انفجر الحديث في الآونة الأخيرة عن التطبيع ,وطفا على السطح بشكل سافر بعد أن ابتلعته أحداث كبيرة أخرى كاغتيال الحريري ,وحرب العراق,والضيف الطارئ على تقاليد الثوابت ديتليف ميليس الذي استحوذ على كل اهتمام وأدهش الجميع عندما اقتاد أربعة من جنرالات القمع المرعبين وهم"مخفورين" إلى نفس الزنازين التي دشنوها بأيديهم,وسهروا على بقائها عامرة بالمنكوبين التعساء, وسبحان مغير الأحوال الذي لا تأخذه غفلة أو منام.وفي الواقع لم يعد هناك أي معنى لمفردة التطبيع التي ما تزال تتداولها بقية باقية من فلول النظام الرسمي العربي المنهار, والذي تقع سفارة إسرائيل على بعد أمتار من عرابه الروحي ونعني به طبعا الجامعة العربية,والذي أطلق اليوم نجمها الأول تصريحا صاروخيا بأنه "لم يتعرف على العرب إلا منذ خمس سنوات" ليؤكد على المبدأ السائد الذي يعزز سياسة الثوابت وهو الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب.
وبما أن التطبيع لم يعد إثما قوميا كبيرا ,وارتدادا عروبيا منكرا يرتكبه بعض "منحرفي السياسة" من الأعراب بعد أن امتلأت الساحة بالكثير من مشاهد اللقاءات الفاضحة والساخنة جدا ,وزكمت الأنوف من الروائح المتصاعدة من غير مكان على صفقات ,واتصالات في السر ومن وراء الستار .ولا سيما بعد ذلك التصريح لشالوم الذي دعا فيه الدول العربية التي تقيم علاقات سرية مع الدولة العبرية للكف عن خجلها, و"تمنعها",وحياء العذارى الذي يتملكها وكشف حقيقة هذه العلاقات على الملأ ,والتي تجاوزت بكثير ,وعلى مايبدو,مراحل اللقاءات الديبلوماسية الثنائية العفوية والبريئة,ولتدخل ربما في مرحلة متقدمة من الالتحام,وربما التحالف,وإقامة المناورات العسكرية المشتركة.فيما ينتظر طابور طويل من المطبعين الجديد على الأبواب. وتعزز تلك التحركات التطبيعية الفكرة القاتلة عن أن هذه الشعوب هي المظلومة أولا وأخيرا والمضحوك عليها في النهاية,وكالزوج المخدوع فهو آخر من يعلم.ويبقى مكتب المقاطعة العربية في دمشق يمارس نشاطه العبثي , ويضع أسماء الشركات التي تخرق حظر المقاطعة دون أن ترى,وللأسف, اسما لأية دولة ,أو دبلوماسي عربي على اللائحة السوداء ممن خرقوا مبدأ المقاطعة.ولقد تراجع هذا الموضوع ,في الواقع,إلى مرتبة أدنى في سلم أولويات السياسات العربية بعد ازدحام أجندتها بالكثير من المواضيع الطارئة ,والمستحدثة,والطالعة,إضافة إلى تلك المزمنة والتي يبدو أن لا حل يلوح في الأفق لها.
وقبل أن يفكر ساسة العرب وقادتهم بالتطبيع,ويعرضوا عضلاتهم ومهاراتهم الدبلوماسية, ويظهروا تلك النزعات الإنسانية التصالحية العولمية الفجائية,ما المانع أن يعترفوا بشعوبهم,ويطبّعوا معها , ,"وجحا أولى بلحم ثورة" والأقربون أولى بالمعروف رغم إدراكنا لمدى القرابة والود والإعجاب مع "أبناء عمومتهم",على حد تعبير أحدهم ذات يوم. هذا ,وتجدر الإشارة إلى أنه وإلى الآن هناك قطيعة كاملة وشاملة,وتبدو أبدية بين الشعوب وأنظمتها ,وانقطاع للجسور ,وحبال الود والاتصال بين الفريقين منذ أمد التاريخ المعروف ,ولم تفلح كل محاولات التطبيع ,والتقارب,"والفزعات"اليعربية,والبدوية في "تبويس" اللحى والشوارب والزوالف ,وتحقيق المصالحة بين الأطراف.وتظهر هذه الأنظمة تشددا ملحوظا في رفض أي نوع من التطبيع ,والتفاهم ,وإقامة أي نوع من العلاقات الثقافية والدبلوماسية والاقتصادية والاتصال مع شعوبها,ويا ليتها تطبق نفس المعايير من الرفض ,والتكشير,والإنكار, ,والنهج المتشدد مع شارون وحكومته. لذلك صار من الواجبإنهاء حالة الحرب والعداء مع الشعوب واللقاء والاعتراف بها والتعرف عليها ,ومداعبتها والتودد أليها ,والتقرب منها بغير أساليب المخابرات,والتنازل ومصافحتها,والابتسام لها,ولو مرة واحدة في الولاية الرئاسية الواحدة ,ومجاملتها أمام الكاميرات بعد أن كلت وتعبت وملّت الأيادي الممدودة التي أعياها الانتظار دون أن تقلى لفتة كريمة وجواب,وأخذ صور تذكارية في هذه المناسبة النادرة التي ربما لن تتكرر في هذه الحقب السياسية الطويلة النكداء.
هناك حاجة ملحة,وماسة للتطبيع والاعتراف بين الجميع في الواقع حيث تطبق قيم المقاطعة ومعاييرها الصارمة هنا بشكل نموذجي فريد,وتسود الريبة ,والشك بين المعارضات والحكومات ,والمعارضات ذاتها مع المعارضات ,والأحزاب والأحزاب,والعلمانيات والأصوليات ,والطوائف والطوائف,والملل والملل,والقبائل والقبائل ,والعشائر والعشائر ,والبطون والبطون,والأفخاذ والأفخاذ ,والعائلات والعائلات,والسجانين والسجناء ,والمرضى والأطباء,والأزواج والزوجات,والبنات والصبيان,والشيوخ والعوام ,والمحافظين والثوار,والمستهلكين والتجار,والأفراد والأفراد,والكتّاب ووزارات الإعلام,والجمهور ومحطات التلفاز الرسمية,والبنوك الخاصة وعموم الشعب من الفقراء, حيث يغلق الجميع الباب على أية مبادرة للحوار والتعامل واللقاء,ولا يرد أحد أية تحية أو سلام. وهناك حاجة أيضا لتطبيع الكثير من المفاهيم والقيم والأفكار السائدة وتدجينها وترويضها وتأهيلها وإصلاحها وجعلها ملائمة للولوج في قلب الحضارة الإنسانية . إذ من غير المعقول مواجهة العولمة القادمة,والبشرية والانفتاح,ولائحة الاستحقاقات الحضارية والإنسانية الكثيرة الماثلة التي تنتظرنا ببنى وهياكل هشة,وخطاب عقيم ممجوج ومجتر متخشب أكل عليه الدهر وشرب,ووضع مزر من التفسخ ,والتشرذم ,والقطيعة الشاملة.
أليسوا هؤلاء جميعا أجدر,وأولى بالتطبيع أولا ,والهرولة نحوهم لأن فيهم من الخير والحسنات والبركات أكثر بكثير من سكان المستوطنات؟