لعنة الشعوب المقهورة

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com
الحوار المتمدن - العدد: 1315 - 2005 / 9 / 12
 

هل سيأتي اليوم الذي تصبح فيه دول العالم ولايات أو مقاطعات تابعة للأمم المتحدة ذات برلمان واحد هو الجمعية العمومية,ويُمارس فيه شكل من أشكال التحكم والرقابة على جميع الدول ,ويكون ذلك بداية لعولمة سياسية أشمل ,وأوسع تقلل من التمايز ,والاختلاف ,وتجسر الهوة الحضارية السحيقة بين الأداء السياسي للدول في شمال العالم ,وجنوبه الذي يغلب عليه طابع البدائية والتخلف نوعا ما؟يبدو أن العالم في أولى هذه الخطوات نحو ذاك الهدف المنشود الذي يبدو أنه سينمو على حساب ما يسمى,وما تبقى من سيادة وطنية,والسير نحو وضع, ربما, يتوفر فيه نوع من العدالة والمساواة ,أكبر مما رأيناه ,حتى اللحظة,عند ما يسمى بالأنظمة الوطنية التي انبثقت في مرحلة ما بعد انتهاء مرحلة الاستعمار الكولونيالي,والتي كانت بمجملها ,ومحصلتها النهائية,كارثة ,ووبالا على شعوبهابشكل عام.
ففي مرحلة الوفاق الدولي القصيرة التي سادت عقب انتصار الحلفاء على الفاشية ,والنازية,تنعم الجميع على إثرها بشهر عسل سياسي قصير عقب مؤتمر يالطا ,تجلى في نشوة النصر التي كان من تداعياتها الأبرز التوافق على محاكمة مجرمي الحرب النازيين في نورمبرغ.ولكن سرعان ما انزلق العالم ثانية نحو مرحلة جديدة من سباق التسلح والحرب الباردة جعلت الاتفاق على كثير من المسائل الدولية شبه مستحيل ,واشتهرت تلك المرحلة السياسية الغوغائية بما يمكن تسميته بـ"حرب الفيتو" التي استعرت بجنون,والذي كانت تستعمله الدول الأعضاء في مجلس الأمن الواحدة بوجه الأخرى.
واليوم, وبعد نهاية الحرب الباردة ,وانهيار الكتلة الشرقية,وربما كان الزلزال السياسي في الحادي عشر من سبتمبر سببا آخر لعودة تلك اللحمة للإجماع الدولي إزاء القضايا الحساسة والملتهبة في غير مكان على الساحة الدولية. فلقد علّقت الحرب الباردة ,فعلا,أي نوع من التجمع والوفاق الدولي,وتقديم الحلول للقضايا المستعصية التي تهم العالم.ودخل العالم في أحادية قطبية جعلت من السهل اتخاذ أي قرار دولي,ولسنا هنا بصدد مناقشة أخلاقية ,ومشروعية بعض من هذه القرارات. ولا بد من التذكير أن البعض يستنكر ,ويستهجن ,بصورة خاصة, بعضا من أوجه "العولمة المتوحشة" ذات الأنياب والمخالب الاقتصادية.ولكن هل لنا أن نتصور كيف سيكون حال العالم لولا "البذرة الرأسمالية" التي نمت وترعرعت في الغرب,والتي كان لها الأثر البالغ والعنيف أحيانا في ما نشهده من رفاهية,وسعادة انعكست على بني الإنسان في أبعد قرية نائية في الريف الأفريقي؟ ولو ترك الأمر لدعاة الجهل والتخلف,والظلام ,ومسوقي الأوهام لكانت البشرية مازالت تعيش في الكهوف,وتعيش عصور الهمجية والانحطاط,وعبادة الأصنام.وهل كان من الممكن الركون لتلك البنى الاقتصادية والسياسية والفكرية الهشة والرثة البالية المتداعية للنهوض بالعالم بهذا الشكل الرائع كما نراه الآن,وأيا تكن المآخذ والملاحظات؟أسئلة بسيطة ليس المهم الجواب عليها الآن.ولكن ماذا بشأن هذه هي المتغيرات الجديدة التي تعصف بعالم اليوم ؟والمشكلة فيمن أغشي على قلوبهم فهم لا يبصرون,ولا يدركون ,ولا يريدون أن ينزلوا من عليائهم, والالتحاق بركب العالم المتمدن,الإنساني والجميل؟
ولولا العولمة السياسية,التي نلمس بعضا من تجلياتها الآن, وتدخل الأمم المتحدة في المناطق الساخنة من العالم كالصومال,والعراق,ورواندا,والبوسنة,وكشمير,وخمير بول بوت الحمر,وأفغانستان الطالبان,وجنجويد السودان لفتك الناس ببعضهم بأكثر مما فتكت بهم المجاعات,والأوبئة والأعاصير ,وكاترينا ,وتسو نامي,وباقي آلات الموت التي لم تتوقف يوما عن الدوران.ولولا منظمات حقوق الإنسان والهيئات الدولية التي تراقب الانتهاكات هنا ,وهنا ,لكانت الضحايا أكبر من أن تعد وتحصى الآن ,أو أن يعلم بها أحد على وجه الأرض.ولولا "نخوة "الغربيين ورجولتهم ,وإظهار العين الحمراء للخارجين على القانون الدولي في أكثر من مكان من العالم لصارت كثيرا من البلاد مقابر جماعية تتجول فيها الأشباح ,وأرواح القتلى الأبرياء,ولكانت إذاعة "صوت الجماهير" ما تزال,وحتى الآن, تتغنى بإجرام صدام,وفتوحاته في حلبجة,والبصرة,والأنفال.ولقد مضى فعلا الزمن الذي تقصف فيه الناس بالصواريخ,والنابالم ,والراجمات ,ويصفق المقتول فيها للطغاة ,وتبارك آلات الإعلام الوسخة الأيادي الملطخة بالدماء.كما لم يعد من الممكن أبدا,في ضوء معطيات اليوم,أن يمارس التطهير العرقي ,والسياسي ضد الجماعات والأفراد,وإلا فعين الأمم المتحدة ولجانها الصارمة الأخطبوطية بالمرصاد لكل من تسول له نفسه التلاعب بمصائر وحياة الإنسان.وصار المبدا الأهم "ومن يعمل مثقال ذرة شرا يرى".وأما الخير والبر والإحسان فليس من شمايلهم ,ولم يكن من خصائلهم يوماعلى الإطلاق.
لاشك أن نفراّ غير قليل نام ومتصاعد سيفرح بحدوث هذا الأمر والتطورات, وهم أولئك المؤيدون لعالم تسوده مبادئ العدل ,والكرامة والإخاء,ويعملون,حثيثا , على نشرها ليفيء الجميع بظلها الأخّاذ .ولكن,وفي المقابل, لا شك أيضا, هناك خوارج في السياسة, والحياة ,وشذاذ للآفاق , يائسون, محبطون ,مقاومون لما هو حاصل من تطورات, يزعجهم أن يروا البسمات وهي ترتسم على الشفاه,والحياة وهي تنبض في العروق والخافقات,ويحنون إلى خوالي الأيام حيث كانوا يقبعون في صوامعهم الديكتاتورية المعزولة ,وغيتوهاتهم السياسية المنقرضة البعيدة عن الحضارة والحياة, ويلعنون الآن ,ويشتمون بكل اللغات, هذا العالم الذي أصبح يعج بالفضائيات ,والإنترنت,ووسائل التلاقي والاتصال التي تفضح انحرافهم الأخلاقي,وسلوكهم المشين, وأفعالهم الشنعاء.
فهاهي لجان التحقيق الدولية الدؤوبة تجوب العالم من أقصاه إلى أقصاه, تتابع ,وتدرس قضايا حقوق الإنسان ,وتفتش وراء المنتهكين,وتسجل كل كبيرة وصغيرة ,وتطارد ,في كل مكان المارقين العصاة.وصارت كابوسا يقض مضاجع المجرمين في كل مكان من العالم ,وقد نجحت في نزع فتيل أكثر من أزمة حول العالم ,وقدمت المرتكبين الجناة للمحاكمة.وكم أثلج صدر الكثيرين ,وهدأ من روعهم,وطيب خواطرهم المكسورة, وجود ميلوسيفيتش مخفورا وراء القضبان ,ومنظر الطاغية والفرعون الأكبر صدام أمام قاض عراقي شاب,كل ذلك بفضل "بركات" لجان الأمم المتحدة وعينها التي لاتنام عن أمثال هؤلاء البغاة, ,أولئك المدافعين عن حقوق الإنسان , العاملين على إحقاق الحق ,ونصرة الضعيف ,وإغاثة الملهوف التي كانت ,في غابر الزمان ,صفة من صفات ,أجدادنا العربان,رحمهم الله أجمعين وأسكنهم فسيح الجنان ,وألهم ذويهم ,وأحفادهم الكرامة ,والنخوة,والشرف, والأخلاق ,والعنفوان.
ولقد كان لمثول جنرالات الرعب اللبنانيين الأربعة ,الذين تمادوا في غيهم ,وظلمهم لبني جلدتهم ,أمام العدالة الدولية ,وقع الصاعقة في نفوس المستبدين الآخرين الأشقياء الذين باتوا يحسبون ألف حساب لفجورهم ,وانتهاكاتهم لحقوق الإنسان.وأصبحت هذه اللجان بمثابة حبل المشنقة المتدلي من على شرفات الأمم المتحدة,ومكاتبها الأنيقة لتذكر العابثين بالعدالة,وبحياة الناس, بمبدأ العقاب ,قبل أن يقدموا على أية كارثة حمقاء.
فلقد اعتقد بعض الجناة,كما خيّل ذات يوم لصدام, بأنهم بأفعالهم السوداء ناجون,وأن الناس ستنسى ,وتتساهل حيال جريمة كبرى ,بحجم اغتيال رفيق الحريري. فلن يوقف هؤلاء الأباطرة العتاة,أنصاف الآلهة و"المستأليهن" المستكبرين ,الذين لا يرعون ,ولا يتنازلون ,سوى لسيف العدالة وميزانها ألأممي المتمثل بلجان التحقيق الدولية. أولئك الذين جعلوا من بلدانهم سجونا مفتوحة,ومقابر جماعية ,ومواخير تمارس فيها كل أنواع التجارة والموبقات ,وساحة حرب معلنة على كل ما هو إنساني, وحضاري ,وجميل ,ورفعت شعارات مقدسة لم تحِد عنها يوما, أن لا تراجع أبدا عن نهج الطغيان,ولا تنازل أمام أماني المواطنين والبسطاء,وسامت شعوبها كل صنوف العذاب ,والتحقير ,والتجويع ,والإذلال.
في الأسطورة الفرعونية, أن المومياءات المصرية ستتسبب بالأذى ,والهلاك لكل من يحاول أن يقترب منها ,ويعبث بسكينتها,وسباتها الأبدي الهادئ.وقد فُسر الموت الغامض, والسريع لكثيرين ممن اشتغلوا بالتنقيب ,والكشف عتها بأن لعنة الفراعنة هي التي طاولتهم وجعلتهم عصفا مأكول .واليوم هاهي لعنة الشعوب المقهورة ,ممثلة باللجان الدولية النشطة في كل مكان, تطال كل من تجرأ على الاقتراب من استباحة هذه الشعوب والأبرياء,ولكم في صدام درس مبين يا أولي الألباب ,وستطارد العدالة الدولية أولئك العابثين بالنفس البشرية التي حرم الله ,إلا بالحق.
إنه عالم اليوم الجديد.وللحالمين فقط, والشيء المؤكد فيه, أن لاعودة إلى الوراء إطلاقا.وعلى الجميع أن يدرك هذه الحقيقة.

 


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com