عزيز الحاج
لا أعتقد أن ثمة حدثا، بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار وتفكك المعسكر الشيوعي، كان أكبر من تفجيرات 11 سبتمبر 2001. إن تلك التفجيرات التي وقعت في مركز الدولة الكبرى، والتي راح الآلاف ضحايا لها، قد هزت الاستراتيجيات الدولية وغيرت خرائطها، ولاسيما الاستراتيجية الأمريكية.
إن ذلك الحدث الخطير والمدوي قد كشف عن الخطر الأكبر الذي راح يهدد البشرية لا أمريكا وحدها؛ وأعني خطر الإرهاب الإسلامي الذي صار أخطبوطه الدموي يقترف الجرائم في كل مكان، من مكة وإلى نيويورك وواشنطن مرورا ببالي وإفريقيا وإندونيسيا وتونس والدار البيضاء، وثم مدريد، فلندن فشرم الشيخ، والقائمة أطول.
عند وقوع جرائم نيويورك وواشنطن طفرت نظريات وتنظيرات لتفسير الحدث. فاليسار الغربي طالب ببحث "الأسباب" و"الدوافع"، فقال إنها نتاج فقر شعوب الجنوب، والسياسات الأمريكية المغامرة. والإسلاميون والقوميون في البلدان العربية والمسلمة انطلقوا أولا من اعتبار أمريكا عدوة العرب والمسلمين، والشيطان الأكبر، وهي المسؤولة عن مأساة فلسطين مع أن وعد بلفور أوروبي لا أمريكي!
كان طابع التشفي يغلب على معظم ردود الفعل، وخصوصا في الشارعين العربي ـ الفلسطيني والإسلامي، وسواء ظهر التشفي بارزا أو مستترا. كان الشعور الغالب "الأمريكان يستحقونها" مع أن الضحايا كانوا مدنيين. ولعل هذا هو اليوم الشعور الغالب مع كارثة كاترينا!
إن ما غفل عنه اليسار الغربي، وما تعمد نسيانه الإسلاميون بكل أصنافهم هو أن الفقر نسبي، وانه موجود في دول إفريقية فقيرة جدا بينما في العالم العربي دول غنية جدا. فلماذا لم تصدّر البلدان الإفريقية الفقيرة ظاهرة الإرهاب وعلى النطاق الدولي أيضا ؟ وهل صحيح أن الفقر والجهل والأمية تفسر وقوع العمليات الإرهابية؟ صحيح أن هذه الأمراض تخلق مناخا مناسبا يستغله قادة شبكات الإسلام الأصولي لتجنيد البسطاء وفاقدي الأمل، ولكننا نعرف أن قيادات الإرهاب الإسلامي وكوادره الفاعلة هم بغالبيتهم من حملة شهادات عليا وبينهم أطباء ومهندسون، كما أن الكثيرين منهم هم في بسطة من العيش. وأما بن لادن فهو ملياردير ويعيش بين حريمه وجواريه!
إن الإرهاب الإسلامي هو قبل كل شئ نتاج إيديولوجية الأصولية الدينية المتطرفة، التي عندما تدخل عليها السياسة تتحول لمشروع عنفي دموي باسم العمل لتغيير العالم إسلاميا. إن جميع مدارس الإسلام السياسي، وبرغم اختلاف ممارساتها التكتيكية حسب الظروف، تلتقي في عقلية تقسيم العالم إلى عالمي كفر وإسلام، والعالم المسلم نفسه ينقسم إلى "الأتقياء" و"لمرتدين"، ولا سيما الأنظمة الواجب قلبها بالعنف لانتزاع السلطة والسيطرة، واحتكار السلطة باسم نشر راية الإسلام عاليا. وينبهنا الكاتب مجدي خليل إلى أن جميع علماء الدين الإسلامي لم يصدر عن واحد منهم فتوى بإدانة بن لادن.
إن اختلافات تيارات الإسلام السياسي وأحزابه تكتيكيا لا تنفي لقاء الجميع لدى العقلية والأهداف المذكورة. فالإسلاميون السياسيون قد يلجئون حتى للمشاركة في الانتخابات، ويرفعون للتمويه والتقية شعارات الحرية وسلطة الشعب للوصول لأغراضهم في بناء النظام الإسلامي مرة واحدة أو تدريجيا. وهذا ما يقع بالضبط اليوم في العراق من جانب الأحزاب والتنظيمات الإسلامية الشيعية. وأما الأصولية السياسية السلفية المتحالفة مع البعثيين العاملين لعودة النظام المهزوم، فلا تجد غير استخدام العنف والموت والتفجير لتدمير المسيرة نحو الديمقراطية ولتصفية الحسابات مع أمريكا بمباركة ومشاركة سوريا وإيران. وما دامت الأغراض السياسية تلتقي، فإن اختلاف المذاهب يوضع مؤقتا جانبا، كما رأينا من حلف مقتدى الصدر مع الزرقاويين والبعثيين الإرهابيين. ومن كان يتوقع أن ترتفع في تكريت نفسها صور صدام بجنب صور الخالصي ومقتدى الصدر؟! كما أن من المعروف أن الزرقاوي وعناصر قيادية أخرى من القاعدة تسللوا من إيران، وأن هناك في إيران عشرات من القاعديين، وهذا برغم أن الأصولية السنية التكفيرية تكفرّ الشيعة.
إن الإرهاب يفرخ في العقول حين يتم غسلها، وأولا في الكتاتيب الدينية. فكتاتيب باكستان هي التي خرّجت آلافا من الطالبانيين. والتعليم الديني الأصولي المتعصب يفرّخ هوس العنف باسم "الجهاد من أجل الإسلام" ويولد ظاهرة الإرهاب.
إذا كان الإرهاب الإيرلندي يلتقي مع الإرهاب الإسلامي في جعل المدنيين هم الضحايا أولا وفي وجود بعد ديني في كليهما، فإن الفوارق هي في أن الأول يستهدف البريطانيين وهدف "تحرير إيرلنده"، في حين أن مشروع الإرهاب الإسلامي هو دولي. إن شبكاته تصدره لمختلف البلدان وإنه موجه ضد الحضارة والتقدم البشري وضد العلم والفكر المتنور وحريات الضمير والمعتقد.
إن من دروس 11 سبتمبر بالنسبة لنا في العراق:
1ـ إدراك مخاطر التزمت والتعصب والتطرف الديني والمذهبي؛
2 ـ إدراك أن جميع مدارس الإسلام السياسي هي ذات مشاريع سياسية لانتزاع السلطة واحتكارها، وإنها تتخذ وفق كل ظرف موقفا خاصا من استغلال الحريات وحتى الانتخابات وإلى استخدام القهر والعنف الدمويين؛
3 ـ إن التعليم الديني المنغلق والمتعصب هو منبع أساسي للتطرف الذي يولد الإرهاب؛
4 ـ إن شبكات الإرهاب تغسل العقول وتملؤها هوسا بحلم "الجهاد للوصول للجنة"، وتثير فيها كراهية عمياء للحرية الدينية وللأديان الأخرى ولمنجزات الحضارة الحديثة؛
5 ـ لا يمكن مواجهة الإرهاب بنجاح من دون التوعية السليمة ومن دون فرض سلطة القانون تجاه الإرهابيين والمتطرفين الأصوليين. إن القانون هو حامي الحرية ولا حرية بلا سيادة القانون. وإلا فأية حريات يمكن أن يتمتع بها الناس حين تداهمهم وتحتل مدنهم شبكات الإجرام الأصولي المتحالف مع البعث، كما كان أمس في الفلوجة وكما بعدئذ في تلعفر وحديثة؟! وأية حرية لأهالي البصرة مع هيمنة الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإسلامية التي تحصي الأنفاس وتستخدم الهراوة والرصاص وسيارات التيوتا لقتل "المرتد" و"الفاجر" و"العميل"؟! أجل بسيادة القانون وعدالته وحزمه تحمى الحريات، فالأمن والعدالة والحرية مترابطة معا.
لقد دفعت أمريكا ثمنا باهظا جدا في 11 سبتمبر جراء عدم اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة لمواجهة الإرهاب. وكانت منظمات حقوق الإنسان هناك تقاوم كل توسيع لصلاحيات الشرطة والحكومة واتخاذ التدابير الرادعة. ومع أن الكونغرس شكل لجنة خاصة للموضوع بعد الهجمات الإرهابية على السفارات الأمريكية في إفريقيا عام 1998، فإن المعارضة استطاعت تقييد صلاحيات الحكومة. كما أن بريطانيا قد دفعت ثمنا غاليا في تفجيرات لندن جراء تساهلها مع التطرف الديني ودعاته، و"سخائها" المبالغ فيه في اللين والتراخي، حتى لمست أخيرا، كما لمس الأمريكان بعد 11 سبتمبر، وجوب اتخاذ الحزم القانوني وبلا تساهل ولين. وقد حدث الشيء نفسه في فرنسا، حيث استمرار الاعتقالات والمحاكمات لعناصر الشبكات الإرهابية وكذلك اتخاذ إجراءات حازمة في وجه الهجرة السرية.
إن 11 سبتمبر برهن على أن الإرهاب الإسلامي خطر على الجميع، وأن مواجهته يجب أن تكون دولية. و العراق قد صار ساحة أولى للإرهاب بأنواعه ومذاهبه؛ ومع ذلك تطالب الأمم المتحدة العراق بإلغاء عقوبة الإعدام التي لم تنفذ لحد اليوم بغير ثلاثة مجرمين بدلا من الضغط القوي على دول التدخل كإيران وسوريا للكف عن تصدير الإرهاب ورجاله وأمواله للعراق، وبدلا من اتخاذ كل ما يلزم لجعل حفظ أمن العراقيين واجبا لكل المجتمع الدولي، وابتداء بالدول العربية والإقليمية كافة. إن أمن العراق سوف يخدم أمن العالم.
إن أحداث 11 سبتمبر يجب أن تذكرنا مرة وأخرى وثالثة بمخاطر انتزاع الإسلام السياسي للسلطة، وبوجوب لم صفوف القوى الديمقراطية واللبرالية من أجل خوض الانتخابات القادمة وفي سبيل دستور ديمقراطي ونظام ديمقراطي عصري. أما المساومات المبدئية مع الإسلام السياسي لاعتبارات تكتيكية أو قومية فلن تخدم غير أهداف الإسلاميين وحلفائهم ومن يساندونهم!