أذكياء السوريون
نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com
خطب الحجاج ذات يوم بالناس قائلا:" أيها الناس :إن من إحدى فضائلي عليكم,أنه, ومذ وليتكم لم يأتكم ,وذهب عنكم الطاعون ",فقام إليه إعرابي قائلا :"إن الله أكرم ,وألطف من أن يجمعك أنت والطاعون علينا بوقت واحد".
هناك بعض السوريين الأذكياء ,والحمد لله ,وهذه واحدة من آخر الاكتشافات التي تم التوصل إليها ,وأطلقت هذه البشرى السعيدة في إحدى البرنامج الحوارية مؤخرا على إحدى الفضائيات الإخبارية.ولكن مشكلة هؤلاء السوريين الأذكياء أن لا أحد يتكلم إليهم ,مع العلم ,والتأكيد الواضح الفاضح على وجود ثقافة الحوار الشامل والواسع التي أرست دعائمها الحكومات العتيدة عبر تاريخ طويل وحافل من ترسيخ الحوار والنقاش مع أذكياء السوريين, وغير الأذكياء على حد سواء .ومن خلال الدراسة المعمقة لمصطلح السوريين الأذكياء يتبين أنهم فقط ممن تعرفهم السيدة وزيرة المغتربين ,وتجتمع بهم ,ومن في حكمهم,ولفّ لفّهم.أما من لا تعرفهم ,ولا تجتمع بهم ولا تعترف بهم ,بالتالي ,فهم بكل أسف ليسوا من الأذكياء السوريين.ولو حاولنا أن نشرح معنى ذلك لكان الجواب الموجه للأمريكان لن تجدوا من هو أفضل منا "نحن الأذكياء" الذين نعرف "البيروغطاه" للحوار والجدال.وسنوافق السيدة الوزيرة على توصيف هذه الفئة لوحدها من السوريين فقط بالذكاء,ولكن السؤال لماذا لا يتحدث أحد مع السوريين,الأذكياء منهم وأصحاب الذكاء المتواضع ,على حد سواء. وهل طلب أحد محاورتهم, وردوه خائبا ,ولا سمح الله؟
فلقد تعامل الرسميون السوريون دائما مع الشعب بنمط قائل من التجاهل,والتعالي, والتقريرية المطلقة ,والإيحاء بأن كل ما يقولونه هو حقيقة مجردة لا تقبل الجدل ,والنقاش.وفي أحايين كثيرة على مبدأ "ولا تقربوا الصلاة".وبالأمس القريب جدا استشهدت وسائل الإعلام السورية بمقال مطول من جريدة القدس العربي كان يتناول الوضع السوري ,ولكن لم تشر هذه الوسائل الذكية إلى أن الجريدة ممنوعة في سوريا,وكذلك موقعها الإليكتروني محجوب ومشفر.وحين قالت السيدة الوزيرة في لقائها أن الإصلاح يمضي بشكل ممتاز ,ولا شيء يقف في طريقه كانت محقة تماما ,ولكن في نهاية الحلقة ,قالت إن الضغوط الأمريكية والوضع في المنطقة والحروب تعرقل كلها عملية الإصلاح "الممتازة".دون أن تشير إلى ماهية الخطوات المتخذة على طريق الإصلاح المنشود, كتبييض السجون وتحرير رموز خريف دمشق ,ومكافحة الفساد,وإطلاق حرية التعبير والصحافة,والسماح بتشكيل أحزاب سياسية وقيام مؤسسات المجتمع المدني بممارسة نشاطها,وإجراء انتخابات نيابية حرة,ومحاسبة المفسدين والمرتشين ,ورفع الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ ,وإطلاق الحريات العامة التي هي جوهر ومنطلق أية عملية إصلاحية حقيقية.والسؤال الأهم هل المرأة الفقيرة المعدمة العاطلة عن العمل تملك مصيرها ,وقرارها وحريتها؟وربما كان وضعها المعيشي في سالف الأيام أفضل بكثير وقبل أن تجود عليها قريحة الإصلاحيين بأية اقتراحات . ولماذا لا يقوم أذكياء السياسة السورية بالتعامل مع شعبهم كما يفعل الأمريكيون الذين يعاملون شعوبهم ربما بطريقة أفضل مما هو عليه الحال مع أذكياء السوريين برغم أن الشعبين متعددا الثقافة ,والأعراق كما أشارت السيدة الوزيرة.ولماذا لا يعطي أحد جدولا زمنيا للإصلاح ,وهل على السوريين الانتظار إلى ما لا نهاية حتى يتحقق حلم الإصلاح كما ذكرها المحاور؟
ولم تقل لنا السيدة الوزيرة ماذا يفعل هذا العدد الكبير من أذكياء السوريين في أمريكا,وعلى أرصفة العالم ,ومدنه الكثيرة ,ولماذا هم أصلا هناك بعيدا عن الأحباء والأهل والخلان, وليسوا في بلادهم التي أنتجت وولدت المدنيات على مر التاريخ ,وأصبح السوري يتسكع على أبواب مختلف السفارات بعد أن ضاق به حضن الحضارات؟ولماذا لا يعود هؤلاء ليقدموا لشعبهم عصارة فكرهم وتجاربهم الثرية؟وهل بإمكان "الجميع" العودة في أي وقت يشاؤون,دون التعرض لـ"المرمطة" ,والسؤال والجواب؟ ولماذا "طفشوا طفشة" رجل واحد,وهجوا, وحلفوا يمينا ثلاثة بالهجرة الدائمة, وألا يعودا أدراجهم أبدا لأن أحدا ما لم يستمع إليهم ,ويحاورهم يوما.ولم تخبرنا السيدة الوزيرة لماذا تعطي هي وأجهزتها "الأذن الطرشة" حين يطلب السوريون بفئاتهم الذكية وغيرها الحوار معهم وليعرضوا مشاكلهم وهمومهم؟ ولماذا صُمّت الآذان عن جميع الدعوات ,والمطالبات الخيّرة للحوار,و"تزعل" السيدة الوزيرة فقط لأن الأمريكان الأغبياء لا يحاورون الأذكياء من السوريين؟ولماذا كانت الحوارات الوحيدة الناجحة هي التي تمت فقط ,وبمباركة من السلطات طبعا,بين العرفاء,والخفراء,والرقباء وبين الطليعة والنخبة المثقفة من السوريين وفي "الظلمات "وبعيدا عن أعين الناس؟
وهل الإصلاح هو بناء بنك هنا, وهناك لغالبية عظمى مفلسفة ,مهمشة ومفقرة لا تملك شروى نقير ,وكل رصيدها في الحياة شهادات فقر الحال ,ومجموعة من الروشتات والوصفات الطبية ,وجيوب تصفر فيها الرياح,وقلوب يسكنها الألم والإحباط ؟والحقيقة المرة أنهم فعلا لا يعرفون أين سيودعون كل هذه الأموال الفائضة الكثيرة التي بقيت بحوزتهم وبعد أن سددوا كل تلك الضرائب الباهظة ,المرهقة والعجيبة. ماذا يعني بناء بنك خاص لمثل هؤلاء "الأذكياء" الذين لا تكفيهم رواتبهم ,وتذهب "أدراج التجار" في الساعات الأولى من هذه الشهور الكبيسة التي تمر على الفقراء؟وماذا يعني بناء جامعة خاصة في الوقت الذي بالكاد يستدبر المرء أموره اليومية من خبز ,ودواء,وفلافل وماء؟وأما الحديث عن الإعلام الخاص فلا ضمانة له في ظل وجود الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ ,وواحد من أسوأ قوانين المطبوعات في العالم والذي كان من ضحيته إغلاق أكثر من صحيفة ومجلة خاصة,ولا يحتاج إغلاقها لأكثر من قرار متعسف من رقيب أمي جاهل في ليلة ليلاء.
لقد قالت السيدة الوزيرة أنها تربأ بنفسها عن الرد على أحد المعارضين السوريين ,لأنه على مايبدو غير مصنف في خانة الأذكياء, في تكريس رائع ومنقطع النظير لثقافة الحوار التي تدعو لها بإلحاح ,ويتمنى المرء فعلا أن تربأ بنفسها أيضا عن الإدلاء بتصريحات استفزازية حتى لا تثير عقيرة حتى الأغبياء .فلاشك هناك فرق واضح, وبيّن, بين أن تلقي خطبة مطولة على مجموعة من تلاميذ "الطلائع"عن الثورة والتقدم والاشتراكية في عرين العروبة الصامد ممن سيقوا عنوة إلى ميدان عام في المناسبات القومية الغناء,وبين أن تخرج على الناس لتخاطبهم من على فضائية واسعة الانتشار ,أو أن تكتب مقالا في إحدى الصحف الثلاث المعروفة الغراء تتغنى فيه بإنجازات ,وكرامات الثوار وفضائلهم على الشعوب والعباد ,وبين أن تتوجه إلى جمهور عريض منفتح لا يقنعه أي كلام بعد الطفرة المعلوماتية التي جاد بها علينا الإنترنت والزمان.ومراعاة هذه الفروق والتمايزات اللوجستية والفنية أثناء إلقاء الكلام,وهذه على ما يبدو كانت غائبة تماما في هذا اللقاء.فالنمطية القاتلة والتكرار والاجترار لنفس الكليشيهات,والشيخوخة السياسية بدت طاغية في أرجاء المكان. ومن شب على شيء شاب عليه.وكل ما نرجوه لأي كان ,ألا يبلغ أرذل العمر,وهو على هذه الحال.