|
هل يحق للسيستاني أن يتدخل بالسياسة؟ نزار حيدر مرة أخرى، يحتدم الجدال في العراق، متسائلا، هل يحق للمرجعية الدينية (كالسيستاني مثلا) أن تتدخل بالسياسة؟. فبينما يرى البعض، أن من حقها أن تبدي رأيا في الشأن العام، على اعتبار أنها، كأي مواطن عراقي آخر، تتمتع بمثل هذا الحق، الذي يكفله القانون للجميع، في إطار المساواة والشراكة الحقيقية، يرى آخرون أن للمرجعية الدينية خصوصية روحية لا ينبغي إقحامها بالسياسة، لنحافظ، بالتالي، على القها الديني والروحي، ومن أجل أن لا تتلوث بقذارات الساسة وأحابيل السياسة، من دون أن يخفوا قلقهم من تكرار تجربة الحكم الديني في إيران. الملفت للنظر، أن هذا الجدل يحتدم أكثر حول تدخل المرجعية الدينية في موضوع تدوين مسودة الدستور العراقي، في الوقت الذي يسعى فيه كل العالم إلى أن يتدخل بهذا الأمر، محاولا فرض أجندات خاصة، وآراء وأفكار معينة، فهل يا ترى يحق للجميع أن يتدخل بذلك؟ باستثناء المرجعية الدينية، وهي صاحبة الحضور الأكبر والأوفر في الشارع العراقي؟. وبالرغم من هذا الجدل الحاد، إلا أن الجميع يقر بالدور الوطني الاستراتيجي الذي لعبته المرجعية الدينية، منذ سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003 ولحد الآن، إذ يعترف الجميع، مثلا، بفضل المرجع السيستاني في إنجاز ثلاث محطات هامة، كان العراق قد مر بها خلال العامين الماضيين، وهي على التوالي: أولا؛ منعه انجرار العراقيين وانحدارهم في منزلق الحرب الأهلية التي كادت أن تقع بسبب حرب الإرهاب التي يشنها التكفيريون على الشيعة بوجه خاص، والذين ظلوا يقتلون على الهوية والانتماء طوال الفترة الماضية، والى الآن. ولقد أقر بدور السيستاني على هذا الصعيد، الكثير من الزعماء والقادة والساسة والكتاب والمثقفين والباحثين المنصفين، من العراقيين والعرب والأجانب، لدرجة، أن بعضهم اقترح أن يمنح المرجع السيستاني جائزة نوبل للسلام، لهذا السبب على وجه التحديد. ثانيا؛ دوره في توكيد الخيار الشعبي في بناء العراق الجديد، من خلال إصراره على لزوم إجراء الانتخابات العامة، لاختيار البرلمان العراقي، وتاليا الحكومة الانتقالية، ورفضه القاطع للخيار الذي كان يتبناه البعض، والقاضي بتأجيل الانتخابات، واللجوء إلى طريقة الانتخابات الجزئية (التعيينية) كطريق لتشكيل البرلمان. لقد كاد الكثيرون، حتى من قادة وزعماء العراق الجديد، أن يقتنعوا بأن لا طريق سوى التعيين لتشكيل البرلمان الجديد، وذلك بسبب تحديات (الاحتلال) والعنف والإرهاب، وأحيانا بسبب الخوف من الخروج من المولد بلا حمص(كما يقول المثل العربي){وهذا ما حصل بالفعل للعديد منهم} إلا أن إصرار المرجعية على أن يكون صندوق الاقتراع هو الفيصل في اختيار ممثلي الشعب وليس أية آلية أخرى، هو الذي وضع العراق على السكة الصحيحة وفي الاتجاه الصحيح. ثالثا؛ إصراره على أن تتم كتابة مسودة الدستور العراقي، من خلال لجنة منتخبة من العراقيين أنفسهم، وليس من قبل مجموعة تعين من قبل أي كان، وبأية طريقة من الطرق، إلى جانب تأكيده على أن تتم المصادقة على الدستور بصيغته النهائية، من قبل كل العراقيين، ومن دون استثناء، باستفتاء شعبي عام، وهي المرة الأولى التي سيتم فيها تبني دستور دائم للبلاد في استفتاء شعبي حر وعام، ليس في تاريخ العراق الحديث، وإنما في تاريخ كل البلاد العربية. وبذلك، تكون المرجعية قد شيدت، بإصرارها وثباتها ومثابرتها ومواقفها الوطنية الفريدة من نوعها، الأسس الاستراتيجية لبناء العراق الديمقراطي الجديد. إلا أن هذا الاعتراف بفضل المرجع السيستاني ودوره في كل ذلك، وأكثر، لم يشفع له عند البعض من الذين لا زالوا يتوجسون خيفة من تدخله بالسياسة. ومن أجل أن نكون منصفين في معالجة هذا الموضوع، أرى لزاما أن نبحث الأمر من الجوانب الهامة التالية؛ أولا: في العراق، على وجه التحديد، لا تكمن المشكلة في تدخل الدين بشؤون السياسة، وإنما العكس هو الصحيح، فان تدخل السياسة بشؤون الدين، هو الخطر الماثل والمحدق بالبلاد دائما، ولذلك، فإذا كان هناك من يقترح النص في الدستور العراقي الجديد على فصل الدين عن السياسة، للحيلولة دون تدخل الدين بالسياسة، عليه أن يفكر بطريقة معاكسة تماما، أي عليه أن يطالب بالنص على عدم تدخل السياسة بالدين، وربما لهذا السبب نص المشرعون الاميركيون، عند تدوينهم الدستورالاميركي قبل أكثر من (200) سنة، على منع السلطات السياسية من تشريع أي قانون يتدخل في شؤون الدين، وليس العكس، لمعرفتهم بنهم الساسة، وتطاولهم على الدين، بل وعلى كل شئ يمكن أن يوظف لخدمة أغراضهم السياسية، وعلى رأسها الوصول إلى السلطة، وتاليا التشبث بها أطول فترة زمنية ممكنة. إنهم فطنوا إلى حقيقة الأمر وواقع المشكلة، مبكرا، ولذلك عالجوها من جذورها، وبالطريقة الصحيحة. هنالك خوف من إقحام السياسيين للدين كلما مروا بأزمة، وليس العكس، لأن الدين لم ولن يمر بأزمة، ليلجأ إلى إقحام نفسه في الشؤون السياسية، ولقد رأينا كيف أن الأنظمة المتعاقبة على العراق، كانت تلجأ، عند كل أزمة سياسية، إلى إقحام نفسها بالدين، ومحاولة الحكام امتطاء الدين للوصول إلى أهدافهم السياسية، بغض النظر عن صحتها أو خطئها. ليس في العراق فحسب، وإنما في طول البلاد العربية (والإسلامية) وعرضها. خذ مثلا على ذلك، النظام في الجزيرة العربية(المملكة العربية السعودية)الذي شيد قواعده، في الأساس، على التحالف المشبوه والزواج غير الشرعي(السفاح) بين أسرة بدوية متخلفة(آل سعود) وظفت السيف لإخضاع زميلاتها في الصحراء لسلطتها، ومذهب متخلف إرهابي تكفيري(الوهابية) لتستظل الأولى بالفتوى الدينية الطائفية للثاني، ويستمر ويتمدد الثاني بحماية سلطة وأموال الأولى. واستمر هذا النظام موظفا الدين لتحقيق أهدافه السياسية وأغراض أبناء الأسرة الحاكمة، منذ ذلك الحين ولحد الآن، ولقد رأينا، مؤخرا، كيف اضطر الناس في بلاد الله ورسوله، أن يبايعوا الملك الجديد على كتاب الله وسنة رسوله، في مسعى لإضفاء(الشرعية الدينية) على(نظام الحكم الملكي). ولأن هذا النظام القبلي، مضطر للسكوت عن ممارسات المذهب السلفي المتخلف وفقهاءه، لحاجته لهم، استغل (المتمذهبون) ذلك ليتمددوا في العالم، فانتشر خطرهم في كل البقاع، حتى تحولوا إلى غول إرهابي يهدد البشرية بالدمار، بعد أن عشعش الإرهاب وباض وفرخ في مدارس مملكة ولي الأمر، على مدى قرنين كاملين، أو أكثر. وكذلك هو الحال بالنسبة إلى بقية الأنظمة السياسية الأخرى، والتي وظفت حتى الأسماء الدينية لخدمة أغراضها السياسية، وهي التي تدعي بأنها أنظمة علمانية لا دخل لها بالدين، فهذا أمير المؤمنين، وذاك المجاهد الأكبر، وذلك خادم الحرمين الشريفين والآخر عبد الله المؤمن، وهكذا دواليك. كما أنها شكلت وزارات ودوائر للأوقاف، لتتدخل في شؤون الدين، ولتسيطر من خلالها على حركة أموال الأوقاف، تسرق منها ما تشاء، من دون حسيب أو رقيب، فما علاقة نظام سياسي علماني بأوقاف الدين، يا ترى؟. كذلك، سيطرت من خلالها على المساجد، فهي التي تكتب نصوص خطب الجمعة لائمتها المعينين من قبلها، والتي عادة ما تنتهي بعبارات الثناء على الحاكم والمديح بسياسات السلطة، وتهديد الرعية بتلقي أقصى العقوبات إذا ما خرجت عن طاعة ولي الأمر. حتى الأحزاب السياسية التي تصف نفسها بأنها علمانية، بادرت إلى تشكيل هيئات ورابطات للدين وعلمائه، لتسخير الفتوى الدينية لصالح سياساتها ومناهجها الحزبية، كلما احتاجت إلى ذلك، وضاقت بها السبل. ولا زال هناك الكثير من الكتاب (العلمانيين) يتدخلون في الشأن الديني إلى درجة كبيرة، بمن فيهم الكثير من الكتاب اليساريين (بل وحتى الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ودينه من قريب أو بعيد) من الذين نصبوا أنفسهم منظرين للدين وشؤونه، إلى درجة القرف، يفسرون الآية ويستشهدون بها، كما يحلو لهم، ويحملونها من المعاني فوق طاقتها، إذا ما مالت أهواءهم مع كل ريح. إن الدين، كان ولا يزال، الباعث الحقيقي للحفاظ على البلاد والعباد، فكان الباعث للتصدي للغزو الأجنبي للبلاد، كما كان الباعث لحفظ الشعب العراقي من الانزلاق في مهاوي الحروب الأهلية والطائفية، كلما دست الأنظمة أنوفها في الشأن الديني، من قريب أو بعيد، وكلنا يتذكر الفتاوى الدينية التي حرمت القتال ضد الكرد في شمال العراق، على مرور الأيام والحقب التاريخية السياسية، والتي حفظت النسيج العراقي من التمزق، بسبب السياسات العدوانية التي كانت تنتهجها الأنظمة(العلمانية). كما كان للفتوى الدينية التي تصدت للمد الأحمر الملحد الذي اجتاح العراق فترة الخمسينيات من القرن الماضي، والذي كان قد نصب العداء لكل ما هو من الدين من قريب أو بعيد، دورا، لا ينكره أحد، في حفظ كيان العراقيين ومنظومتهم الفكرية والعقائدية من عبث العابثين. والمضحك المبكي، والمخجل في آن، أن جل من يعترضون على تدخل المرجعية في العراق، بالشأن العام، هم إما رعايا أو يكتبون في وسائل إعلامية تمتلكها واحدة من أسوأ الأنظمة الدينية الشمولية في التاريخ الحديث، واقصد بها(المملكة العربية السعودية) فلماذا لا يكتبون ضد توظيف هذا النظام السياسي للدين؟ ألا يدل ذلك، على أن دوافعهم سياسية طائفية، وليست من منطلق الحرص كما يدعون؟ أم لأن هذا النظام، وسواه، يدفع سلفا، فيقطع السنة(المثقفين) على الطريقة الأموية؟ أما المرجعية في العراق فلا تدفع شيئا، إذ ليس من عادتها أن تشتري الضمائر، وتوظف الأقلام المأجورة للدعاية لصالح سياساتها، لأنها، في الأساس، ليست بحاجة إلى كل ذلك. والشئ بالشئ يذكر، فان أغلب هؤلاء الكتاب، هم إما من مخلفات اليسار المهزوم أو التيار القومي العروبي الفاشل، أو من أيتام التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وأمثالها، وهم الذين كانوا يتمنون{في يوم من الأيام الخوالي، أيام النضال السلبي والشعارات البراقة والجهاد ضد الحاكم الكافر الذي لا يحكم بما انزل الله تعالى}أن يشربون من دماء هذا النظام الذي كانوا ينعتونه بكل صفات الرذيلة كالرجعية والعمالة للأجنبي والكفر، كل حسب انتماءاته الفكرية المذكورة سلفا، فيما نراهم يلوذون اليوم بصمت أهل القبور، يسكتون على كل شئ، فما عدا مما بدا يا ترى؟. ثانيا: لم يطرق السيستاني باب أحد من العباد، يتوسله الإصغاء إلى آرائه، في القضايا السياسية، بل أن الذي حصل هو العكس من ذلك تماما، فلقد تقاطر على بيته كل القادة والزعماء والسياسيين الذين تصدوا للمشهد السياسي العراقي الجديد منذ سقوط الصنم ولحد الآن، يستشيرونه ويصغون إلى رأيه، في القضايا التي يرونها هامة ومصيرية. حتى أولئك النمط من القادة الذين لم يكونوا، في يوم من الأيام، متمسكين بالدين وتعاليمه، أو يهتمون بشؤونه، أو يعتقدون بدور المرجعية، رأيناهم يتقاطرون على باب المرجع السيستاني طلبا للاستشارة، وفيهم المسلم والمسيحي والشيعي والسني والعربي والكردي والإسلامي والعلماني، والمدني والعسكري، والجمهوري والملكي. كما أن مبعوثي الأمم المتحدة وأمينها العام والجامعة العربية، وغيرهم، لم يستثنوا أنفسهم من ذلك، إذ أبدوا، بدورهم، حرصا متزايدا لزيارة السيستاني في منزله لاستشارته والإصغاء إليه، وكل ذلك ليس من باب الأيمان بدور الدين والمرجعية في الشأن العام، وإنما لما لمسوا من المرجعية، من الحرص الأكيد على مصالح العراق وشعبه، وهذا ما عبروا عنه في أكثر من حديث ومناسبة، أو ربما لأن التجربة علمتهم بأن الطريق إلى عقول العراقيين وقلوبهم وقناعاتهم، يمر عبر منزل السيستاني. حتى الاميركيين، حاولوا أن يصلوا إلى منزل السيستاني، علنا أو متنكرين، ولقد طرقوا الباب مرات وكرات، إلا أن بواب المرجع لم يفتح لهم الباب، خشية أن يتهم المرجع بالتدخل بالسياسة. لقد أثبتت الأيام العصيبة التي مرت على العراقيين، بأن المرجعية الدينية (والسيد السيستاني على وجه التحديد) هي الجهة الوحيدة التي تفكر بعقلية وطنية جامعة، تتعالى على الانتماءات الاثنية والدينية والمذهبية، وتقفز فوق الولاءات الحزبية والاتجاهات الفكرية، ولذلك يرى فيها العراقيون، صمام الأمان الحقيقي لصيانة حقوق كل العراقيين من العبث أو التجاوز والسحق، بغض النظر عن انتماءاتهم بكل أشكالها، كما أنها السد المنيع الذي يقف بوجه كل المحاولات الرامية إلى القفر على حقوق هذه الشريحة أو تلك، ومن هنا حاز السيستاني على ثقة الجميع، واحترامهم وتقديرهم، بسبب مواقفه وآرائه التي لم يعد أحد يجرؤ على القفز عليها أو تجاوزها، أو حتى أن يفكر بأن لا يأخذها بنظر الاعتبار، أو أن يعيرها القليل من الاهتمام. لقد تيقن العراقيون، على اختلاف مشاربهم، بأن المرجعية الدينية، هي الجهة الأكثر وفاءا لهم، والأكثر أمانا للجوء إليها للدفاع عن حقوقهم، ولذلك لجأ إليها الجميع. ولهذا السبب، على وجه التحديد، فإذا كان هناك من يلزم أن يؤاخذ بجريرته، فليس المرجعية لأنها تتدخل بالسياسة، وإنما الزعماء والقادة ومندوبي الأمم المتحدة والجامعة العربية، وغيرهم، لأنهم طرقوا باب السيستاني، ولا زالوا. ترى، ما ذنب المرجع إذا كان الناس يتبعونه ويهتدون برأيه، ويتعبدون بتوجيهاته التي يعتبرونها في أغلب الأحيان، فتوى دينية يجب الالتزام بها، طاعة قربة إلى الله تعالى؟. ترى، لو أن أحدنا استشاره صديق في أمر ما، هل سيقدم له النصح؟ أم يضرب عنه صفحا؟ ولأن المستشار مؤتمن، لذلك يسعى المرجع إلى أن يقدم للمشير أفضل ما عنده من آراء وأفكار، وان كانت في بعض الأحيان لا تروق لهذا أو تعجب ذاك، إذ ليس من مهام المرجع أن يرضي الجميع، وإنما عليه، أولا، أن يرضي ربه وضميره، والا، فان (رضا الناس غاية لا تدرك) كما تقول الحكمة. ثالثا: إن كل الذين يستنكرون على المرجع تدخله بالسياسة، متورطون بذلك، لدرجة أن بعضهم ضمن قائمته الانتخابية أسماء (مراجع دينية معروفة) في محاولة لتوظيف العمامة في حملته الانتخابية السابقة، فلماذا يجوز له أن يورط المرجعية بالسياسة إذا ما أراد ذلك، تحقيقا لمصلحة حزبية أو سياسية أو انتخابية ما، ويستنكر الأمر لغيره؟ لماذا باءه تجر وباء غيره لا تجر؟. أضف إلى ذلك، فان كل أمثال هؤلاء، قادة سياسيون متورطون بالتدخل في شؤون الدين، بشكل أو بآخر، فكم من مرة سمعناهم يتحدثون في شؤون الدين وقضاياه وكأنهم مراجع وفقهاء كبار، بالضبط كما كان يفعل الطاغية الذليل صدام حسين عندما كان، في كل أزمة، ينظر للدين، وكأنه آية من آيات الله العظام. رابعا: إن المرجعية الدينية لم تفرض رأيا على أحد أبدا، وإنما تحاول أن تبدي رأيا فقط في الأمور التي يتم التشاور معها أو الاستفسار عنها من قبل أي كان، إلا أن إيمان الناس بدورها، وحسن ظنهم بها، هو الذي يدفعهم للالتزام به، وتحويل رأيه إلى فتوى ملزمة، يتعبدون بها. خامسا: أجزم لو أن أية مرجعية دينية أخرى، غير السيستاني وأمثاله، كان لها كل هذا التأثير الكبير والعظيم على العراقيين، لعبدها أنصارها، ولطالبوا بأن ينص الدستور العراقي الدائم، على كل ما من شأنه أن يرفع منزلتها فوق القانون والمساءلة، ولرفعوا موقعها فوق الشك والريبة، خاصة إذا كانت تلك المرجعية تلبي حاجاتهم السياسية (مرجعية تحت الطلب) كما كان يفعل الطاغية الذليل، أيام زمان، أما السيستاني، فقد عارض، إلى درجة التوبيخ، من حاول أن يقحم المرجعية ودورها ومكانتها في الدستور الجديد، لأنه أبعد ما يكون عن الانتهازية، وسياسة اغتنام الفرص. ولذلك، لا نجد من يستنكر على مراجع التكفير وفقهاء الإرهاب وهيئات الذبح والتفخيخ والقتل العشوائي، تدخلها بالسياسة، إنما صب الجميع جام غضبهم على السيستاني وأمثاله. ترى، لو كان السيستاني سنيا، فهل كانوا يستنكرون عليه تدخله بالسياسة؟. سادسا: إن المعروف عن المرجع السيستاني، على وجه التحديد، عزوفه عن التعاطي بالشأن السياسي، ولو كان قادة وزعماء العراق الجديد، بمستوى المسؤولية والحدث التاريخي الكبير، لما اضطر إلى أن يتصدى بهذه الطريقة، إلا أن تصرف القادة العراقيين من منطلقات اثنية أو دينية وطائفية ضيقة، وعدم تقديمهم للمصلحة الوطنية العراقية العامة على المصالح الحزبية الضيقة، هي التي حملت المرجعية الدينية مسؤولية تاريخية، من أجل الاطمئنان على تقدم العملية السياسية الجديدة بالاتجاه الصحيح. إن دور السيستاني الايجابي والنزيه، نابع من انه ليس له مصلحة مباشرة، لا في نتائج أية انتخابات، ولا في تشكيل أية حكومة، ولذلك نراه قال أكثر من مرة، بأنه ليس المهم عنده من يكون الرئيس أو الزعيم، إنما المهم عنده أن يأتي عن طريق صندوق الاقتراع، ينتخبه الناس، ليعبر عن إرادتهم بشكل حقيقي وواقعي، وليس بطريقة مزيفة كما يفعل الطغاة. سابعا: وأخيرا، أليس من مصلحة العراق والعراقيين، أن يتدخل رجل كالسيستاني (العاقل والحكيم وذو النظرة الاستراتيجية البعيدة) في الشأن السياسي العام، على أن يتدخل غيره من الحمقى والمستعجلين والساذجين والمغفلين، ممن يشكلون، بتدخلهم، خطرا حقيقيا على البلاد؟. إن القاعدة العامة تقول، بأن الساحة لا يمكن أن تعيش فراغا، قياديا أو إرشاديا، لا فرق، فإذا لم يتدخل العاقل ليصلح الأمور ويأخذ بأيدي الناس إلى ما فيه صلاحهم وخير البلاد، فسيبادر الأحمق لملء الفراغ، فأيهما أكثر منفعة للعراق والعراقيين، يا ترى؟. أخيرا أقول؛ نعم، كلنا حريصون على سمعة الدين والمرجعية الدينية، فلا نريد أن يتلوث الدين بقذارات السياسة، والمرجعية بأوساخ السياسيين، ولكن، في ذات الوقت، فإننا حريصون على مصالح العباد، فإلى متى تبقى هذه المصالح المقدسة، أسيرة بيد كل زعيم متهتك، لا يرعى في عباد الله تعالى إلا ولا ذمة؟ والى متى يظل الناس يساقون من قبل كل فاجر لا يؤمن بيوم الحساب؟ والى متى يظل يحكم الرعية، كل خمار ولص يسرق في الليل والنهار، ويعتدي على الأعراض ويسحق حقوق الرعية، من دون وازع من دين أو ضمير أو حتى مصلحة وطنية؟. إننا نريد المرجعيات الدينية، وكل مواطن، رقيب على أداء الحكام، علهم يرتدعون ويخافون يوما تشخص فيه الأبصار، يوم ترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، يوم تضع كل ذات حمل حملها، ويشخص الناس لله الواحد القهار.
|
||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |