|
من الذي يحكم في العراق؟
د. عبدالخالق حسين Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
يبدو أن العراق تحكمه الآن عدة حكومات، أضعفها هي الحكومة المركزية المنتخبة برئاسة الدكتور إبراهيم الجعفري والتي أثبتت أنها لا حول لها ولا قوة. وعلامات تعددية هذه الحكومات واضحة من تفشي الإرهاب والفوضى العارمة التي عمت طول البلاد وعرضها، ولكن أحداث البصرة الأخيرة كشفت المستور وضعف الحكومة المركزية وعدم سيطرتها على المحافظات بدون أي لبس. نعم، هناك عدة حكومات في العراق، والشعب العراقي في حالة بلبلة وتشويش لا يدري من الذي يحكمه وأين يولي وجهه في هذا الوقت العصيب. الأغنياء يفرون إلى الخارج طلباً للأمان والكرامة، تماماً كما كان في عهد صدام، أما الفقراء فما لهم إلا المعاناة والدعاء بالفرج من عنده تعالى.
نعم، توجد في العراق الآن عدة حكومات وبشكل التالي: 1- حكومة رسمية في بغداد التي يرأسها الدكتور إبراهيم الجعفري، ومجال تحركها المنطقة الخضراء تحت حراسة القوات الأمريكية، وإذا ما سحبت هذه القوات حمايتها فسيفر رجال هذه الحكومة فوراً إلى الخارج فيما إذا سلموا من وحوش البعث والزرقاوي. وهذه الحكومة رغم تمتعها بالشرعية الانتخابية، إلا إنها خيبت أمل الشعب حيث لم تستثمر هذه الشرعية لإثبات هيبتها في القضاء على الإرهاب أو الحد من طغيانه، كما فشلت في تحقيق أمن المواطنين وتوفير الخدمات. نقول ذلك لا لأننا مستسهلين الأمور، فنحن ندرك صعوبة الموقف ووحشية الإرهاب، ولكن في نفس الوقت وحشية الإرهاب هذه ناتجة من تساهل الحكومة معها. راجع مقالنا (من أمن العقاب مارس الإرهاب). نقول ذلك مع تأكيدنا على أننا لا نشك في نزاهة الجعفري ووطنيته، ولكن النزاهة والوطنية لا تكفيان في مثل هذه الظروف العصيبة. فالمطلوب من رئيس الحكومة الحزم والشدة وخاصة في هذه المرحلة العاصفة وبالأخص في مواجهة الإرهابيين. 2- حكومة البعث السرية: وقد أقامها صدام حسين كحكومة سرية موازية لحكومته العلنية منذ اغتصاب البعث للسلطة عام 1968 وكما أكد ذلك صدام للبعثيين، لكي لا يخسروا السلطة ثانية كما حصل لهم عام 1963. هذه الحكومة تتمتع بالرشاقة وسرعة الحركة والسرية والوحشية وتمتلك ثروات هائلة نهبها البعثيون من أموال الشعب العراقي خلال ال 35 عاماً من حكمهم الجائر، تقدر ما بين 40-50 مليار دولار على شكل استثمارات في شركات موزعة في أكثر من 24 دولة. هذه الحكومة غير مرئية ولكن أعمالها واضحة للعيان وتشمل الإرهاب وقتل المواطنين وتخريب المؤسسات الاقتصادية وذبح رجال الحكومة الشرعية وقوات الأمن على أمل إعادة البعث إلى السلطة الرسمية. ولها قوات مسلحة واستخبارات ذات خبرة عالية وهي في تحالف مع السلفية الإرهابية بقيادة المجرم الأردني الزرقاوي وتتلقى الدعم من الإعلام العربي ومعظم أئمة المساجد وبعض الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني في البلاد العربية بدوافع عنصرية وطائفية. 3- الحكومة الإيرانية: ففي المحافظات الجنوبية هناك عشرات المكاتب إن لم نقل المئات، تحت واجهة مؤسسات خيرية لمساعدة الشعب العراقي، تتمتع بسلطة الحكومة، وهي في الحقيقة مؤلفة من مكاتب استخبارات (إطلاعات) ورجال حرس الثورة الإيرانية بالألوف، يقومون بدعم وتنظيم جيش المهدي وغيره من المليشيات الإسلامية تحت مختلف الأسماء والواجهات، إضافة إلى وسائل إعلام واسعة، الغرض منها محاربة قوات التحالف، لإفشال العملية الديمقراطية وعرقلة إعادة بناء العراق وحرمان الشعب من الاستقرار. وهؤلاء احتلوا البصرة بشكل صريح حيث صارت وكأنها واحدة من المدن الإيرانية، وحتى العملة الإيرانية (التومان) هي السائدة في عمليات البيع والشراء، بل وحتى صارت اللكنة الإيرانية واضحة في أحاديث الناس. 4- حكومة مقتدى الصدر، وهي المهيمنة على مقدرات الناس في المدن الشيعية، تعمل بالتنسيق وبأوامر من الحكومة الإيرانية وتتمتع بقوة ضاربة متمثلة ب "جيش المهدي". وهذه الحكومة تقود عصابات مؤلفة من فلول البعث وبقايا الاستخبارات الصدامية والضباط البعثيين السابقين في الحرس الجمهوري والحرس الخاص والمجرمين العاديين الذين أطلق صدام سراحهم قبل سقوط نظامه بأشهر وغيرهم من شذاذ الآفاق الذين وجدوا في جيش المهدي ملاذهم لمواصلة القتل والتخريب والنهب. وقد سيطر هؤلاء على محافظة البصرة ومدينة الثورة التي بدلوا اسمها عنوة إلى مدينة الصدر دون وجه حق. وراحت عصابات الصدر تنشر الرعب بين الناس والويل لمن لا ينفذ أوامرهم. وهذه آخر صرخة جاءت من المواطن محمد هاشم، يستغيث أصحاب الضمائر في مقالة له بعنوان: (انقذونا من اتباع الصدر في بغداد ) يعطي الكاتب صورة واضحة ومؤلمة عما يعانيه الشعب العراقي من بلطجية الصدر المنفلتة. وقد افتضح تحالف هذا التيار مع البعثيين والزرقاويين حيث شاهدناهم في تظاهراتهم الأخيرة في تكريت وبعقوبة وهم يرفعون صور مقتدى الصدر إلى جانب صور صدام حسين. كذلك استثنى الزرقاوي جماعة الصدر من الإبادة في إعلانه الحرب الشاملة على الشيعة. وقد ظهر تأثير حكومة الصدر واضحاً في أحداث البصرة، حيث افتعلوا الصدامات مع الجنود البريطانيين، تنفيذاً للمخطط الإيراني في إخراج القوات البريطانية من البصرة ليسهل عليهم السيطرة الكاملة على هذه المحافظة وتحويلها إلى كانتون إيراني كما فعل رضا بهلوي مع عربستان في العشرينات من القرن الماضي. والجدير بالذكر أن إيران تحاول تصفية حسابات مع الحكومة البريطانية بسبب موقف الأخيرة الحازم من ملف إيران النووي.
من الذي يحكم العراق؟ والآن نعود إلى سؤالنا في عنوان هذه المقالةً، من الذي يحكم العراق؟ حقاً، لقد أظهرت حكومة إبراهيم الجعفري، ضعفها وعدم سيطرتها على الأمور خاصة بعد أحداث البصرة التي لم تنتهي بعد. ففي لقائه مع وزير الدفاع البريطاني الدكتور جون ريد في لندن يوم 21 أيلول الجاري، أكد الدكتور الجعفري، أمام الصحفيين: ".. إن الأحداث الأخيرة في البصرة لم تؤثر على العلاقات بين بريطانيا والعراق." ولكن بعد يوم واحد فقط من هذه التصريحات الودية السليمة، أعلن محافظ البصرة (من أتباع الصدر) أن السلطات المحلية في المدينة اتخذت قراراً بعدم التعاون مع القوات البريطانية... وإن على بريطانيا ان تقدم اعتذارا عن الحادثة وتقوم بتسليم الجنديين إلى الشرطة العراقية لاستجوابهما.. وأن تدفع تعويضات عن الخسائر التي تسببت فيها القوات البريطانية....". والسؤال هو: هل البصرة صارت مستقلة عن بغداد حتى يقول رئيس الوزراء شيئاً ويقول المحافظ شيئاً آخر مناقضاً له؟ لماذا تصعيد التوتر بين العراق وبريطانيا؟ هل هذا هو جزاء مشاركة القوات البريطانية في عملية تحرير العراق من أشرس نظام فاشي همجي عرفه التاريخ؟ هل حقاً أن أهل البصرة المعروفين بالطيبة والسماحة بلغ بهم نكران الجميل إلى هذا الحد؟ فما الغرض من هذه التصريحات غير المسؤولة التي أطلقها محافظ البصرة؟ وما دور هذا المحافظ الهمام وأتباعه من الأشقيائية في تحرير العراق من حكم صدام الفاشي غير الادعاءات الرخيصة والمتاجرة بدماء شهداء الشعب العراقي عندما كان صدام يملأ العراق بالمقابر الجماعية؟ لقد أضاع الإسلاميون انتفاضة آذار 1991 بسبب إعلان ولائهم لإيران ورفع شعارات طائفية التي أثارت مخاوف دول المنطقة بأن النظام الذي يأتي بعد إسقاط حكم البعث هو نظام إسلامي موال لإيران، الأمر الذي جعل أمريكا تسحب دعمها للانتفاضة وتسمح لقوات صدام بسحقها. ونتيجة لهذه الغوغائية والتدخل الإيراني، أضاعوا الانتفاضة وتسببوا في قتل أكثر من ثلاثمائة ألف شهيد إضافة إلى إطالة معاناة الشعب لثلاثة عشر عاماً عجافاً من جور النظام وجوع وإذلال الحصار. والآن وبعد أن نجحت أمريكا وبريطانيا في إسقاط النظام الجائر، بدأ الإسلاميون وبتحريك من إيران، يلعبون ذات اللعبة التي ألحقت الهزيمة بالانتفاضة عام 1991. هاهم يعودون إلى ذات اللعبة في معاداة القوات الحليفة التي حررتهم من أبشع نظام فاشي جائر ونتيجة للتدخل الإيراني في الشأن العراقي. إنها لعبة إيرانية قذرة ولخدمة إيران وحرق العراق والإسلاميون العراقيون يسيرون نحو الهاوية وهم نيام. إنه الجهل والأنانية والمصالح الذاتية التي تحركهم ضد مصلحة شعبهم. هذه الإخلاقية هي من تركة نظام البعث الجائر، وسيبقى الشعب يدفع ثمنه لأجيال. نحن نعلم أن البعث عمل على تدمير الاخلاق وتحطيم وتشويه شخصية الإنسان العراقي وتفتيت النسيج الإجتماعي. وإلا ماذا نقول عن مهندس شاب مستعد لتفجير أنبوب نفط، مصدر رزق الشعب، مقابل 600 دولار؟ ماذا نسمي أشخاص يقومون بمجزرة ضد عائلة بالكامل من أقربائهم من أجل سرقة المبلغ الذي تلقوه من بيع دارهم في حي المنصور وقد نجت طفلة من تلك العائلة تظاهرت بالموت فأخبرت الشرطة فيما بعد بما وقع؟ ماذا نسمي إنساناً يسلم صديقه الشاب إلى عصابات الاختطاف مقابل مبلغ بخس؟ وآخر يستأجره الإرهابيون فيقوم بذبح الأبرياء مقابل مائة دولار عن كل ضحية؟ ماذا نسمي هذا القتل العشوائي على الهوية الطائفية؟ ماذا نسمي أعمال تفجير أنابيب مياه الشرب والمستشفيات والمدارس بذريعة مقاومة الاحتلال؟ ماذا نسمي قتل الحلاقين والأطباء وغلق صالونات التجميل وغيرها من الأمور التي يندى لها الجبين وما كنا نتصورها أن تحصل حتى في الخيال؟ ماذا نسمي قتل وتشريد المسيحيين والصابئة المندائيين وخيارهم بين أن يتحولوا إلى الإسلام أو يُقتلون أو يغادروا العراق وأموالهم تعتبر غنائم للمسلمين؟ وهذا رابط لتقرير من البي بي سي عن محنة الصابئة المندائية في العراق على أيدي الإسلاميين (Iraq chaos threatens ancient faith). نعم هناك قطاع واسع من الناس يمارسون هذه الجرائم وهي ليست حالات نادرة بل تجرى يومياً. وهذا دليل على حجم الخراب البشري في العراق وثقل تركة البعث. ولولا هذا الخراب لما استطاع الإرهابيون أن يقوموا بجرائمهم على هذا النطاق الواسع. يدعي الإسلاميون من أتباع إيران في البصرة أن الشعب ضد وجود القوات الأجنبية ويطالب برحيلهم. يرد على هذا الإدعاء الزائف الدكتور إبراهيم الجعفري نفسه في المؤتمر الصحفي المشترك مع وزير الدفاع البريطاني على ما حصل في البصرة قائلاً: "إن ذلك يعتبر حادثا فرديا طارئا، وليس ظاهرة، وإلا فلماذا لم يحدث خلال العامين الماضيين إذا كان الشعب العراقي أو أبناء الجنوب يرفضون قوة أجنبية بعينها؟ " واعتبر رئيس الحكومة العراقية أن استتباب الأمن في الجنوب يشير الى التنسيق والتعاون الجاري بين قوات التحالف والجيش العراقي. ونحن إذ نسأل، إذا كان هذا هو الواقع والذي عبر عنه رئيس الحكومة الدكتور الجعفري بحق وبكل وضوح، فمن الذي يقف وراء تصريحات محافظ البصرة، وما هي الغاية منها ومن المستفيد من تخريب العلاقة بين أهل البصرة والقوات البريطانية غير إيران؟ نعم، تهدف إيران من تحريك عملائها في البصرة إلى إرغام قوات التحالف على الانسحاب قبل تنفيذ مهماتها. وهذا تصور خاطئ ناتجاً عن جهل وقصر نظر. فلو افترضنا جدلاً أن أمريكا ستنسحب قبل الأوان، يجب أن يضع هؤلاء في حسابهم أن أمريكا التي دفعت نحو 2000 قتيل من جنودها ومائتي مليار دولار من أموال شعبها من أجل تحرير العراق من حكم البعث الفاشي ودحر الإرهاب، سوف لن ولا تسمح بقيام نظام إسلامي في العراق موال لإيران، بل ستعمل، فيما لو اضطرت للانسحاب، كما عملت عام 1991، أي ستعيد صدام حسين إلى الحكم ليملأ العراق بالمزيد من المقابر الجماعية وسيصبح شعار (لا شيعة بعد اليوم) شعاراً رسمياً وعلنياً وعندها على الأحزاب الإسلامية ومليشياتها وأتباعهم أن لا يلوموا إلا أنفسهم. ولكن نطمئن هؤلاء أن أحلام الإيرانيين وأتباعهم من العراقيين سوف لن تتحقق. فهذا هو الرئيس الأمريكي جورج بوش يرفض بشدة الدعوات للانسحاب الأمريكي من العراق كما أكد ذلك في خطاب له مساء أمس (22/9)، ان مثل هذه الخطوة ستجعل العالم اكثر خطرا، وان الانسحاب من العراق "سيسمح للإرهابيين بادعاء أنهم حققوا نصرا تاريخيا على الولايات المتحدة". لذلك على الحالمين بالانسحاب الأمريكي من العراق أن يفيقوا من غفوتهم ويدركوا جيداً أن عملية دمقرطة العراق وإعماره لا يمكن التراجع عنها مهما حاولت إيران وسوريا وضع العراقيل. ففي نهاية المطاف، لا بد للخير أن ينتصر وللشر أن يندحر.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |