|
بؤس السجال العراقي ـ العراقي!
عزيز الحاج
في عقود هيمنة الأفكار القومية واليسارية لدى النخب العراقية المتقدمة كانت الاتهامات الجاهزة ضد المعارض هي "عميل"، "خائن"، وعند القوميين أيضا "شعوبي"، "عدو العروبة"، وغيرها من تهم جاهزة في القاموس السياسي العراقي، دون نكران أنها موجودة في مجمل القاموس السياسي العربي. ومنذ هيمنة مفاهيم وأفكار التزمت والتطرف الدينيين والمذهبيين، وخصوصا في مجالهما السياسي، فإن التهم الجاهزة اليوم في ردود ونقاشات المثقفين والساسة الإسلاميين لمخالفيهم هي: " ضد الإسلام"، "أعداء الدين، "كفرة"، وعند الشيعة منهم تهمة "ضد الشيعة". عندما نشر عدد من الكتاب مقالات عن حقيقة وضع المرأة في الإسلام مستندين لنصوص ومراجع معتمدة ومقررة حتى في التعليم الديني، لم يستطع المعترضون أن يناقشوا حجة بحجة، وأن يناقشوا المقالات ومضامينها بل قرؤوها بعواطفهم المغتلية، وفهموها كما أرادوا هم فهمها! إن هذا المرض الفكري ـ السياسي يتجلى اليوم في المناقشات الجارية حول مسودة كتلتي الإئتلافيين والتحالف الكوردستاني للدستور. فتهم "ضد الشيعة"، "التحامل على الدين"، تسود لغة أمثال هؤلاء عند الرد على من انتقدوا، وكثيرون منهم من الشيعة، المسودة بموضوعية، ومن موقع الحرص الوطني والمطالبة بنظام ديمقراطي مدني فيدرالي يفصل الدين ومؤسساته عن الدولة وشؤونها ومؤسساتها، ويعطي المرأة كافة حقوقها وحرياتها المنصوص عليها في الإعلان الدولي لحقوق الإنسان، وفي الاتفاقيات الدولية الموقع عليها، حول المرأة وضد جميع أشكال التمييز ضدها. أما بعض الردود فقد حاولت إثارة المهاترات الشخصية من موقع الإفلاس التام في المنطق والحجة. لقد وضع الدكتور عبد الخالق حسين النقاط على الحروف بهذا الصدد عندما أكد على أن القضية المطروحة ليست قضية الإسلام كدين وقيم روحية، ولا التحامل على التشيع والشيعة، بل هي قضية استخدام الدين لأغراض سياسية من التسلط ومن أجل النفوذ والهيمنة على المجتمع والدولة، وكذلك قضية الدين والاجتهادات والفقهية المتضاربة بين المذاهب نفسها، والتي لا يجوز جعلها أساسا لنظام ديمقراطي مدني في هذا العصر، ونحن في القرن الواحد والعشرين؛ هذه "الشريعة" التي هي من نتاج الفقهاء ورجال الدين الذين يجعلون من أنفسهم أوصياء على الدين والمجتمع. إن هؤلاء الذين راحوا يكثرون الثرثرة عن "معاداة" العلمانيين العراقيين للشيعة يتعمدون نسيان انه ليس من حق كائن من كان وأي مقام رفيع كان، ادعاء احتكار تمثيل شيعة العراق. هؤلاء يتعمدون نسيان أن الشيعة العراقيين لا ينتمون جميعا للتنظيمات السياسية الشيعية، وأن بينهم علمانيين من الديمقراطيين اللبراليين واليساريين والقوميين، وأن بعض الشخصيات الدينية الشيعية نفسها كالشيخ إياد جمال الدين، يرفضون زج الدين في السياسة وشؤون الدولة وقد انتقدوا تدخل المرجعية الشيعية في تفاصيل العملية السياسية كموضوع الانتخابات والتأليب ضد قانون الإدارة. إن فريقا من المثقفين الشيعة وسائر الأحزاب والتنظيمات الشيعية يريدون طمس