هل فقد العقل العربي صلاحيته؟
نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com
إنها مقدمة بسيطة,ودعوة للباحثين والمهتمين بدراسة ظاهرة جمود العقل العربي الجمعي الذي حصد نتائج متواضعة جدا في مقاربته لظواهر السياسة ,والاقتصاد ,والاجتماع ,والفلسفة ومختلف التطورات,لا بل سجل تراجعا خطيرا ,لايمكن فيها من وصفه سوى بالعاجز الذي يحتاج إلى عمل جراحي ,ولا يمكن إخراجه بحال من غرفة الإنعاش في هذه الظروف القاتلة,وإلا تعرض للموت الفجائي والفناء ,بسبب عدم القدرة على التلاؤم مع مختلف الظروف الضاغطة التي تجتاح محيطه بأقوى مما اكتسح تسونامي شواطئ آسيا ,وبأشرس مما ابتلع كاترينا من فقراء لويزيانا .وإن المتغيرات من القوة, والسرعة ,والشمول التي لا تترك وقتا طويلا للتفكير , وتتطلب جدية أكبر في التعاطي مع هذا الشأن الهام ولن يفيدها بعد اليوم تلك القوالب الجاهزة الهلامية الموروثة المحفوظة عن ظهر قلب,والتي أثبتت عدم جدواها على الإطلاق,فيما يستمر الجميع بالدوران في حلقة مفرغة من التشتت,والضياع,والبحث عن مخرج وخلاص.
وبادئ ذي بدء لابد من تقديم تعريف بسيط لمفهوم العقل العربي الواردة هنا ,وهي بالطبع لا تعني العقل بمفهومه الحسي والمجرد المتوفر لدى زيد أو عمر من الناس ,ولكن العقل العربي الجمعي بما اكتنز واكتسب من معارف وخبرات,وما تكون لديه من قدرات ,وبما قام عليه من مفاهيم وأفكار,وتجلى بعقلية سائدة بشكل طاغ, وسلوك عام من السهل التعرف على خصائصه وتمييزه بيسر عن بقية الأنماط السلوكية القريبة منها والبعيدة ,زرعته ثقافة التعميم والتسطيح,وسقته التربية, ورعته المؤسسات الحاكمة بشقيها الأصوليين القومي والسلفي, وأفضى إلى سلوك يومي,وتصورات أثبتت عجزها في التعاطي كليا مع مختلف القضايا والإشكاليات السياسية ,والثقافية ,والعلمية ,الموضوعية التي واجهتها. ولاسيما عندما طرح مفاهيم كالحداثة ,والديمقراطية والليبرالية والعلمانية.وظل الحلمان القومي فردوس الدولة العربية الواحدة هو الخلاص– المستحيلة لوجستيا وعمليا- من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر,والذي يفتقر في الواقع للأسس الموضوعية والذاتية, والذي كان من بنات أفكار بعض المهووسين قوميا الذين أغرتهم الفكرة بعد أن تم تشييعها رسميا في أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ,أو الفردوس الإلهي السماوي - المؤجل زمنيا إلى حقبة مجهولة تماما- كبدائل مقبولة ومحسومة للواقع المتشابك,والمثقل بإرهاصات مختلفة المنشأ.وتم تسويق هذين المشروعين كسبل ممكنة, ووحيدة للخلاص,وهما المتوفران فقط لدى التيارين المتباينين شكلا ,والمنسجمين جوهريا.وكان التياران متقاربان تماما فالأول يبحث عن كيان سياسي ربما يكون قد ساد لفترة ما ,وإن بغير الشكل النموذجي المطلوب,والثاني عن حلم مفقود لايعلم أحد ماهيته الحسية على وجه التحديد. وأما العقل الفردي- بمفهومه الحسي والمادي المجرد- لأناس مختلفي التصنيف ,والتابعية الوطنية ,والطبقية ,والطائفية, فلا بد أنه قد سجل فتوحات بارزة ,وفي ميادين مختلفة,وهو هنا ليس محور هذه المقاربة,وفي الواقع تثير الحساسية المفرطة تجاه موضوع الحداثة والتغيير ,ومجرد الإقتراب مما اصطلح على تسميته بالمقدسات -مع فضفاضية المفهوم-دهشة حقيقة لا يمكن للمرء إلا أن يتوقف عندها.
فقد نشأ العقل العربي الجمعي في ظروف موضوعية غير صحية على الإطلاق من التعلق بالغيب السياسي والوجودي ,وتسكين النفس بالحلمين الورديين للوحدة الشاملة التي ستجلب الخير والسعادة للجميع,والفردوس الغيبي السماوي(بغض النظر تماما عن موضوع وجوده من عدمه والموقف الشخصي من هذا الموضوع,ولكن بالنظر إلى إساءة استعماله الشديدة من قبل فئات معينة لغايات غير بريئة في معظم الأحيان) ,دون وجود أية مكانيكية,أو امتلاك رؤية جلية ,أو آلية واضحة لكيفية ,ومتى سيتم تحقيق الحلمين الرومانسييين الموعودين.ولقد كان العجز والفشل في التعاطي مع مختلف القضايا الملحة هي من السمات البارزة التي ميزت سلوك هذا العقل بسبب التشبث غالبا بآليات غيبية عموما فاقدة للتأثير على أرض الواقع. وأما مجمل ما اكتسبه من معلومات ,ومعارف,وخبرات فلم تعد قادرة على مواكبة ,ومواجهة التطورات,والتغييرات الهائلة تحصل على مختلف الصعد والمجالات.
لا بل لقد انعكس هذا على أرض الواقع كوارث ومصائب جماعية ,تجلت في هذا التردي الشامل سياسيا ,واقتصاديا ,واجتماعيا.ولقد كان التكوين البنيوي لهذا العقل ذا طابع عدواني حذر متوجس ,مصاب دائما بوسواس قهري من الآخر المختلف سياسيا ,وطبقيا ,ودينيا وطائفيا,وعشائريا , وفي مرات كثيرة حتى عائليا.ومن هنا كان الشرخ التاريخي الكبير الذي أصابه فيما يتعلق بموضوع الديمقراطيةالتي تعني في أحد معانيها التشاركية ,ذاك المفهوم الغربي المستورد الذي لم يتح للعقل العربي حتى الآن تفهم نشأته ,وممارسته . ولقد كان هذا المجتمع بمجمله رعويا بسيطا لم تنمو فيه علاقات انتاجية تطور شكلا خلاقا من النسيج والتفاعل الإجتماعي الذي يتجدد مع الأيام ويذهب بالمجتمع في حركة تصاعدية ,واتسم بالانغلاق على الذات ,وعدم القدرة على الانفتاح على الآخر.ولقد غذت التيارات العدوانية التي تسعى للانتقام بشتى الـأشكال للصراعات السياسية ,والعقائدية ,والدينية ,وحتى الإثنية التي سادت على مدى عقود ,وسلسلسة الحروب والنزاعات التي تفجرت لشتى الأسباب ,والتي زرعت بذورا من العدوانية والكراهية من الصعب جدا اقتلاعها بمجرد بيان لحزب ثوري مغامر,أو تلاوة بعض النصوص المقدسة ,لا تفهم ولاتحلل الأبعاد الحقيقية الكامنة لهذا الخلل الخطير .وكانت العقلية الأحادية البدوية المسيطرة التي نشأت في الصحراء مقدمة أولى لنشوء ,وتقبل فكرة الإستبداد كون المجتمعات لم تنشأ على بنى سليمة من التشاركية الإنتاجية في وسائل الإنتاج وسيادة أنماط إنتاجية ,وعلاقات زراعية تتطور اجتماعيا , واعتمدت على فكرة المخلص الفردي الذي لايقهر الذي يقلب الأشياء رأسا على عقب بمجرد إيماءة منه قافزا فوق الواقع ,وكل حيثياته التي لايمكن تجاوزها بمثل هذه البساطة.ولكن ترسخ هذا في العقل الجمعي لأن هذا فلان فهو يمكن أي يفعل مايشاء.ولقد أدى اعتناق الميثيولوجيا ,والإيمان بالأوهام التي لايقبلها العقل السليم ,والعلم إلى سيطرة الجهل والأمية بشكل عام ,واعتماد تفاسير غيبية غير مقنعة بشكل عام,وكان الفشل الكبير في تبني مشاريع مستقبلية عملاقة,ولذلك عندما يحاول العقل العربي الجمعي ويفكر بالتغيير فهو يتجه باتجاه فورا نحو الماضي الرومانسي الحالم الذي غرسته ثقافة التجهيل والتعميم ,وكان الواقع الحالي واحدا من نتائجه وتجلياته المزرية البائسة.
والمعلوم علميا أن المنطق ,والعقل السليم يتبنى التطلع نحو آفاق جديدة غير مطروقة مسبقاحين التفكير بأية عملية تتطلب التغيير. بينما يلح هذا العقل على تجريب ما أثبت فشله مرارا وتكرار دون كلل او ملل.ومما يعزز فكرة الموقف الصعب الذي يجد العقل الجمعي العربي نفسه فيه اليوم ,هو التقبل العام ,والاستعداد التام للعودة الجماعية إلى الماضي الغابر كأحد سبل الخلاص ,والنجاة ,بكل مافي هذا الموروث من آلام ,ومآس أفضت بالمحصلة إلى ما نحن عليه الآن,وبالتأكيد الإستحالة المطلقة للعودة للوراء ,وإحياء الماضي.
إذن من جملة التجارب المعاشة حتى اللحظة الراهنة يتبين أن هذا العقل قد فشل في التصدي لمختلف التحديات الماثلة وخاصة الحضارية والحداثوية منها ,وقد توقف تماما عن الابداع ,والإنتاج ,وابتكار أساليب وآليات ,وأفكار جديدة تتخطى ماهو موجود للانطلاق نحو مرحلة جديدة ترمي عن كاهلها كل سلبيات ذاك الواقع المعاش .وظل تعلقه بالماضي يسيطر على جل تفكيره حين البحث عن سبل الخلاص. ودخل في الحقيقة مرحلة عجز ,وفشل ,وسبات حضاري قد تفضي به إلى الموت إن لم يتدخل الجراحون المهرة في المرحلة الحرجة لإنقاذه من براثن تنين الأوهام الذي يطبق عليه ,ويقوده نحو الهاوية بثبات.
الموضوع,من الأهمية ,والحساسية,والخطورة بحيث لايمكن حسمه ,وتغطية مختلف جوانبه المتشعبة في عجالة,ومقالة صغيرة ,ولكنها مقدمة سيتم الرجوع إليها لاحقا بدراسة مفصلة بشكل أكبر,وأكثر عمقا , وربما تكون موضوعا وفكرة لكتاب ,وهي في المحصلة النهائية محاولة لدق أجراس الإنذار البسيطة لمرحلة دخلت مسلكا قاسيا,ووصلت حد الخطر الذي يحمل معه عوامل الهلاك الشامل.وهي ودعوة لإلقاء حجر ,ولو صغير ,علها تحرك ساكنا في مياه هذه المجتمعات الراكدة ,الهامدة لعدة قرون الآن, والتي نما فيها شتى أنواع الطحالب ,والإشنيات القاتلة ,التي تنتشر فيها كالسرطان,وتهددها كالوباء.