إننا, وبلا شك,أمام حالة جديدة من التعاطي الغربي الذي أصبح مرتابا أكثر من أي وقت مضى مع المهاجرين بشكل عام,والشرق أوسطيين ,و المسلمين, تحديدا,وبشكل خاص بسبب نزوات,وطموحات أمراء الجهاد,ولاسيما بعد العواصف الإرهابية العاتية والمؤلمة التي ضربت على ضفتي الأطلنطي في مدريد ,ولندن,ونيويورك وواشنطن.وصار من نافلة القول إن زمن الغرب المفتوح على أبوابه المشرّعة, والمتسامح مع بعض التيارات قد ولى وإلى الأبد الآن. وفردوس الغرب الديمقراطي ,ونعيم أندلسه الجميل, قد أغلق من الآن في وجه آخرين مهددين في حياتهم ومعيشتهم لأسباب سياسية,ودينية ,وعرقية كثيرة.
فقد أظهرت الأحكام المتشددة التي أصدرتها محكمة إسبانية مختصة أمس بحق مجموعة متهمة بالانتماء للقاعدة ,ومتواطئة في أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 حسب ما جاء في لائحة الاتهام ,حجم المشكلة الماثلة ,ومدى الهلع والخوف الغربي فيما يتعلق بهذا المحور الذي أصبح هاجسا يسيطر على عقول الساسة ,ويعشش في وجدان الرأي العام في آن,والتحسب للقادمات من الأيام .ولا شك أن الأمر يزداد سوءا حين يتبجح أمراؤهم ,ومن على شاشات الفضائيات بتبني هذه الأعمال ,ونسبها إلى عامة المسلمين الذين هم منها براء.وصار العامل الأمني محورا لتوليف وإنتاج الكثير من السياسات,تماما كما هو الحال بالنسبة للدول التي اشتهرت بالقمع والإقصاء لعقود خلت.
وفي الحقيقة,لا يختلف قانون السلامة الوطنية الأمريكيpatriotic" act " ,وفي بعض جوانبه,والذي صدر في أعقاب هجمات سبتمبر ,عن أي قانون من قوانين الطوارئ الشهيرة في البلاد التي تعيش وتحيى على هذه القوانين منذ فجر التاريخ.كما اعتبر كثيرون إجراءات بلير الأخيرة امتدادا للكثير من القوانين التعسفية التي تحكم دولا كثيرة في العالم الثالث.فيما غمز كثيرون بالقول أن أحكام مدريد تشبه أحكام محاكم أمن الدولة المعروفة ,ولا تخلو من دوافع ,وأبعاد سياسية رمزية جلية.وقد طالت هذه الأحكام الإعلامي السوري الأصل تيسر علوني بحكم بدا قاسيا ومشددا,بلغ أقصاه وهو السجن لسبع سنوات رغم تبرئته من التهمة الرئيسية وهي الانتماء للقاعدة, بانية حكمها في ذلك ,على ادعاء غامض ومبهم نوعا ما,وغير قاطع, بنقل أموال للقاعدة,وذلك حسب ما نقل عن معنيين ومتابعين لهذه القضية الحساسة.
وأيا تكن الخلفيات الواسعة المحتملة ,وتأويلاتها المختلفة ,ومغزاها البعيد,فيبدو أن هناك اتجاها جديدا متصاعدا يتشكل ,وبقوة ضاغطة من عدة تيارات سياسية وأهلية مدفوعة بالتأمل بالنتائج الكارثية,والوخيمة لعمليات التفجير الآثمة, في معالجة أمر استفحال ظاهرة التطرف في المجتمعات الغربية ,ودوله التي كانت ولا زالت تشكل قبلة ,وموئلا للكثير من المهاجرين ,والمهجرين القسريين والطوعيين ,بشتى انتماءاتهم السياسية ,والدينية,والعرقية ,الذين وجدوا فيه, يوما ما, ملاذا آمنا من بطش أنظمتهم حين كانت تضيق بهم الدنيا,وبعد أن تشتد عليهم ظروف الحياة ببلدانهم الأصلية.
ومن الجدير ذكره أن العرب أطلقوا على اسبانيا لقب الأندلس لروعتها وجمال طبيعتها وسحرها ,ولكن كثرة الإختلافات, والانقسامات ,وحروب ملوك الطوائف,والتطاحن,والاقتتال المستمر ,والتآمر ونزوات التطرف والغلو والتشدد,وضيق الأفق السياسي والاستراتيجي عند بعض من أمراء الكانتونات الإقطاعية ولورداتها ,قد ساهم بشكل كبير في ضياع الأندلس سابقا ,وكليا وخروج العرب منها نهائيا ,وهم يتحسرون ويتألمون, ندما, على ملك ضاع وانحسر. واليوم ,فلقد جعل تيار الغلو والتطرف والتشدد ,مع ظروف سياسية بدائية ومزرية ومتواطئة أحيانا,من الحياة كابوسا مرهقا أوقف عجلتها كليا عن الدوران في المحيط العربي ,والشرق أوسطي,وسدّ الأبواب أمام أي نوع من حياة سياسية صحية وديمقراطية, وخلق أعداء وهميين ,ومعارك لا ضرورة ,ولا أهمية,ولا لزوم لها ,ولا طائل منها على الإطلاق .وهاهو ينقل المعركة إلى فردوس الغرب وآفاقه المفتوحة,ويخسر الأندلس الديمقراطي مرة أخرى ليضر أيما ضرر ببسطاء الناس, والمسلمين,والمهجّرين, والمهاجرين عموما الذين وجدوا أنفسهم بين فكي كماشة لا ترحم من القوانين الجائرة في الشرق والغرب على حد سواء.,ويساهم هذه المرة ,وعن سابق تصميم وعناد,وربما إلى الأبد ,بضياع حلم أي "أندلس" ممكن للمرة الثانية وربما الأخيرة.
ومع الإدانة الكاملة لأية أحكام غير عادلة إن هي طالت أناس أبرياء, أيا كان انتماءهم الوطني والسياسي والعرقي والديني , ولكن ,وفي نفس الوقت,هل نلوم ساسة الغرب ,وقضاته كليا في هذه الأحكام؟ أم أن "للبعض",من بين ظهرانينا, يدا طولى فيها,ويحمّلون كافة المسؤولية القانونية والأخلاقية فيما وصلت إليه العلاقات من تدهور وشك متبادل وارتياب فيما بين أنظمة الغرب,وغالبية بريئة لا ناقة لها ولا جمل في مجمل هذا الصراع الذي دفع أبرياء كثيرون ثمنا باهظا فيه تجلى بالتضييق ,والطرد ,والسجن في بعض الأحيان.
ولعلم السادة الأفاضل من سكان الكهوف القابعين تحت الأرض, الذين يقودون الجهاد الزائف من هناك, ويوجّهون المهووسين والأشقياء, علّهم يعون حقيقة أن في الغرب الآن هناك تيارات متوثبة ومتهيئة في أكثر من دولة فيها جاليات مسلمة,تتمنى من الله,وتدعو إليه ليل نهار أن يقوم البعض بـ"ارتكاب حماقة جديدة ما " لتطلق حملة جديدة من القوانين ,والإجراءات تطال أبرياء,وتوتّر الأجواء ,وتنغص الحياة في صراع لن يدفع ثمنه إلا البسطاء ,والمهجّرين الفقراء,والأبرياء.فأين يذهب هؤلاء في هكذا أحوال بعد الآن؟وهل سينفع عندها الندم ,والبكاء على أطلال أندلس جديد ولى ,وضاع.ولا يستبعد البعض أن يتم القيام بأعمال محدودة و"مفبركة" ,ومن قبل مراجع استخباراتية ,لتنفيذ بعض من هذه المخططات.
ومهما يكن من أمر, فلنترحم على الغرب كما عرفناه يوما ما,ومن اليوم ,هناك "أندلس" جديدة ضائعة,وفردوس مفقود,وغرب مختلف يولد من جديد ,ويتذكر بمرارة قاسية,ولا ينسى, تلك الأيام السوداء التي كابدتها مدن الأحلام في مدريد ولندن ,وبلاد العم سام,على يد الإرهاب المجنون ,وسيؤدي حتما التهور ,والطيش ,وضيق الأفق لضياع آخر شبر ,وكل فتر من أية "أندلس " يكتب لها القدر أن تكون تحت وصايتنا,ونشملها برعايتنا,وتطأها أقدامنا.