سوريا والرهان العربي
نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com
خطابان نمطيان أجوفان ,كالعادة,بدآ بالبروز على وقع الخطى المتسارعة التي تعبر الساحة السورية على خلفية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق,والسعي "الدولي"الذي يبدو مثابرا لإيجاد أي رابط بين القضية وسوريا,فيما يبقى قرارالتبرئة- إن وجدت نوايا لذلك- أمرا منوطا بعدة عوامل إقليمية ,ودولية تعجيزية أحيانا تبدو سوريا غير قادرة على تلبيتها في المدى المنظور على الأقل ,وتبقى العملية برمتها رهينة مقايضات اللحظة الأخيرة ,وحسابات سياسية كبيرة ,ومعقدة جدا.
فالخطاب السوري الأزلي الذي لم تحد عنه يوما يبقى هو هو غير مقنع على الإطلاق,ولم تعرف غيره ماكينة الإعلام السورية,برغم آفاق المكاشفة والشفافية اللامحدودة التي يعيشها العالم الآن ,ويستمر إعلام المراوغة,والمواربة والقفز فوق الحقائق التي تبهر الأعين ,وتجاهل كل الملموسات بترديد نفس اللازمة الأبدية, وهوأن كل مايحصل في العالم ,حتى دبيب النمل في باطن الأرض,وطنين النحل في غابات الأمازون ,يدخل ضمن نطاق الضغط على سورية الصامدة,وفي الحقيقة لا أحد يعرف لماذا يضغطون,وأما أولئك الصامدون فأمام من يصمدون؟(هذا ,في الحقيقة,أمر ما يزال غامضا, وغير واضح على الإطلاق).والأنكى من ذلك لايعرف لمن هو موجه بالضبط, للداخل الذي لم يكن يوما ,وليس هو الآن موضع اهتمام من أحد على الإطلاق,أم للخارج الذي لايعنيه ,ولايفهم هذا الكلام؟.وأما أسطوانة الخطاب المترهل الآخرى فهي تلك التي تهب من جهة الجامعة العربية ,والتي صرح أحد رموزها حديثا أن سوريا لن تترك لوحدها في هذه الأزمة,وهذا بالطبع هو مجرد كلام للاستهلاك المحلي ,وحين تقع الواقعة يبدأ كلام آخر غير كل مايقال الآن .والحقيقة إن في هذا نذير شؤم أكثر, مما هو مدعاة للتفاؤل والانفراج ,نظرا للتاريخ "المتواضع" وغير المشرف,ولن نقل أكثر من ذلك, لنصرة الجامعة ,والعربان لأبناء جلدتهم في غير مكان ,وعلى صعيد أكثر من أزمة. ويبدو من خلال هذين الخطابين الذين لم "يعربش" على خطهما حتى الآن ,محور البكري- عطوان,وبقية جوقة الرداحين ,وعندما يتدخلان,ولاسمح الله ,فليعلم الجميع أن الكارثة واقعة لامحال,والأسوأ هو القادم,وهذا ماكان عليه,في الواقع, حال "المرحوم" سياسياً صدام,وإذا علمنا أيضا,ومسبقا ,بمن ورطه بكل تلك الأفعال,فستزول علائم الدهشة والغرابة ويزول كل التباس, في شأنه, في الحال. وفي الحقيقة ليس لديهم ما يقدمونه,على الإطلاق, سوى النصح والمشورة بالانصياع والامتثال لمشيئة الأمريكان التي تبدو مبهمة ,وغير واضحة المعالم حتى الآن.والشيء الوحيد الذي يجيدونه فقط ,وعلى أية حال,هو قراءة الفاتحة في حال حدوث أية كارثة,ولاسمح الله.
وفي الحقيقة, فلقد حفلت أدبيات البعث ورومانسياته الحالمة بواحات مزدهرة تعج بالعربان, بالكثير من الكلام عن التضامن العربي ,والعوربة المستقبلية الواعدة باسترجاع "أمجاد هشام",ومصير العرب الواحد ,وما إلى هنالك من هذا الخطاب الجاف,والذي أثبت الواقع ,والأحداث خلبيته وعدم مصداقيته ,وجدواه.وعندما كانت تحين ساعات الاستحقاق الكبيرة كانت تتبخر كل هذ الأقوال.والتاريخ القريب دحض كل كلام عن وقفة عربية واحدة في وجه الأزمات,وحتى حرب تشرين –اكتوبر- التي يتغنى بها كثيرون كانت في النهاية موضع اختلاف ,وانشقاق كبيرين انتهيا بمقاطعة مصر حتى عودتها الميمونة ,وراية النجمة السداسية ترفرف بشموخ فوق مدينة الألف مئذنة. ومازال ,في الأذهان,هدير الطائرات الأمريكية التي كانت تطلع من مطارات المنطقة كلها ,وربما باستثناء مطار إسرائيل, لتقصف البنية "العربية" التحتية في العراق حاصدة في طريقها أرواح الكثير من أطفال ,وأبرياء العراق,وكانت درسا مؤلما عن خذلان العرب "الخطابي والإنشائي"للعراق ,والسقوط النهائي والأخير للعوربة على مذبح "أرض السواد", التي طالما تغنت ضفاف دجلة والفرات,وإذاعة صوت الجماهير, بأمجادها ودبج لها الشعراء القصائد والمعلقات. وعندما كانت الطائرات الإفريقية تحط كالذباب النهم في مطار طرابلس الغرب أيام الحصار المشهور على خلفية قضية لوكربي وطائرة البان أم, ,تمنعت مثيلاتها اليعربيات بشرف وإباء عن هذا الإثم و "الإنحراف",وظلت صائمة بعنفوان, والتزام غريبين, وغير مألوفين بانتظار إيماءة الرضا والموافقة من الأمريكان.(ودائما بغض النظر عن المواقف المتباينة,وحتى الشخصية منها, من هذا النظام أو ذاك).
ومع العلم المسبق بأن الجميع يرتبطون بمعاهدة الدفاع العربي المشترك التي ظلت حبرا على ورق ,وظلت حبيسة أدراج ,وأرشيف الجامعة العربية,حتى طواها النسيان,وأكلها الصدأ.هذا ولايجب أن ننسى الحقيقة المؤلمة والمحبطة ,بآن,وهي أن السوق العربية المشتركة كانت قد بدأت بوقت طويل جداً قبل السوق الأوروبية المشتركة التي تحولت ,فيما بعد, إلى كيان سياسي, واقتصادي عملاق يقارع الأمريكان ,وأصبح اليورو الوليد المالي ,طري العود, كابوسا يطارد الدولار في أسواق المال, والبورصات, ويتفوق عليه ,يهزمه في أكثر من نزال,فيما ظل هؤلاء يراوحون في نفس المكان,تأكل وقتهم ,وتستنزف طاقاتهم وحياتنهم المشاكل ,والتأويلات ,والتفسيرات ,والتجاذبات.وكان مجرد التئام قمة عربية,وبعد طول غياب,وموافقة "الباب العالي"فيما وراء المحيطات,يعتبر نصراً مؤزراً تتغنى بأمجاده إذاعات العربان.
فهل يبدل العرب والسوريون معهم,والأزمة السورية الراهنة تطل برأسها, أشرعة مراكبهم باتجاه مرفأ العوربة الذي بدا مقفرا, وتصفر فيه الرياح حتى الآن ؟أم هم على عهدهم سائرون في الالتزام بكل الإتفاقات والتحالفات إلا فيما بينهم بالذات,ويستمرون بالسير على خط العولمة السياسية التي نجحت الولايات المتحدة بقيادته في الوجهة التي تشاء حتى الآن؟ويبدو أن العرب,في نفس الوقت, لايعرفون التجديف,والعوم إلا في البحر الأمريكي على وجه الخصوص,ودفن عندهم مبدأ "انصر أخاك ظالما أو مظلوما",وصار في حكم الأموات.وتجدر الإشارة إلى أنه ,وإلى الآن, هناك الكثير من الدول العربية المنكوبة سياسيا ,واقتصاديا ,واجتماعيا ,ناهيك عن الوضع السياسي المزري الذي تعيشه,لا تجد شيئا من المساعدات العربية "السخية" للغرباء,فيما تقبع ,وبنفس الوقت,المليارات العربية ,خرساء,بصمت وخشوع مهيبين في بنوك الغرب ,وتغذي اقتصاده ,وآلته السياسية العملاقة على حد سواء.
أما آن الآن ,وبعد كل هذه التجارب المريرة,والخطايا ,والآثام للخطاب الرسمي السوري أن يخرج من شرنقته ,التي "تليفت" – من الليفة لمن يعرفها-,ويدخل حيزا جديداً من العقلانية والبراغماتية والشفافية المطلقة,ودفع كل تلك الاستحقاقات المتراكمة والمؤجلة محليا ,ودوليا ,والتي أصبحت ضرورية ولازمة ,وهي الوحيدة القادرة على مواجهة كل هذه المتغيرات ,والأزمات التي تحاصرنا,ومواكبة التطورات الآتية لاريب فيها.وهي السبيل الوحيد للخروج من الأزمة بأقل الخسائر الممكنة ,وكما هو واضح لكل مراقب للوضع الذي يزداد تأزما يوما بعد آخر؟أم يصرعلى المراوحة في المكان,وسياسة التسويف الواضحة التي لم تعد تجدي, والاستمرار بالتشبث بتلك النمطية القاتلة التي ميزته عبر عقود ,والتي أوصلته حد الخواء,وإلى حافة الهاوية والهلاك؟
وعود على بدء,ففي الأمثال أن فأرا تعثر أثناءِ مشيته ,ووقع ,فرآه القط ,وقال له :"اسم الله عليك",كناية عن تمنياته له بالسلامة,وهذه عبارة معروفة بالشام,فما كان من الفأر الصغير ألا أن أجابه على الفور:" دعني وشأني ,وخليني بحالي ,وأنا بألف خير من الله".
والله يسترنا ,ويستركم,من نخوة العربان.