التاريخ المجيد للنخب الدينية والفكرية والسياسية والأدبية الشيعية، التي لم تطالب بحكم الشريعة ولا بهيمنة رجال الدين على السلطة، لا مباشرة ولا بالفتاوى! فهل ننسى السياسي اللبرالي اللامع جعفر أبو التمن وكان من المتدينين الشيعة، والسياسي البارز سعد صالح والشبيبيين، السياسي والشاعر المتدين والسياسي والشاعر اليساري الشهيد، وغيرهما، أو أن ننسى العلامة الديني الكبير الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء والمرجع الديني السيد أبا الحسن وهبة الدين وأمثالهم من كبار رجال الدين؟ هل ننسى المفكر والباحث علي الوردي، والشاعر الجواهري، والأديب والصحفي جعفر الخليلي، وغيرهم من فطاحل الأدب والفكر والصحافة ودورهم في عملية التنوير الحديثة في العراق؟ الحقيقة أن التهم المجانية مارة الذكر، والمسيطرة على عقليات فريق من المثقفين العراقيين اليوم، هي دليل ضعف الحجة، والشعور بالورطة والعجز الفكري، ومجرد عواطف تغلي بلا تحليل عميق ولا قراءة صحيحة لأفكار المخالفين لمسودة الدستور، التي أعتبرها شخصيا كارثية لو اعتمدت، وستكون عامل تأجيج للمشاعر الطائفية، وسلاحا جديدا في أيدي الإرهابيين، بينما كنا نأمل أن تكرس الحكومة والجمعية الوطنية والأحزاب والقيادات السياسية جهودها أولا لمواجهة حرب الإرهاب ولخدمات المواطنين، وخلق الجو المناسب لتشريع الدستور. هنا أسمح لنفسي بالعودة بنقاط أخرى عن المسودة تضاف لمقالي السابق لأول أمس. بادئ ذي بدء أود الإعراب عن تأييدي التام لمقال الدكتور عبد الخالق بتاريخ اليوم، الخميس 25 منه. لقد كانت إشارته لمقال نيويورك تايمس مهمة وبليغة. في مقالي السابق ألقيت باللوم الأول، بعد الكتلة السياسية الشيعية، على السفير الأمريكي وإدارته. ولكن الواضح الآن أن الحالة لم تكن كما وردت في تصريح الشخصية الكردية في لجنة الدستور، حين وضع اللوم على الأمريكان، واعتبر ذلك طعنة للتحالف الكوردستاني والعلمانيين العراقيين. الحقيقة هي أن الأمريكان لم يحرروا العراق لاستبدال صدام بنظام إسلامي تحكمه الشريعة. الأمريكان كانوا يأملون من التحالف الكوردستاني الوقوف بوجه مناورات ومساعي الائتلاف لفرض نظام ديني مزوق بالعبارات والجمل والنصوص الكثيرة عن الحقوق والحريات وبكلمة ديمقراطية. إن التحالف الكردستاني، وكما ورد في مقالي الأول، وكما ورد في مقال الدكتور عبد الخالق حسين، كانوا خلال عشرات السنين يناضلون من أجل عراق ديمقراطي لبرالي مدني، ومن أجل حقوق الشعب الكوردي في الحكم الذاتي أولا وثم في الفيدرالية. وفيدرالية كوردستان ليست كالفيدرالية التي نادى بها السيد الحكيم لتسع محافظات، والتي هي مشروع طائفي محض، وهي سبب تحويل الجدال حول النظام المدني ودور الدين في التشريع إلى خلاف حول الفيدرالية، حتى صارت التصريحات تحصر الخلافات في موضوع الفيدرالية وتوزيع الثروة. وكما قلت سابقا، فإن، طرفا سنيا هاما كالحزب الإسلامي أعلن عن تفهمه لخصوصية كوردستان، ولم يعترض على الفيدرالية الكوردستانية، لا في مجلس الحكم ولا بعدها. والحقيقة أن المعارضين الأشداء لقانون الإدارة، أو الدستور المؤقت، كان الائتلاف السياسي الشيعي نفسه، ولحد تحذير مجلس الأمن من مجرد الإشارة لذلك القانون. والحقيقة أيضا هي أن هؤلاء لا ينظرون في باطن نواياهم وجوهر أهدافهم البعيدة للقضية الكردية كقضية قومية تقع في إقليم جغرافي محدد، ولها تاريخها ولغتها وتقاليدها القومية. إنهم لا يتميزون عن كل نظام إسلامي في اعتبار كل القوميات المسلمة واحدة يجب انصهارها تحت خيمة الإسلام، وأن الإسلام هو الحل للقضية القومية. وهذا بالطبع مطبق في إيران. ويريدنا بعض الشيعة أن ننسى كيف عومل الشيعة العراقيون المهجرون من الفيلية والعرب معاملة الغرباء غير المرغوب فيهم وهم في إيران، وكيف وصلت الحالة لحد اضطرار الكثيرين من رجال الدين والساسة الشيعة لاستنكار تلك المعاملة القاسية، وما قدموا من مذكرات لخامنئي بهذا الشأن. إن التحالف الكوردستاني يعلن بشائر النصر العظيم للكورد بسن المسودة ما دامت قد نصت على مبدأ الفيدرالية وجعل اللغة الكردية لغة رسمية ثانية. ونسأل: ألم يعترف الدستور المؤقت بفيدرالية كوردستان وحكومتها ومؤسساتها؟ا ونسأل ألا تنص المسودة على أن الدستور الدائم يجب تطبيقه على نطاق العراق كله؟ فهل سيجري تطبيق القوانين الإسلامية وأحكام الشريعة في كوردستان؟ كلا بالطبع. وإذن فإنهم سيكونون قد خالفوا الدستور!! أليس كذلك؟ فكيف التوفيق بين هذا وذاك؟ ربما هو الشعور والقناعة هما باستحالة تدخل الحكم المركزي في شؤون كوردستان، في المرحلة الراهنة. ولكن، وكما سألت سابقا، هل من ضمانات أكيدة بأن موضوع"مخالفة الكورد" للدستور في نصوصه الأساسية عن "المصدر الأساسي، و"عدم سن قوانين تخالف أحكام الإسلام"، لن تثار عندما يشتد ساعد الحكم المركزي أو يرفع الأمريكان حمايتهم للكورد؟ ونسأل أيضا ألن يساعد الموقف الكوردي على تغذية مشاعر الشك والكراهية ضد الولايات المتحدة، التي سخت بالدم والمال، وكانت القوة العظمى التي حمت كوردستان منذ إعلان الفيدرالية عام 1992؟ وهل ذلك يخدم أحدا غير الإرهابيين الذين يحاولون تبرير جرائمهم البشعة بحجة مناهضة "الاحتلال"؟ طبعا إدارة بوش أمام صعوبات داخلية كبرى. وأعتقد أن هذه الصعوبات سوف تتضاعف بعد إقرار المسودة، حيث سيكون الدستور سلاحا ماضيا في أيدي جميع أعداء الحرب وجميع معارضي بوش وبلير في أمريكا وبريطانيا. إن الاحتلال مكروه دوما كما قال بريمر نفسه. ولكن ماذا لو سحبت أمريكا اليوم قواتها من العراق بينما الإرهاب الصدامي ـ الزرقاوي يزداد اتساعا وهمجية، وحيث يعود مقتدى الصدر وجيشه، اللذان أنقذهما في النجف المرجع الأعلى و"البيت الشيعي" من العقاب الذي كانت تستحقه ما ارتكبه جيش المهدي من انتهاكات وجرائم حتى داخل كربلاء والنجف. إنهم يعودون بالأسلحة التي سمحت هدنة النجف زمن الدكتور علاوي بالحفاظ عليها. أجل، إن مقتدى الصدر يعود ليضم قواه مجددا لفرق الإرهابيين ومحاولة إشعال الفتن الدامية. ألابئس هذه النتائج!
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |