مقدّمة:
بالوقت الذي نستنكر فيه الاعتداء على مكتب الشهيد
الصدر ( قدس سرّه ) بالنجف الاشرف، بنفس هذا الوقت
نسجّل اعتزازنا بالسادة المسؤولين الذين استنكروا
هذا الاعتداء ودعوا، بل سعوا الى التهدئة ورأب
الصدع.
و في نفس هذا الوقت نرجع معهم جميعاً بالذكرى الى
ايام اقتتال الاخوة ابناء البيت الواحد في حزب
الله وحركة امل اللبنانيتين في سني الثمانينات,
وهما فصيلين مجاهدين طالما لقّنوا العدو
الاسرائيلي الدروس والعبر, فكان الرابح الاكبر من
قتالهما هو العدو الاسرائيلي وحلفائه، بينما كان
الخاسر الاكبر هما حزب الله وامل ومحبيهما.
البغداديّة:
من المآسي المحزنة اننا ليس في العراق فحسب، بل في
معظم الوطن العربي والعالم الاسلامي، من المؤسف
حقّاً ان قرانا واريافنا تنعدم فيها الخدمات، وان
وجدت فهي في ادنى مستوى مما عليه في المدن.
فحركة الاعمار وتنظيم البناء وتعبيد الطرق وتوفير
الماء والكهرباء والهاتف والمكتبات العامّة
الاولوية فيها من حصّة العاصمة العراقيّة، ثمّ
تليها المحافضات الكبرى.
كلّ ذلك يؤّدي الى الضغط على ابناء القرى والارياف
للنزوح الى العاصمة، وفي اقل تقدير الى المدن
الكبرى.
بعكس الدول الاوروبية حيث تجد فيها الدور الفارهه
والتخطيط العمراني المنظّم والطرق المبلّطة
والمكننة الزراعية والتنظيم السكاني والخدمات تولى
لها الاهميّة اكثر في القرية، فتجد من يطلب الراحة
والهدوء والطمأنينة ورغد العيش يذهب بهجرة معاكسة
نازحاً فيها من المدينة الكبيرة الى القرية
والريف.
و قصّتنا اليوم قصّة القروي الذي قدم الى العاصمة
بغداد حيث يتواجد بيت عم له سبقه الى المدينة
بسنوات وتحضّر وتمدّن، اذ دخل ابنائه الى المدارس
ثم الجامعات.
شاهد اخونا القروي ابنة عمّه الدكتورة الحسناء
فاعجب بها واراد ان يتزوّجها فرفضت ان تقترن
بانسان جاهل غير متحضّر، مما اضطرّه بالنهي عنها (
وعادة النهوة عند بعض العشائر العراقية : انه اذا
تقدّم احد الخطّاب لابنة العم فيحق لابن العم هذا
ان ينهي على ابنةعمه، الاّ ان يرضوه فيتنازل عن
نهوته مقابل مبلغ من المال ومسامحة عن طيب
خاطرمنه).
عندها اشترطت ابنة العم امام العرف العشائري على
ابن عمها هذا ان يتحضّر وان يتعلّم القراءة
والكتابة وفن الاتيكيت، ويتعلّم ان يلبس لباس
داخلي.
لم يعر ابن العم اهميّة لشيئ مما اشترطت عليه ابنة
عمّه مثل ما اهتم اهتماماً شديداً الى اللباس
الداخلي، ولهذا ذهب الى السوق واشترى قماشاً
ليفصّل منه لباسين وخاطهما ولبس احداهما واحتفظ
بالثاني في خزنة ملابسه ثم خرج من بيته قاصداً
الذهاب الى بغداد.
و في الطريق الموصل ما بين قريته وكراجات وقوف
السيارات الذاهبة الى بغداد اقتضته الحاجة الى
التغوّط، فنزع لباسه وعلّقه على جذع شجرة وجلس بين
الزرع وقضى حاجته, ولمّا فرغ منها قام متوجهاً الى
السيارات الناقلة الى بغداد بدون ان يتذكّر انه لم
يلبس لباسه الداخلي.
بعد وصوله الى بغداد قدم الى بيت عمّه وجلس امام
ابنة عمه القرفصاء كاشفاً ذيال ( دشداشته ) جلبابه
ليريها انه لابساً لباس، غير منتبهاً انه نساه على
الشجرة عندما جلس للتغوّط.
و عندما طلبت منه ( ان يستحي على نفسه ) ويجلس
معتدلاً اجابها مشيراً الى منطقة لباسه : ( وحياتك
يابنت عمي : هذا واحد والثاني محتفظ لك فيه بالبيت
).
وألآن عزيزي القارئ الكريم :
يقال ان الامثال تضرب ولا تقاس، ولكني استثني
لاقول : ان الامثال تضرب لتقاس، وذلك لان المثل
نتاج لتجارب وخبرات شعب باكمله، بل امّة باكملها
عبر احقاب من الزمن، ووليد صراع اجتماعي ورؤية
ثاقبة لهذا الصراع ولهذه المحن والمعانات.
ربما ترد بعض العبارات والالفاض بهذه الامثلة قد
يتراءى للقارئ والمستمع بانها نابية ومخدشة
للحياء، في حين هي لم تأتي الاّ لضرورة الوصف
الدقيق للحالة التي اوجدت هذا المثل.
وقصّة القروي الذي لا يعرف ان يلبس لباسه الداخلي
موجود مرادف لها بالذي خرج الى الهواء الديمقراطي
الطلق وربما عاش بعد خروجه في اوروبا ودول اخرى
اعجب بديمقراطيتها وعاش بها حفنة سنين ومارس حقه
الديمقراطي فيها بعد ان كان يحرم استعمال المذياع
والتلفاز في بلده الام، بل تعلّم استعمال جهاز
الحاسوب الالكتروني واطلّع على التقدّم العلمي
والتكنولوجي ولآخر اخبار وصرعات العولمة التي اصبح
منادياً بها اكثر من اصحابها، ومع كلّ ذلك لا يزال
يعيش في عقليّة الحوزة العلمية قبل خمسة عقود
ويزيد، لذلك تراه لا يزال يبحث في تطهير البئر اذا
سقط فيه البغل ومات، وعن كم مرّة يكري هذا البئر
حتى يطهر من النجاسة, في حين ان البغل اكثر حيطةً
وحذراً منه اذ يمشي البغل على حافات الجبل الشاهق
بدون ان تنزلق قدماه ويسقط.
و ترى بالطرف الآخر من يتصرّف بعقلية البدوي ذي
النزعة القبليةمن شن الغارات والتسليب والنهب، بل
وقتل غريمه لمجرّد الاختلاف الفكري معه.
تراه تتغلب على اخلاق هذا البدوي روح المغالبة
وكره الاستيطان بالارض وزراعتها وكره البيع
والشراء بالميزان وتفضيل ربح النهب والتسليب على
الكد وربح الصبر على الاتجار بالحلال.
اعزائي : الديمقراطية وهي اليوم موضة العصر التي
كان يرفضها بالامس القريب الكثير من المنادين بها
اليوم تحتاج الى تربية.
ومن اراد ان يطبّق الديمقراطية في عشية وضحاها
يكون مثله كمثل ( غوربتشوف ) الذي اراد ان يطبق
مبدأ اعادة البناء ( البيروسترايكا ) فهدم صرحاً
شامخاً كان الند القوي الوحيد الواقف بوجه اميركا
وعظمة غطرستها لمدة سبعين سنة، هدمه في عشية
وضحاها.
من يريد ان يطبق الديمقراطية في عشية وضحاها يكون
مثله مثل الزعيم ( ابو القلب الفطير) عبد الكريم
قاسم حين طبّق في حسن نيّة منه اصلاحه الزراعي في
عشية وضحاها وطبّق بجرّة قلم واحدة مبدأ التسامح (
عفا الله عمات سلف ) مع خصومه الذين شرعوا في
قتله، فكانت النتيجة ان ارتد عليه الجاحدون الذين
اغرقهم بسماحته وكرمه ليقتلوه مرّة ثانية ويغرقوا
البلاد في بحر من الدماء والدمار والتخلّف الذي لا
نزال نعانيه حتّى يومنا الراهن هذا.
اعزائي القرّاء الكرام :
مسودّة الدستور العراقي والتي لا يدّعي احد بانها
منزلة من السماء انهى القادة المجتمعون عليها
طرحها ليلة امس وآثر الكثير منهم على انفسهم
لاخراجها بهذه النتيجه التوافقية قدر الامكان خدمة
للصالح العام وللوحدة الوطنية، فكانوا كما وصفهم
القرآن الكريم :
بسم الله الرحمن الرحيم
ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح
نفسه فاؤلئك هم المفلحون.
امّا اؤلئك الارهابيين المرتزقة الذين قدموا الى
العراق وتلوّثت ايديهم بدماء العراقيين ومعهم
الذين سهلوا مهمة هؤلاء الارهابيين وفي بعض
الاحيان استغلوا سذاجتهم فغرروا بهم تحت تسمية
الجهاد المزعوم هؤلاء الفريقين ( الارهابيين
الاجانب وومآويهم من ايتام النظام السابق ) هؤلاء
لا يؤمنون بالفكر، ولا يمكن لهم في يوم من الايام
ان يكونوا متسامحين حتى مع انفسهم, اذ كيف لمن لا
يعرف ان يلبس لباسه الداخلي ويستر عورته ان يكون
متحضّراً ويقبل بالفكر الآخر وكيف لا يتعنّت هذا
الارهابي الشبه امّي اذا كانت قوات الاحتلال هي
التي تفاوض عنه وتدعمه بالضغط على قادة البلاد
المنتخبين بغية حصول هذا الارهابي على مكاسب
لتوازنات محسوبة لصالح طول امد هذا الاحتلال.
هؤلاء هم الذين اخذتهم العزّة بالاثم ووصلوا
بافكارهم الارهابية العفنة الى طريق مسدود ذي
اتّجاه واحد يوصلهم الى الشرولا شيئ غيره كما
وصفهم القرآن الكريم :
بسم الله الرحمن الرحيم
واذا قيل له اتّق الله اخذته العزّة بالاثم فحسبه
جهنّم ولبئس المهاد.
ودمتم لأخيكم