|
ما يمكن لكل العراق تعلمه من كوردستان علي بداي
يمكنني التاكيد، على ان حياة كوردستان العراق خلال السنين الماضية في اعقاب غزو صدام للكويت تمثل نموذجا مصغرا لما حدث لاحقا بالعراق كله. ولكن اذا كان السيناريو بمشاهد التراجيديا والكوميديا التي عرفها يتكرر، فان هذا التكرار لايقود بالضرورة الى ذات النتائج.فالبطل الذي كافح وعانى ومن ثم ، في نهاية المطاف، فاز بحبيبته في سيناريو كوردستان ، قد تدفعه الظروف بعد ان كافح وعانىبذات الصورة في بقية العراق للانتحار! شكل سحب صدام الملاكات المدنية من كوردستان بعد الانتفاضة عام 1991 ،خطوة غاية في الغباء السياسي وسوء التقدير، تنم عن محدودية معرفته بالمشاكل الحقيقية للعراق وتكويناته السياسية، وضيق افق سياسي كان سمة اصيلة من سمات حكم صدام وشخصيتة، طيلة العقود الاربعة العجاف التي توج خلالها نفسه دكتاتورا ابديا للبلاد. ولان صدام كان وبقي حتى الان، يفهم العالم من خلال مقولة واحدة هي : القوة، فقد كان يامل من خطوته تلك ان تؤدي الى انهيار كوردستان بسبب فقدان الكادر والخدمات، واندلاع الفوضى فيها ثم ليرغمها بعد ذلك على الانصياع لشروطة السياسية كاملة، ولكي تعاد الدورة ثانية بعودتة قائدا ضرورة لكل العراق. لم يفهم صدام، ان علاقة الكره والاحتقار المتبادل التي كانت تربطه بالعراقيين عموما والشعب الكوردي بشكل خاص كانت على درجة عالية من العمق والرسوخ. فالاختيار بين حكم صدام ام الفقر، اوحكم صدام ام الفوضى كان محسوما لدى اغلبية العراقيين وقد اختار الشعب الكوردي عمليا وامام انظار العالم كله ان يهجر كل شئ ويترك كوردستان فارغة تماما على ان تعاد المآساة السابقة، وذلك بتصويت بالغ الدلالة على صحة معادلة الالغاء المتبادل: اما صدام بدون كوردستان او كوردستان بدون صدام! اتت هذه الخطوة اذن بنتائج كانت على الضد تماما مما ابتغاه صدام حسين ، لكن هذه النتائج لم تتولد مباشرة اذ كان لابد لمجتمع مكبل ومقموع ان يقترف في خضم انعتاقه ذنوبا ( لعل التاريخ سيسامحه فيما بعد عليها) حيث سببت خطوة سحب الادارات المدنية، في مراحلها الاولى فوضى واعمال نهب وسلب وانتهاك لملكية الدولة وهي ذات التصرفات التي تكررت في العراق بعد دخول قوات التحالف بغداد وحل الجيش، حيث عرض البلد كله للبيع مجانا لكل من وجد في اعماقه خواءا وفراغا روحيا وانحرافا نفسيا وسلوكيا ، واعيد بهتين الخطوتين توزيع الثروة باسلوب تراجيكوميدي حيث حصدت عصابات اللصوص المحترفة ومافيات السياسة ، جهد ملايين العراقيين تشبها بالتوزيع الاول للثروة الذي منح العراق كله لفترة خمس وثلاثين سنة لعائلة ال مجيد. وتدهورت الاوضاع الامنية في كوردستان العراق في تلك الفترة وانحدرت الى مستوى مقارب لما وصلت اليه في بغداد اثناء وبعد احتلالها، وتدخل عاملا الحصار الاقتصادي والصراع المسلح بين الحزبين المتنافسين على القيادة، ليضيفا بعدا جديدا للمآساة كان من نتائجة تسرب الالاف من الشباب الى خارج الحدود وبطرق غاية في الخطورة لمجرد تامين دخل ما لمن تبقى في الوطن وخلال فترة الفراغ الامني مد اخطبوط التطرف الاسلامي ذراعه الكوردي الى مناطق بيارة وطويلة وحلبجة ليقيم حكم طالبان فيها، وشرع تنظيم انصار الاسلام بفعاليات الاغتيال والتفجير على ذات المنحى الذي تعيشه باقي انحاء العراق الوسطى الان، وهكذا فالناظر لتلك الصورة القاتمة عام 1994 او 1996 لم يكن ليتصور ان تعيش كوردستان في يوم قريب حياة طبيعية، اما الناظر لواقع كوردستان الان فلايمكنه بلا شك تصور ماكانت عليه الحال قبل عشر سنوات. فكوردستان الان، وبدافع ذاتي قوي من الاحساس بالمواطنة في ظل الحرية، تندفع للامام في مجال مراعاة حقوق الانسان وحرية الفكر والتعبير، وتوظف ادارة الاقليم( رغم ظاهرة الفساد الاداري ) تخصيصات هائلة للاعمار ولانشاء المشاريع التي تطور البنية التحتية وترفع مستوى الخدمات باتجاه النموذج الاوربي، ولعبت المرأة دورا بارزا في توجية دفة المسيرة الى جهة الاقرار الذي لاعودة بعده، بمكانتها المساوية للرجل ، وشهدت شوارع السليمانية واربيل ودهوك مشاهد متزايدة لتواجد المرأة كضابط مرور، وشرطي انضباط وضابط جيش كما عاشت محاكم كوردستان تجربة تولي امرأة القضاء، في حين تتولى سيدة مهمة قائممقام قضاء دوكان السياحي وزج التحالف الكوردستاني بعدد كبير من النساء كمرشحات للوزارة المركزية ببغداد من بينهن نسرين برواري وجوان فؤاد معصوم ونرمين عثمان كما قدم التحالف شخصيات سياسية تمثل نموذجا رفيعا للسياسي الديموقراطي المقنع كبرهم صالح وهوشيار زيباري، وافلح في كسب رئاسة الدولة لرجل قادرعلى الاستماع لكل العراقيين ومخاطبتهم وطرح قضيتهم على العالم بصيغة حضارية مقبولة ان هذا التدرج في تطور واقع كوردستان وسياستها، قد استند الى شرط جوهري قد لايتوفرفي بقية انحاء العراق الى امد طويل. فبالرغم من الصراع السياسي بين الاحزاب السياسية هناك، كانت هذه الاحزاب ولازالت متقاربة في الرؤيا السياسية للمستقبل، توحدها نزعة مدنية تحديثية تستلهم النموذج الاوربي في التطور، لذلك لم تنشأ اية صراعات بخصوص وجهة التطور هذه، بل ان التنافس القائم حاليا بين الحزبين الرئيسيين ينطلق من سباق باتجاه هدف واحد:الاجراءات الاكثر ديموقراطية والاكثر اقترابا من مراعاة مبادئ حقوق الانسان والاكثر معاصرة وحداثة. من زاوية النظر هذه تبدو الصورة في بقية انحاء العراق قاتمة في اقل تقدير، حيث تطفح على سطح الحياة السياسية نتاجات لتخمر التخلف طيلة عهد سيطرة صدام حسين ويبدو العراقي هناك كالمخدر الناهض من سبات عميق، لايكاد يميز بين الدنيا والآخرة ولا بين التاكتيكي والاستراتيجي ولا بين السبب والنتيجة، وفي مثل هذه الاجواء تفتح الآفاق رحبة امام الفكر الغيبي الذي يعيش على معتقدات الناس الدينية ويدفع المجتمع باتجاة تداخل الديني والدنيوي الى اقصى حد حتى يمكٌن نفسه، عند الحاجة، من الاختباء تحت عباءة الدين المقدسة والهروب من اية مسآئلة عن تقصير، وبهذا الخصوص لايمكن الا التاكيد على استحالة بناء مجتمع متقدم بخلط اليومي الحياتي مع المقدس، فادخال المقدس الى حلبة الصراع اليومي يضعف الجانبين معا حيث يفقد كلاهما هيبته ووقاره، وحسن سلوكه، اثناء الصراعات اليومية الاتية لاريب. واذا كانت الاحزاب السياسية التي تقود كوردستان احزابا قومية انشات بدافع من النزوع للتحرر القومي اولا( و مشروع التحرر القومي هذا يتضمن موضوعيا اسس التطور المادي والروحي حيث ان من مصلحة الحزب القومي بناء مجتمع متطور يتبارى مع مستوى التطور السائد في العالم المعاصر) فان الاحزاب المسيطرة على الساحة في بقية انحاء العراق هي احزاب بنيت على القاعدة الطائفية ، وتتغذى على اشكالات هذا التميز الطائفي الذي لايقدم على الارض، سوى الضبابية والبرامج الهلامية، وهذه الاحزاب مهتمة بتثبيت قواعد اللطم والتطبير في المواكب الحسينية( المسيئة لتراث الحسين ع ) في الدستور العراقي كحقيقة ازلية ثابتة اكثر من تركيزها على بناء الهياكل الارتكازية لدولة هدمت بقسوة لامتناهية، لان هذه الاحزاب السياسية تكسب من ديمومة التحشيد الجماهيري في عاشوراء مايضمن لها شرعية وجودها، وتسلطها كحام لاستمرار ديمومة هذه الطقوس. هنا تجد هذه الاحزاب ذاتها، بمواجهة حتمية مع منطق التاريخ ومنطق العصر، فمن المعلوم ان العراقيين كانوا يمارسون طقوس عاشوراء في زمن جمهورية عبد الكريم قاسم مثلا بدون وجود اي من الاحزاب الطائفية كما ان العراقي من غير الشيعة ومن غير المسلمين تعوٌد تلقائيا وبدون اي رادع خارجي على احترام هذه الطقوس ومراعاتها. ولمعرفتها بفقدان الشرعية الموضوعية( الطبقية) لوجودها، تحاول هذه الاحزاب الطائفية منذ الان الاحتياط بتضمين الدستورمايضمن لها استمرار المسك بمشاعر الناس الدينية وتوظيفها لاهداف دنيوية سلطوية. ان من البديهي لشعب عاش عامين تحت سطوه ارهاب الاسلام السياسي التكفيري ان يدرك ان ما يدخل الفرحة العظمى لقلوب الارهابيين هو استمرار المشهد العراقي الحزين المعفر بالنواح والهلع والصراخ، فالارهابيين يرون في تحطم معنويات العراقيين ودموعهم وعويلهم دليلا على انتصارهم وقدرتهم على الايذاء ولعل في هذا الجانب الكثير مما يمكن تعلمة من شعب كوردستان الذي لاتمنعه القنابل والتفجيرات اليوم من النهوض يوم غد للتوجه الى الجبال والسهول والانطلاق في دبكات راقصة تدخل الاحباط والقنوط لقلوب اكثر الارهابيين تماسكا. ان استراتيجية الفرح الكوردي هذه ضربت مشروع الارهاب والتخريب بالصميم وعطلته بالكامل لكن المطالبة بتعميم هذه الاستراتيجية في عموم العراق تبدو كامنية عصية على التحقق اذ نحتاج لبلوغ ذلك،و قبل كل شئ الى اناس يؤمنون بالفرح! ويبقى من الضروري التاكيد على ان اكثر السيناريوهات سوداوية بالنسبة للعراق هو ان تستمر كوردستان في اقترابها من العالم المتحضر على مستوى التشريع والبناء وهو امر ايجابي ،في حين تدفع التيارات الطائفية بقية انحاء العراق للغرق اكثر في بحر الاحزان والبكاء على الاطلال وساعتها سيكون من الصعب جدا الحديث عن درس حول وحدة الوطن، يكون الاوان قد فات على تعلمه.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |