|
إيديولوجيات في المنفى صالح الرزوق
و في سوريا، ومنذ حوالي عقدين، أي بعد أحداث عام 1984، صيف التحولات الساخنة، الذي أعقب نهاية دموية لأحداث الإخوان المسلمين (ولمن يرغب الاطلاع على خلفية الموضوع بمقدوره أن يقرأ ذلك في موسوعة إنكارتا ميكروسوفت، تحت بند (Syria، لم يكن الذهن الذي يعمل من وراء ستار، وتحت الأرض، يرى لهذا البلد مستقبلا واحدا. كان الكمون الذي تفجر في أوروبا الشرقية بعيدا عن تلك الاحتمالات والسيناريوهات المتعددة، وإن تمت مقاربته فانتازيا. فالقوى السياسية المتنفذة وسواها، التي تجمدت خططها، في انتظار بزوغ نجمة الصباح (كما يمكن لهم أن يدعوها بالمقارنة مع ربيع براغ، وثورة الياسمين وهذا مصطلح جديد متداول في سوق صاحبة الجلالة، الصحافة، وهو شاعري بمحتواه، وغير واقعي بمضمونه كما أثبتت الأحداث) كانت على شبه وفاق لاختيار أحد اتجاهين، لكل واحد فيهما سيناريو مستقل، وكوادر متفردة بالرؤية والقرار. الأول هو الخيار العراقي. ولا أقصد بذلك ما حصل في أوائل عام 2003. تدمير البنية التحتية للنظام واستبداله عنفا ببنية نقيضة، ذات أطروحة توفيقية وائتلافية، كما هو النموذج اللبناني بعد ميثاق 1943. ولكن العمل على تقوية الترسانة القتالية. ودائما تجد لذلك تبريرات ذات طراز قومي وغالبا إسلامي، غير أنه يميني وشوفيني في معظم الحالات. وإن الحلم الذي هو المحرك لهذه العربة السوداء، يفترض إنشاء نظام تكامل مع القبضة الحديدية لصدام حسين، ومع الثروة النفطية للخليج العربي. وهو يقوم على أنقاض توجه زعامات حزب الشعب نحو العمق الإستراتيجي للعراق، بالتوازي مع توجه الحزب الوطني نحو الجزيرة العربية ومصر. وبرأيه أن هذا كفيل بإنعاش سوريا وعودة الحياة البرلمانية وفق التصور القديم (الذي أعقب الاستقلال). وهذا يتبعه، بالضرورة، انفتاح على العقلية الغربية الرأسمالية بشتى صيغها، ثم يضمن لسوريا حدا أدنى من التطبيع الدولي. لم تتعرف سوريا في تاريخها الحديث (وهذا عندي يتوافق مع صياغة حدودها بمعاهدة الاستقلال وما تلاها) على كتلة أخرى ذات وزن، غير فترة حكم أديب الشيشكلي، التي تجزأت في ظله إلى ممارسة للسلطة من وراء ستار مدني، ثم إلى إمساك زمام السلطة بقبضة مباشرة. وكان هدفه دائما تحقيق نوع من التوازن الإقليمي، تغذيه أحلام قديمة رومنسية لحركة القوميين السوريين بما يعرف باسم الهلال الخصيب. لقد مات الشيشكلي في منفاه غدرا، حتى أنه أصبح أقرب ما يكون إلى تروتسكي سوريا. ودمرت نهاية تراجيدية البنية التحتية للقوميين السوريين، ذهب في إثرها أنطون سعادة رئيس الحزب وصاحب النظرية " المدرحية " إلى المشنقة. لقد غادرت قوافلهم سوريا على شكل إكسودوس مرعب، وربما لهذا السبب تمايزت منهم طبقتان : الأنتلجنسيا (في الخارج) والاجتماعيون مع شبهات تعود لماركس (في الداخل ولا سيما لبنان)، وكانت من ورائهم ميليشيا عقائدية، وتجد تفاصيل ذلك في جمر ورماد للمرحوم هشام شرابي. أما العربة الثانية والتي لم تقلع بعد من المحطة، فهي تحاول أن تربط المصير الوطني لسوريا كقوة إقليمية، بـ "النهج الساداتي "، الذي بمقدوره أن يحيّد إسرائيل، ثم يأتي بالاستثمارات والنفوذ الأمريكي إلى العتبة من الداخل. و إن مثل هذه السناريوهات لم يكن تبريرها في انتعاش اقتصادي بقدر ما هو يعنى أساسا بالانفتاح السياسي، وبالأحرى عودة القوى التقليدية إلى