قصة من هذا الزمان

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

في قرية نائية عزلاء, تنعم بالسكينة والهدوء والأمان,وفي زمان ولى من هذا التاريخ المثقل بالموع والأحزان,عاش رجل اسمه طايش أبو جهلان ,ولم يكن هذا اسمه في الأساس ,ولكنه اكتسب هذا اللقب بسبب طيشه ,وغباءه ,وارتكابه للكثير من المعاصي ,والتعديات على الناس. وكان يختار ضحاياه المساكين ,بادئ ذي بدء,من الفقراء ,والبسطاء الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة,والذين تقطعت بهم السبل في هذه القرية ,ولا يمكنهم المغادرة ,والتوجه إلى أي مكان,وذلك في محاولة مقصودة لإرهاب الآخرين من السكان.وقد غادر القرية,إثر ذلك, الكثير من أبنائها ,وفرّ القادرون إلى القرى المجاورة ,ولسان حالهم يقول ربنا خلصنا من هذا الطايش البطران لتنعم القرية بالاستقرار والهناء. وكان يستعرض قواته وعضلاته أمام السكان بدون سبب واضح من الأسباب ,ولكن لمجرد أن يذكرهم أنه هناك.ويفتعل المشاكل ,والأزمات هنا وهناك ,ولا يترك وسيلة إلا ويستعملها للإبقاء على هذا الوضع على ما هو عليه.وكان يمارس كل أنواع البلطجة والتشليح ,أي التشبيح ,واستعراض العضلات في لغة هذه الأيام. ويفرض الإتاوات والخوات على المساكين وعابري السبيل الفقراء ,حتى ساءت أحوال الناس ,وأفقروا,وصاروا جياعا يقتاتون على الخبز والماء في أحسن الأحوال. وصال, وجال,وعربد كثيرا وأصبح مجرد ذكر اسمه يثير الرعب ,والهلع في قلوب الرجال ,قبل النساء والأطفال .وحين كان يحضر إلى ساحة القرية يفسح الجميع له المجال ,ويهرب الأفراد ,ويخلو له المكان.وأصبح مالكا لزمام أهل القرية,آمرا ناهيا , يأمر فيستجاب,ويحكم فيطاع,والكل يبحث عن رضاه,والجميع يريد أن يأمن غيه وشروره وبلواه.وهكذا استأسد ,واستذأب ,وتنمرد على كل الناس ,وصار مضرب المثل في الإجرام.ونال من كل من حاول يوما أن يتصدى له ,ومارس عليه كل أنواع التسلط ,والإرهاب ,ولم يرحم أحدا من أعدائه على الإطلاق.وحاول الكثيرون من أبناء القرية مجابهته ,لكنه كان يهزمهم بشتى الوسائل ,ولا يتورع عن ارتكاب الفظائع في سبيل أن يبقى هو السيد المطاع.
وذات يوم ,صدف أن كان أحد شباب القرية من مفتولي العضلات الأقوياء, ماراً برفقة والده الرجل الكبير, بجانب أبي جهلان ,بثقة بالنفس وكبرياء ,فما كان من أبي جهلان إلا أن تحرش به ودعاه للنزال,وهمّ الشاب لتلبية دعوة القتال ,وتصفية أبي جهلان.فما كان من الشيخ الحكيم المتعقل إلا أن دعاه للتبصر,والصبر والانسحاب,ثم اختلى بابنه على انفراد قائلا له ,لا تلوّث يديك يا بني بهذا الجبان,وأنت شاب في مقتبل العمر ,وتنتظرك السعادة والهناء ,فمهما تكن النتائج فأنت الخاسر,فلو قتلته ستدخل بسببه السجن وتقضي بقية حياتك في الاعتقال,ولو ضربك وآذاك فسيتسبب لك بالآلام والأوجاع ,فدعه وشأنه لغيرك فلا بد سيقع في الفخ يوما ما ,ولابد سيأتي اليوم الذي سيواجه فيه من هو أشرس منه ,وأكثر إجراما ,وبلطجة وبلاء.
ومرت السنون ,والأيام ,والليالي الطوال ,والأمور على هذه الشاكلة والحال,وأبو جهلان يزداد بطرا ,وفجورا ,وفلتان.وفي يوم من الأيام ,كان يسير, وعلى مهل , في ساحة القرية الهادئة,التي لا يتحرك فيها حتى الذباب,إلا بإذن, خوفا من سطوة أبي جهلان ,بائع متجول لا يوحي منظره بشيء من القوة والاحترام.ويلبس ثيابا رثة ,وكان ذا شعر مجعد ,ولحية غير مشذبة ,تتناثر فيها بعض الشعرات البيضاوات ,ويضع لفافة تبغ في فمه ,يدخنها بتكاسل ,وإعياء.وعندما رآه الطايش أبو جهلان ,قال هاهو هدف آخر سهل, أعزز من خلاله سطوتي ,وقوتي أمام الناس ,وأحكم سيطرتي على رقاب العباد.وسار باتجاهه يحاول تأديبه, مدعيا أن نهيق حماره أوقظه من القيلولة التي كان يتمتع بها تحت شجرة الصنوبر بعد غذاء دسم من "المحاشي", والدجاج .وما إن بدأ طايش هجومه , حتى انتفض ذلك الرجل الغريب انتفاضة الأسد الغضنفر المغوار ,دون أن يبالي بمن يغالب ,وطرح أبا طايش أرضا ,وأشبعه لكما ,وعراك,وأدمى أنفه ,وفمه ,ووجنتيه ,وعفر وجهه الكالح بالتراب.واجتمع الأهل يتابعون المشهد غير مصدقين ما تراه أعينهم ,وما صار عليه حال أبي جهلان ,الذي بدأ يستنجد بالقوم,ويستصرخهم لتخليصه من براثن هذا المصارع الجبار,وحين تمنّع الكل عن مساعدته ومد يد العون له ,بدأ أبو جهلان يتوسل للرجل أن يعفو عنه ,ويتركه وشأنه ,فيما علت صيحات الناس بالتكبير ,والتهليل ,طالبة من البائع مزيدا من الضرب واللكمات,حتى أصبح أبو جهلان كالعجينة لا يبدي أية مقاومة وحراك. وكان يقف بين الجموع المغتبطة بملحمة الخلاص من أبي جهلان,وطي مرحلته السوداء ,ذلك الشيخ الجليل ,مع ابنه الشاب,الذي التفت إلى ابنه وهو يهز الرأس,ألم أقل لك يا بني سيأتي من هو أنكى ,وأدهى ,وأقوى منه ,وسيتكفل به مهما عربد وطال به الزمان,ولا بد أنه واقع في شر أعماله يوما ما,وها قد استجاب الله للدعاء. وما من ظالم إلا ويبلى بأظلم.
وحين صحا أبو جهلان من غيبوبته, بدا ذليلا مكسورا ولا يقدر أن يرفع عينيه ,وقرر الرحيل من قريته الجميلة .فلملم حوائجه وما خف من أشياء,ووضعها على دابته الغبراء ,وخرج من القرية ,غير مأسوف عليه, تحت جنح الظلام, وبدون وداع,ولم يسمع أحد عنه شيئا,بعد تلك الليلة الليلاء, وبعد أن أشرف على الهلاك, بسبب طيشه والغباء.
وتوتة....توتة ,خلصت الحدوتة.
 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com