كما لم يعتد المواطن العربي أن يرى "مستألها" ركبه جنون العظمة يقبع خلف القضبان بسروال داخلي ,ولا جنرالات الأمن وهم يقتادون إلى الزنازين الظلماء,ولا زعماء وقادة دول يتلاسنون ويتبادلون الاتهامات على الشاشات ,ولا رئيس جمهورية منتخب يتبرم من سلوك رئيس وزارءه على الملأ وفي تصريح عام كما فعل بالأمس القريب الرئيس الطالباني في معرض تقييمه لسلوك وزيره الأول العراقي الجعفري ,وبنفس ردود الفعل ,وربما أكثر لناحية حدة الانتقاد وعمقه هذه المرة ,كذلك قابل الجمهور تصريحات وزير الداخلية العراقي بيان جبر التي مست وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في الصميم بعبارات لاذعة وغير مألوفة في السياق يترفع هذا المقام المحترم عن ذكرها, وبعيدة كليا عن تقاليد التعامل على صعيد العمل السياسي فيما يخص النظام العربي الرسمي وإعلامه الهجين الذي استمرأ المداراة,والتعميم ,والتعتيم,والمزايدة الفاقعة والمفضوحة,والديبلوماسية التي تصل حد النفاق المكشوف. فكثيرا ما كانت تدور المعارك الضارية بالألسن,وتنشب الخلافات المستعرة في الخفاء ,والدوائر المغلقة ,وخلف الجدران العالية ليخرج علينا المجتمعون الأشاوس بعد ذاك النزال بابتسامات غامضة مرسومة عنوة على محياهم ليبدؤوا سيلا عارما من عبارات المجاملة, وبأنه قد تم بحث المسائل ذات الإهتمام المشترك ,وسبل تطويرالتعاون الأخوي,وتنمية العلاقات بين البلدين الشقيقين,والتفاهم و"التطابق" التام في وجهات النظر وتلازم المصير, ووحدة المسار والحياة والممات والزواج والطلاق.تلك العبارات النمطية الفضفاضة الهائمة العائمة التي صبغت الإعلام العربي الرسمي الزائف إن لم نقل الكاذب عبر تاريخه,وصارت إحدى ركائزه الأساسية,وكأن بينهم وبين الحق والحقيقة والشفافية عداءً مستحكما ,وثارات دفينة لا يمحوها الزمان.
وللحقيقة فإن هذه السياسة كانت وليدة تفاهم واتفاق عربي عام عبر ما يسمى ميثاق الشرف الإعلامي العربي الذي, يجبر الأعضاء الموقعين عليه على عدم الإشارة إلى أي نوع من التقصير,أو الأخطاء ,والممارسات الخاطئة التي يقوم بها هذا البلد أو ذاك, ومنع نشر أي نوع من "الأخبار المضللة" بين مختلف الأطراف,وإن كان يتم نقضه أحيانا حين ينفجر الخلاف للعلن,لكن سرعام ما كان يعود إلى سابق عهده بعد تبويس الشوارب وتدخل الوسطاء وطويلي العمر من أصحاب الخير .ومضمون هذا المبدأ يقول وبالمختصر المفيد,وبالعربي"المشرمحي": لا تنشروا غسيلنا الوسخ لكي لا ننشر غسيلكم الأوسخ,وكفى الله المواطنين شر الأخبار.فأي شرف,بربكم, في مواثيق الشرف هذه؟ فلقد حدثت كوارث كبرى,وتصفيات دموية,ومجازر شتى دون أن يشير لها الإعلام المذكور بناء على الالتزام المدهش بذاك المبدأ المأفون.
وبشكل متواز مع هذا ,كان هناك سعي حثيث لحجب الحقيقة وكل مايمت لها بصلة عن"الرعاع",والرعايا الذين لا يمكن اعتبارهم مطلقا بحكم البشر المؤهلين ,أو مصارحتهم بأي شيء فيما يتعلق بالشأن العام, لأن هذا,وببساطة شديدة, ليس من ضمن اختصاصهم البتة ,ولأنهم ببساطة رهن إشارة ما ملكت أيمان الأباطرة المستألهين من العبيد والخدن الصغار,ومهمتهم تنحصر فقط في تلقي العطايا وفتات المكرمات من الأسخياء الملاك الحصريين للثروات والعباد,واقتصر دورهم الوطني,والذي من أجله ولدتهم أمهم, بممارسة طقوس التعبير الدائم عن الخنوع والخضوع والولاء والطاعة العمياء للسادة الأشراف الأخيار من اللوردات وأصحاب المزارع السائبة التي كان اسمها يوما جمهورياتً وأوطان,ومن السخط والعار اطلاع صغار القوم والمواطنين الرعاع على مايدور ,أو أن يعرفوا ما يدور في مجالس علية القوم و"المستألهين" الكبار.
وبغض النظر تماما عما ظهر مؤخرا من تصريحات وردود أفعال, بدت ثقيلة, وما هي مكانتها في معايير السياسة والأخلاق, ففي الواقع لا عيب ولا ضير أن يكون هناك تباين ,واختلاف في وجهات النظر من أية قضية معروضة مهما كبر وصغر شأنها .ولا شك أنه قد يكون هناك بعض التحفظ على طريقة الرد على هذا الموضوع أو ذاك, ومن قبل هذا الجانب أو ذاك ,ولكن في كل الأحوال هناك إدانة مطلوبة لكل أنواع النفاق ,والمجاملات الرخيصة المفضوحة,والغموض في المواقف, وهذا الدور المريب والمشين الذي لعبه الإعلام العربي كل هذه السنوات ونظامه الرسمي القائم جوهريا على تحالف الجنرالات في خدمة "قبضايات"العالم .وهذا لا يعني عدم وجوده والتعتيم عليه ,لا بل إظهاره بمظهر مختلف تماما.وكما لا يجب,وفي هذه الحالة بالذات, لأحد أن ينكر أن هناك خلافا في وجهات النظر بين الجارين اللدودين والقطبين الإقليميين البارزين ,وفي النظرة للمستقبل ,وتوزيع الأدوار اللإقليمية ,والاهتمامات ...إلخ.ونحن في الحقيقة أمام حقبة جديدة من التوجه للرأي العام بكل الشفافية المطلوبة التي لا تنتقص من أهمية أي أمر,بل تزيده سموا وشأنا ,حيث لم يعد في عالم اليوم أي مجال للمواربة ,والمداهنة ,والرياء.
لقد بدا التصدع واضحا في الجدار العربي ,وبدأت الشروخ والتشققات والتناقضات تظهر جلية للعيان,وتطفو على السطح ,وظهر كم هو ذاك التماسك المفترض ,والتضامن المزعوم هش وقبض ريح ويسقط عند أول امتحان.ونرى اليوم الخطاب السياسي في الاتحاد الأوروبي,على ما فيه من تنسيق وتوافق وانسجام,يظهر الكثير من الصعوبات والعقبات,والتأكيد أولا على التمايز والمصالح والفروقات لا التركيزعلى العموميات والألغاز والمتاهات , وهو في طريقه نحو كيان سياسي متماسك قائم على المصارحة والمكاشفة وتبيان أين تلتقي المصالح ,وأين تبتعد الأهداف,وماذا يجب القيام به من أفعال .وأعتقد تماما أنه قد حان الوقت تماما لمحاكاة كل تلك النماذج الحية الناجحة القائمة أمامنا والتي تعتمد على الشفافية والسعي الدؤوب لتذليل العقبات وتخطيها واكتشاف مكامن الانطلاق الصحيح ,وتبيان مصلحة كل فريق ونواياه,وأين حدوده .كما صار لزاما الجهر بالحقائق والوقائع والتصورات ووضعها أمام الرأي العام,لا تغطيتها والتعتيم عليها,ومحاولة إخفائها عبر بيانات هزيلة وصيغ مجترة باليات,ولكي لا تنفجر يوما ما,"كل المستورات"والمكنونات ,بهذا الشكل الصارخ غير المألوف,ولكي لا نصل إلى النتيجة المؤلمة التي أخجلت الجميع في إباحيتها السياسية في سجال الأمير الفيصل, والوزير "المتمرد" صولاغ