الساحة التي أقصاها حزب البعث عام 1963. و لكن دائما إن التصورات لا تتطابق مع مجريات الواقع، وكان لذلك عدة أسباب بديهية. فالنمط الساداتي الذي هو (عنق الزجاجة) في مصر، قد تم تدميره كليا. وانتهى إلى مصير أسود وبائس، وأدى إلى تفرد الفلسطينيين بقراراتهم، بعد أن كانوا دائما في أحضان وسيط قوي له دور بطريركي على الساحة الدولية، وداخل الهم المركزي المشترك. و كذلك إن انهيار النموذج اليميني المتقلب لنظام صدام حسين، والذي اعتمد أسلوب الحقائب الدبلوماسية في تصفية المعارضين، طوال النصف الأول من الثمانينيات، ألغى البعد القومي (العروبي) لهذا التصور، وترك المجال مفتوحا على مصراعيه للتيارات والإيديولوجيات الإسلاموية، لتدفع بمحض رؤاها العربة الثانية. لقد سقطت بهذه النهاية الفجائعية لدولة البعث في العراق أجنحة سورية تصنف لفظيا بالجناح اليميني، وهذا تعبير يدل على بؤر سياسية متمركزة تقليديا فـي الأجزاء الداخلية من سوريا. وكانت تؤمن بالأساليب الانقلابية لتحقيق ما يسمى بحرق المراحل وديكتاتورية المقهورين، تمهيدا إلى إقامة مجتمع متجانس وعادل، أفراده متساوون بالحقوق والواجبات. والغريب في الأمر أن قوام هذه البؤر (وقد لجأوا إلى العراق بدءا من عام 1966) يتكون من عسكريين توجهاتهم قطرية مثل الفريق المرحوم أمين الحافظ، والذي بشهادة منيف الرزاز، كان لا يحضر اجتماعات القيادة السياسية لحزب البعث إلا ومعه أربعون من مرافقيه، أي بما يتفوق عدديا على أعضاء القيادة المشاركين والفاعلين، حتى أن أروقة مكان الاجتماع كانت تغص وتختنق بدخان سجائرهم. ويعتقد أن ذلك كان الغرض منه إرهاق اللواء حافظ الأسد، يومذاك، والذي كان يأتي إلى الاجتماعات بموكب عدد المرافقين فيه يبلغ حوالي العشرين رجلا. و لكن إلى جانب أولئك القطريين تجد قوميين، إيديولوجيين أساسا، وطرائقهم سياسية، ويتورعون عن تأمين غطاء عسكري لبرنامجهم. وعلى رأسهم ميشيل عفلق، الذي استلهم نظريته عن البعث من الفكر القومي الإشتراكي الألماني، والذي نادى بضرورة تبني مفهوم الإسلام الحضاري (وتجد تفصيل ذلك في كتاب نديم البيطار عن الإيديولوجية الثورية والمفهوم الإنقلابي للديمقراطية الشعبية). و الحال كذلك، بدأ الترويج إلى طريق ثالثة، إقليمية، وفقا للنموذج الإسلامي البرلماني التركي، والذي يستبدل رابطة العروبة بالإسلام العقائدي، والعروة الوثقى. إن الرهان الذي يرمي أحجار نرده اليمين السوري، قد يكون مخلصا في تبريراته الأخلاقية والمجتمعية، ولكنه مفلس إيديولوجيا، وقاصر عن اللحاق بالركب، وهو في الواقع يبحث عن أية مظلة يحتمي بها دون أن يريق ماء وجهه لأوروبا وللولايات المتحدة. وهو في كل الأحوال لا يعزف على ألحان التضامن مع شعوب العالم الثالث، باعتبار أن هذا من مخلفات الحديد السوفياتي الذي صهرته عودة القوميات إلى روسيا والدوائر المحيطة بها. إن الطريق إلى المستقبل لا يتحقق بمشادة كلامية، وإن الخطاب الحالي (بمفردات تحت الأرض) ليس أكثر من رهان خاسر على أحصنة قديمة، يأملون بإعادة إطلاقها في الميدان. عالم جديد. وتصورات مذهلة. لقد أصبحت الكلمة سلسلة من الإلكترونات تعبر في الفضاء الكوني، حتى أنها تنفذ عبر الكتلة المادية لأبداننا. وهذا يستحق جيادا مبتكرة، غير مستنسخة، ولا قادمة من عتمات الإقصاء الأبدي.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |