أسواق العرب السوداء
نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com
من يرى ويتابع وسائل العرب الإعلامية ,ويقرأ صحفهم , ويشاهد فضائياتهم وهي تتنقل من مكان للعبادة إلى آخر وتصدح من جنباتها أصوات الإيمان, وذكر الله العلي العظيم رب العباد,ويكحل عينيه الكسلى برؤية أصحاب المهابة,والسطوة, والمليارات,ومظاهر الورع والتقوى والعفة تشع وتنقط من عباءاتهم,وياقاتهم الأمريكية ,وأحذيتهم الإيطالية,ويشنف آذانه لأخبارهم ,ومآثرهم ومشاريعهم الناجحة, وما قدموه للإنسانية من فكر سام,وما أغنو به الحضارة من إنجازات,يحمد الله ويشكره على كل هذه النعم ,والبركات الفياضة ,ويقفل كل ذاك ويأوي إلى فراشه هانئا مطمئنا قرير العين , وطبعا لن يصاب بالأرق والعصاب,والوسواس الخناس.ولكن ما إن ينزل للشارع حتى يصدم,ويواجه بصور مغايرة تماما لما رآه من لوحات فنية تجريدية,و"منامات" وردية,ونفحات إيمانية أبدعها أساطين الإعلام في التلفاز,وتنعدم عندها الرؤية لديه بسبب الفضائح,والمشاكل,والتناقضات,والمآسي ,والبلاوي,والحفر, وكثرة "المطبات" ,ويصاب عندها بالجلطة ,والفالج ,وانفجار الدماغ.
فمثلا يحفل "سوق الإنترنت" اليوم بالكثير من الكتابات وأصبح ملاذا للكثير من المواد المهربة عن أعين الرقباء,وهي أخطر أنواع "الممنوعات" التي يهابها الأعراب ويفرضون عليها الحصار, ويتركون الحبل على الغارب لسواها من فجور وموبقات.وهي التي تقدم الواقع كما هو دونما مواربة أو طلاء ,ولا ترسم تلك الصورة الوردية المرتجاة, وتسوقها بها بشكل عام ثلة نخبوية واعية ممن لا يدورون في فلك لسلطات,ولذلك كان هناك استحالة أن تجد لها طريقا في وسائل الإعلام الحكومية والرسمية التي تحاول أن تسبغ على نفسها صفة الرصانة,والنظافة, ,والهادفة ,والالتزام بمواثيق الشرف الإعلامية التي تمنع الحديث عن العيوب والنواقص محليا ,وعربيا ,لكي لا يبدأ الجميع حملات إعلامية ,وإعلامية مضادة مسعورة ونشر ما لم يغسل يوما ما,ووحده الله يعلم أين ستنتهي,وماذا ستكشف وتتمخض عنه من عيوب ومستورات.وهذا هو,في الحقيقة, السبب الحقيقي في الإلتزام بمواثيق "الشرف" الغائب كليا في مجالات الحياة الأخرى,وفي ظل عدم وجود أي كان منزه عن الخطايا والآثام.
وحين اشتدت القبضة الأمنية والسياسية ,والرقابة متنوعة الأشكال على قطاع الكتابة,والإعلام باعتباره المتحكم الأول ,والصانع,والموجه للرأي العام ,انكفأ عدد غير قليل من الصحفيين والكتاب ,واتجهوا إلى حيز آخر للتعبير عن الذات ,وهو ما يمكن تسميته عمليا بالسوق السوداء ,أي البعيدة عن أعين الرقابة ,وتحكم السلطات كإصدار الصحف ,والنشرات والدوريات.وفرضت النظرة الشمولية الضيقة أحادية الرؤية ,ومحدوديتها ,بآن,رغبتها ومشيئتها على المجتمعات متعددة الثقافات ,والأعراق,والهموم ,والاتجاهات,والاهتمامات وقمعت كل نشاط تحت ذرائع واهية شتى ,ونصبت من نفسها حامية ,ومشرفة مطلقة على الناس وشؤونهم. فماذا كانت النتيجة ؟فلذلك ,وتلبية لنداء المنطق والحياة,كان لا بد لصاحب كل رغبة وزعة واتجاه,من التحرك,لتحقيق مبتغاه,وزاد الإقبال ,والطلب على السوق السوداء بالذات,هذا إذا كان هناك أصلا سوقا "بيضاء" بالأساس.وللحقيقة المرة,فإن كل ما هو حقيقي,ومنطقي ومطلوب وواجب,ويلبي التطلعات, أصبح يقبع في الجانب المظلم,المعتم عليه من الحياة,ويرمى عليه الغطاء,كي لا يراه أحد ويعرفه على الإطلاق.
وفي الواقع ,تنتشر السوق السوداء بشكل عام في مجمل النشاطات اليومية في الحياة ,وخاصة في البلاد التي تنهج تخطيطا مركزيا ,واقتصادا موجها,وتفرض الكثير من القيود والشروط والضوابط والروادع وحتى الضرائب الباهظة المرهقة على مختلف الأعمال والنشاطات.وتحظر أي نشاط سياسي,واقتصادي ,واجتماعي ,وفني ,فكري....إلخ ,إلا تحت إشرافها ,وبمعرفتها التامة ,وبمراقبة أجهزتها المختلفة.ونشأت لذلك أسواق سوداء متشعبة للاتجار بمختلف أنواع السلع الممنوعة والمحظرة على الغالبية العظمى من الناس,والمباحة لفئات محددة. فسادت مثلا التجارة والمضاربة بالعملات الصعبة كالدولار ,الذي أصبح يكنى بالأخضر, وكانت هناك سوق متكاملة تحت الأرض,تتعامل بكل شيء كالكتب الممنوعة وحتى بعض القصائد والمقالات وأسماء الشعراء,والدراسات والأعمال الأدبية المحظورة(فلا يزال,مثلا, نزار قباني مع الأفيون محظرا في بعض مضارب العربان), وأيضا الأدوات الكهربائية,والأفلام ذات الطابع السياسي والوثائقي ,وأفلام البورنو,والسجائر الأجنبية ذات الماركات المعروفة,والعطور,والولاعات,والدعارة والتجارة بأجساد النساء واللحوم البيضاء (التي لا يعترف بوجودها أبدا شرفاء الأعراب),وحتى الأحذية,والجبنة,وعلب التونا والسردين في مرحلة ما,وربطات العنق ,والموز الصومالي الذي كان يعتبر استهلاكه نصرا,واختراقا سافرا للإمبريالية والصهيونية الملعونة,وممارسة بورجوازية مذمومة ونكراء.
ومع انتشار الإنترنت انتقلت أيضا بعض من تلك النشاطات إلى نطاقه, وتجري على قدم وساق هنا وهناك ,وتم ضبط الكثير من الجرائم وتقديم مرتكبيها للعدالة .وما يهمنا من هذه الأسواق السوداء والحمراء والصفراء,وما يعنينا من هذا اللغو كله ,باعتبارنا نتعامل مع بضاعة الفكر,والكلام, والمنطق المحظور في ديار العربان,هو حرية التعبير ,والتفكير ,التي وجدت في الإنترنت مجالا رحبا وخصبا للتجوال.وازدهرت بهذا الصدد الكثير من المواقع التي أصبحت المرتع الذي يرتاده المغامرون بحمل هذه الأثقال الفكرية الخطيرة ,والذين لم تقبل "بضاعتهم" في أسواق وزارات الإعلام العربية "البيضاء.وتزدهر اليوم هذه السوق أيما ازدهار ,ولها روادها الكثر من مختلف المشارب ,والنوازع ,والاتجاهات,وتزداد اتساعا يوما بعد آخر,فيما هجر "السوق البيضاء" حتى أهلها الذين قد لا يجدوا في مرحلة ما "زبونا" واحدا يحقنونه بتلك المسممات التي أدت بهم للهلاك.
وفي عملية مضادة لوقف هذا النوع من البزنس الذي بدأ في الانتشار لجأت السلطات التقليدية إلى نفس اللعبة القديمة وأساليبها غير المجدية من المنع ,والحجب,والرصد ,والتشفير الذي لم يوفق -حتى الآن - في منع تدفق موجات الفكر"الهدام" ,وتغلغلها في كل مكان.وفي نفس الوقت لجأ المعنيون ,والمتعاملون بـ"سوق الإنترنت الفكري السوداء" إلى أسلحة كثيرة كالبروكسي , واستخدام البريد الإلكتروني,وتبادل المقالات المثيرة والجريئة ,وفك تشفير كثير من المواقع التي المشفرة في تحد سافر للسلطات.
وبالأمس القريب فقط ,تم السماح, وبعد نحو من نصف قرن تقريبا من الحظر والمنع والإغلاق, بتداول ,وبيع وشراء العملات الصعبة وأصبح ذلك حلالا ثوريا بعد أن كان منكرا رأسماليا,وبعد أن فرض منطق الحياة ,وتطور الأشياء نفسه ,ظهر المخفي والممنوع ,ورأى أخيرا النور,وبعد أن باءت كل تلك المحاولات العليلة والسقيمة,وما رافقها من قهر وتعسف واستبداد, للسير في عكس الإتجاه.
فالأسواق المختلفة السوداء ستبقى سوداء, وستستمر وستكتب لها الحياة ,وتجاهلها لا يعني عدم وجودها,وهي تعمل بمثابرة ,وجد تحت الأرض, ما لم يراعى المنطق ويحكّم العقل,و يتم الاعتراف بها والسماح لها بالعمل فوق السطح وفق قوانين عصرية مرنة براغماتية ومتحررة,تراعي كافة التطورات الحاصلة ,والقفزات التكنولوجية العملاقة,وثورة المعلومات والمتغيرات,وتقدم العولمة باضطراد,واحتياجات المجتمع والناس,ورغبة الجميع بالتعبير الحر عن الأفكار والآراء والهموم والمشكلات,وممارسة مختلف النشاطات كما هو حاصل وجار ,وعلى الملأ, في مختلف البلدان,وأي تجاهل لهذا الواقع يعني ببساطة مزيدا من ازدهار السوق السوداء,وانتشارها ,أفقيا ,وشاقوليا, وجنونيا,وبكافة الاتجاهات.كما أصبحت الحاجة ملحة تماما للمكاشفة ,والمصارحة,والشفافية ,وكل ما تحتاجه هذه الخطوة قرارا شجاعا ,واعيا ,وحكيما,يكرس ثقافة الحرية ,والحوار ,وتقبل الآخر,والاختلاف ,واحترام المبادرة الفردية الخلاقة.
أم هل سننتظر نصف قرن أخر قبل أن ندرك تلك الحقائق البديهية والساطعة, بآن,وعندئذ لن ينفع معها سوى قراءة الفاتحة,والترحم على الأوطان.