو المجتمع على درجة متساوية من التقدم مع ملاحظة تطور الزمن وتسارع الايام. ثم يشجع الذي يتطور مع الحياة ويعمل على تكامل نفسه ومجتمعه فيقول: (ومَنْ كَانَ آخِرُ يَوْمَيْهِ خَيْرَهُمَا فَهُوَ مَغْبُوطٌ) ([10]). بينما يوبخ الإمام من كان أمسه أفضل من يومه فيقول (وَمَنْ كَانَ آخِرُ يَوْمَيْهِ شَرَّهُمَا فَهُوَ مَلْعُونٌ) ([11]) واللعنة هنا تعني الطرد من رحمة الله, الذي لم يخلق الإنسان إلا ليرحمه بنص (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)([12]) ولا يمكن للإنسان الرحمة ما لم يتعرض بمحض إرادته إلى رحمة الله التي وفّرها له في الحياة, تلك الرحمة التي تتجلى في بناء الحياة وعمارة الأرض في إسعاد الإنسان بحقيقة الاستجابة لمناهج الحياة وفق حتمية (اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) ([13]), وبالتالي فالذي يتساوى يوماه في مشاريع الحياة, أو يكون أمسه أفضل من يومه في التقدم فهو إلى التأخر. ذلك لأن (مَنْ لَمْ يَرَ الزِّيَادَةَ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ إِلَى النُّقْصَانِ) ([14]) وأن النتيجة الحتمية من رفض التطور, والاصرار في رغبة البقاء على التأخر فهو إلى التناقص وليس إلى التقدم والتكامل في شيء, وإنْ حسب نفسه كذلك لأن (مَنْ كَانَ إِلَى النُّقْصَانِ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْحَيَاةِ) ([15]) لعدم إمكانية تماشيه مع متطلبات الحياة. من هنا فإن المشاريع القومية على كافة مشاربها, واختلاف مضاربها, وتنوّع مآربها, مشاريعٌ أنانيةٌ, ذاتُ أهدافٍ ضيقةٍ, تتنافى وإنسانية الإنسان, وهذه حقيقة تستلزم من الجميع الالتفات إليها بغية التصحيح والتغيير والتطوير. الخلاصة من البحث من كل ما تقدم من بحث يمكن تلخيصه بالامور التالية: الأمر الأول: يكون من اكبر الجنايات في حق الشعب تأطير الدستور الجديد بإطار المباني التي اسسها القانون المؤقت المنصوب بظرف طارئة وبإرادة الحكومة المدنية للاحتلال كما هو معروف لدى القاصي والداني. وعليه يجب إلغاء التقيد بمواعيد ومواقيت والتعبد ببنود ونصوص قانون إدارة الدولة المؤقت, وعدم اعتباره نصا سماويا يجب التعبد به, كما دلت عليه أحداث الاجتماع الخاص بالجمعية بقضّها وقضيضها من اجل تعديل فقرة من الدستور المؤقت للحكومة الانتقالية, وكأنها قرآنا (؟!) لا يجوز مسّه, ويحرم تجاوز الوحي الذي أنزله(؟!) فأجمعت الجمعية على أن تُقدّم (مسودة الدستور الدائم في موعد أقصاه 22 أغسطس/آب 2005, كما يغير المقترح عبارة 15 أغسطس/ آب أينما وردت في قانون الدولة المؤقت إلى 22 أغسطس/آب ). أما لماذا يجب إلغاء قانون إدارة الدولة وعدم التعبد به فلاسباب ابرزها: 1. لأنه قانون قد اُسس على خلاف إرادة الشعب, وخلاف تصويته, بل مفروض عليه. 2. لأنه قانون يعمل على تكريس التقسيم ويحث على الإنفصال وتمزيق العراق الذي يجب أن لا يبتّ فيه إلا العراقييون أنفسهم بكافة اعراقهم وأديانهم. 3. لأنه يهين كافة العقول العراقية ويتجاوز الكفاءات العملاقة من فقهاء الشريعة وخبراء القانون, وأساطين السياسة, فيُملي عليهم ما أرادته حكومة الاحتلال آنذاك, وكأن الشعب العراقي لم يلد العباقرة ولا رجال العلم والفقه والقانون والمعرفة. من كل ما تقدم يجب إجماع الغيارى في العراق من حكوميين وبرلمانيين وغيرهم العمل على التحرر مما يراد لهم التعبد بقانون مؤقت أريد له أن يكون كالقانون المؤقت السابق للعراق الكارثي القديم في أعقاب ثورة العشرين. الأمر الثاني: أن يتحرر سياسيّيوا العراق الجديد من أسر اتفاقاتهم السياسية ايام كونهم معارضة للنظام البائد, وان اتفاقاتهم تمثل اتفاقات خاصة بهم ولظروفهم الاستثنائية التي كانوا يعيشون, وانهم اليوم ساسة لحكومة شعبية, وأنهم أمام شعب يجب أن يقول كلمته الفصل في كل المتغيرات السياسية سلبا أو ايجابا. الأمر الثالث: أن يدرك الاخوة السياسيون الكرد انهم في مرحلة بناء عراق حر يؤمن بالجميع, ويتلاحم مع الجميع, ويتآلف مع الجميع ويعطي حقوق الجميع وفق مباني الاخوّة والحياة, وعليه فإن مباني العمل السياسي القائم على الأسس الديمقراطية التي يعملون من اجلها هي غير المباني التي كانوا عليها أيام صراعهم مع النظم القومية المستبدة في العراق القديم. الأمر الرابع: من اجل التكامل الحضاري في الحياة عليهم مراجعة المباني القديمة وتطويرها نحو الأكمل, والأفضل من اجل البناء الحضاري لعراق جديد أمثل. وهذا يستلزم عدم التشبث بالمباني القومية التي افرزتها عليهم ظروف الصراعات القومية لمناهج القوميين العرب, خصوصا وانهم أمام فرقاء في الحكم والسياسة وفي الجمعية من المتضررين من تلك المناهج ذات الشأن الطائفي الإقصائي المر. كما أن العراقيين الذي يعملون معهم في الاطار السياسي الجديد لم يتمنطقوا بالمنطق القومي حتى يتشبث الاخوة الكرد بمنطلقاتهم القومية القديمة التي عفى عليها الدهر. الأمر الذي يلزمهم بما يلزم إخوانهم في الحكم من الشيعة أو من السنة الذي شاركوهم الحكم والسياسة وادارة البلاد. الأمر الخامس: حتى يتمكن الاخوة الكرد من مراجعة منطلقاتهم القديمة باتجاه التوجهات الحضارية للعراق الجديد يجب عدم نسيان حضارية موقف إخوانهم الشيعة ايام الحروب القومية التي اضطلعت بها الحكومات السابقة ضد الكرد. فوقفت مرجعياتهم الدينية موقفا حضاريا تاريخيا في تحريم القتال ضد إخوانهم الكرد, ودفعت المرجعية الدينية الثمن الباهض لهذا الموقف مع حكومات عرفت بالجور والعدوان. ولا انسى (والقول لكاتب هذه السطور) اني مع لفيف ليس بالقليل من الطلبة الجامعيين يوم أوشكنا على التخرج من الجامعات العراقية ولم يبق بيننا وبين الانتهاء منها إلا شهورا معدودة, والحرب الحكومية كانت قائمة ضد الكرد قررنا الهرب من المشاركة في المعركة المحرمة بين المسلمين الكرد والحكومة الجائرة, فعزمنا بعد التخرج العيش متخفّين تتخطفنا أجهزة المتابعة وتلاحقنا قوى الإرهاب لتخلفنا عن العسكرية, ورغم ذلك آثرنا البقاء على هامش الحياة وفينا الأطباء والمهندسون ورجال العلم في الكيمياء والفيزياء وغيرهم. ولولا أن تداركتنا رحمة من الله فوضعت الحرب أوزارها وسكن نزيف الدم عام 1975 (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) ([16]). فهل نسي الكرد موقف اخوانهم الشيعة ومرجعياتهم المتحضرة؟ متى كان الشيعة قوميون حتى يتعامل معهم الكرد بالمنطق القومي؟. ألم يكونوا حضاريين يحترمون الإنسان, ويؤمنون بالخير, ويتبعون الحق, ويعملون على البناء, ويصونون الحرمات؟ وهل من الانصاف التعامل مع الحضاريين بمنطق الأنانية القومية؟ . وفي الختام .. إن على جميع العراقيين الآن مسؤولية بناء عراق حضاري لا قومي اناني, ولا طائفي حاقد . وليتآلفوا, ويتعارفوا, ولا يتناحروا, ولا يتفاخروا بغير الحق, لإن من ورائهم يوما عسيرا إن لم يحسنوا استثمار النعمة التي بين أييدهم, لأن المنعم يوجب عليهم احترامها وتقديرها وعدم التفريط بها فيقول (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) ([17])
[1] - سورة الذاريات/ آية 47 [2] - سورة نوح/ آية 14 [3] - سورة طه/ آية 52 [4] - سورة الزخرف / آية 71 [5] - سورة الحج/ آية 48 [6] - سورة الحجرات/ آية 13 [7] - سورة هود/ آية 61 [8] - الكافي ج8 ص79 [9] - الوسائل ص95 ج16 [10] - الوسائل ص95 ج16 [11] - الوسائل ص95 ج16 [12] - سورة الأنبياء/ آية 107 [13] - سورة الأنفال/ آية 24 [14] - الوسائل ص95 ج16 [15] - الوسائل ص95 ج16 [16] - سورة الأحزاب/ آية 25 [17] - سورة ابراهيم / آية 7
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |