الدم السوري الرخيص

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

عندما تقوم جرافات "ما" بهدم منازل للمواطنين العرب في الضفة والقطاع(سابقا), تنبري آلة الإعلام المتخشب وجهابذته الأفذاذ بالإسهاب تفصيلا عن الهمجية والبربرية,والعدوان السافرعلى المواطنين العرب الأبرياء الذين شردتهم قوات الإحتلال من منازلهم تحت نفس الحجة وهي البناء غير المرخص,وإزالة المخالفات .أما أن يحصل هذا في واحات التقدم والاشتراكية ,وتحت يافطة العروبة ,والثورة فالأمر مبرر تماما ويمر مرور الكرام وتتغنى بهذا الإنجاز الثوري وسائل الإعلام التي يديرها أساطين الإعلام العالميين المعروفين الكبار. ستمر المناسبة كصمت القبور,ودون أي اعتذار لأنها تتعلق بحياة مواطنة سورية لم يعبأ أحد ما بوجودها على الإطلاق, لأن دم السوري الرخيص المهدور أصبح أرخص من الماء ,ويستبيحه أي كان دون حساب.
فقد تناقلت الأنباء أن مواطنة سورية (مع الإسقاط المتعمد للتلميح الإثني البغيض,الذي لا يبدو بريئا دائما) قتلت,وجرح ثلاثة مواطنين ,واعتقل ثلاثة آخرون يوم الخميس حين حاول مواطنون منع آليات جاءت بحماية الشرطة لهدم منازلهم التي بنوها بـ"تحويشة العمر", في ضواحي قرى الأسد في الديماس.وقد قتلت المواطنة السورية حين اشتبك المواطنون مع رجال الشرطة المغاوير الأبطال الذين استعملوا الغاز .والهراوات,وطبعا بعد أن فرغوا من مهمتهم النبيلة على حدود الأوطان وتلقين شارون وطغمته المجرمة درسا في البطولة,والفروسية ,والوطنية والفداء .والسؤال المهم ,لماذا لا تتوجه الجرافات السورية إلى بؤر الفاسدين والمفسدين,والمخالفين الكبار, و"تمرجلت" فقط على "شاها رمو" العجوزالمسكينة العزلاء ؟هذا يؤكد دائما على أن الدم السوري,والروح السورية التي وهبها الله ,والإنسان السوري كان ولا يزال رخيصا ويستبيحه الجميع في ظلال الشموليات بدءا من العرفاء ,والخفراء ,والرقباء الجهلة الأميين في مخافر الدرك وأقبية المخابرات,والشبيحة في الطرقات,وسائقي الجرافات,وليس انتهاء بشارون وبوش وموفاز,وقد درجت العادة ألا تتم "المرجلة",والعنتريات, ,والتشاطر,وعرض العضلات, إلا على مثل هؤلاء الآمنين الأبرياء,الذين هم في النهاية أمانة في عنق الحكام.
ومدن الصفيح هذه ,التي خبرتها جيدا حين عملت في إحدى مدارسها لفترة من الزمن تضم بشكل عام فقراء سوريا ,ومساكينها الطيبين من عمال مصانع,وصغار العسكريين والجنود, ,والباعة المتجولين ,و"صغار الكسبة", الذين يسيّرون البنية التحتية لكي ينعم سيادة الوزير ,والمحافظ ,ورئيس البلدية مع أسرته وأطفاله بالحياة والرفاه.وهؤلاء السكان المنكوبون هم من دفعتهم ظروف العيش القاسية والغلاء,والتضخم ,والبطالة والانفجار السكاني ,والفقر بشكل عام إلى العيش في هذه الأوضاع الإنسانية المزرية.
ولكي نكون موضوعيين,ولا نجانب الصواب, فإنه وبلا شك يجب أن يلتزم الجميع بالقانون,في حال وجوده طبعا,وهناك قانون بهذا الصدد ,صدر منذ حوالي السنتين بشأن مخالفات السكن والسكن العشوائي ,وهناك عقوبات صارمة ومشددة في هذا الشأن.كما أن السكن العشوائي يسيء إلى الطابع العمراني والجمالي للمدينة الخاضعة للتنظيم.ولكنها ظاهرة عامة لن يشكل هدم بيت أو بيتين حلا لها.والشيء بالشيء يذكر, فما الذي قدمته الدولة لمواطنيها ,وأين هي مشاريع التنمية ,والإسكان العملاقة التي تأخذ بحسبانها حاجة كل مواطن لسكن تتوفر فيه الشروط الصحية والإنسانية البسيطة؟كما أن من أبسط واجبات الدولة ومسؤولياتها المباشرة أن تؤمن السكن الصالح والحياة الكريمة لكل مواطن ,وألا تتنكر لأبسط متطلباتهم الإنسانية,وألا تعطي راتبا شهريا هزيلا لا يبلغ في أحسن الأحوال بضعة عشرات من الدولارات لهؤلاء البؤساء ومن ثم تقول لهم ابنوا بها فيلات ,وقصور على ضفاف السين ,وبيفرلي هيلز حيث يقطن ارستقراطيو الأمريكان,ودرسوا بها أبناءكم في جورج تاون وهارفارد.وأين توقع جهابذة التنظير الثوري أن يسكن هؤلاء بعد كل ذلك البؤس ,والطفر والقلةوالكد والعناء, سوى في الأكواخ ,وبيوت التوتياء,والغرف التي لا تختلف كثيرا عن القبور ,و"قن" الدجاج, الذي سيقدم بعد حين "حماة الديار" الأبطال على إطباقها ,وهدمها فوق رؤوسهم وأجسادهم العارية النحيلة,ويريحونهم – فعلا- من "ورطة" العيش في ظل أنظمة القهر والاستبداد التي جعلت الناس تلجأ إلى مدن الصفيح,وبيوت القش والطين كحل سريع "للسترة وتدبيرالحال"؟
ولا ندري في الحقيقة الحيثيات التي حصلت فيها الواقعة بالضبط ,ولكن بكل الأحوال لا يجب التعامل مع المواطنين بهذه الطريقة القاسية,وهذه اللغة البدائية المتخلفة,ولكنها أدبيات ,وسلوك النظام الشمولي الاستبدادي الذي لابد من الالتزام به ليستمر على البقاء. وأما المخالفات ,والتجاوزات الكبيرة ,ونهب المليارات فهي عصية ,ومنيعة على بلدوزرات وجرافات الثوار,وأصحابها منزهون عن أية مساءلة وحساب. ولو تعلقت التنمية السورية ,والتطوير ,والتحديث ,والديمقراطية ,وحقوق الإنسان بإزالة بيت المواطنة السورية المرحومة شاها رمو, فأنا لست مع إزالته فقط, ولكن مع نسفه, وعن بكرة أبيه , بعبوة ناسفة من العبوات"الأصلية" المعروفة لشيخ الإرهاب أبي مصعب السوداوي وشركاه.ولكن ,في الحقيقة,لو هدمت كل مدن الصفيح ,لن تحل المشكلة ,ولن تستقيم الحال.
والأمر في المحصلة لا يتعلق بتطبيق القانون ,وإزالة مخالفة هنا أو هناك ,أو إجراء روتيني وشكلي ,ومهما تكن البواعث ,والحيثيات ,فالأمر يتعلق بشكل أسمى ,وأعظم من كل التأويلات ,إنه قدس الأقداس,وأثمن الأشياء وهي حياة إنسان ومواطن,والتي يجب أن تبقى حصينة من أي اعتداء,وتباً وألف مرة ومرة لكل قوانين الأرض إن هي وقفت عائقا أمام سعادة الإنسان ,وهذا بالتأكيد الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يفهمه مثل هؤلاء الأجلاف القساة.
هذا ولن يحظى موت المواطنة السورية ,طبعا,باعتذار من أحد على الإطلاق ,ومعاذ الله ,أن تتنازل الصفوة والأخيار للرعايا ,والعبيد الملحقين بمزارع الثوار.وسيمر خبر الوفاة مرور القائد الضرورة أمام رعاياه,وربما كان هذا ذنب المغدورة نفسها بأنها ولدت في المكان الخطا,والزمن الخطأ,ووقعت بين أيادي الناس الخطأ الذين لم يحرموها فقط من متع الحياة البسيطة التي ينعم بها شعوب الأرض قاطبة,ولكن من الحياة نفسها ,وإلى الأبد, ولن تهدأ روحها الطاهرة حتى يقدم الجاني للعدالة وينال جزاء ما اقترفت يداه ,وهو أضعف الإيمان,ولكي يكون عبرة لغيره ,في مستقبل الأيام ,كي لا تسول له نفسه الآثمة اللعب,واللهو ,والاستخفاف بحياة ,وأرواح الناس.
 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com