في إجراء غير مسبوق في المنطقة,وخروجا عن التقاليد, وافقت الحكومة اللبنانية أمس على إلغاء جهاز أمن الدولة في إطار مساعيها لضبط أوضاع الأجهزة الأمنية التي كانت طوال الأعوام الماضية مصدر شكوى من المعارضين غالبا,ومن الموالين ,وبعض المسؤولين أحيانا.ولقد كان لاعتقال أربعة من جنرالات الأمن الكبار دافعا لاتخاذ مثل هكذا قرار. وبعد فشله الذر يع والمريع,بآن,في جلب الأمن والأمان للدولة,واتسم سلوكه بالكثير من الريبة, والتعثر, والتقصير,وكان عاملا على توليد الانفجار أكثر من كونه حافزا على التهدئة والاستقرار,وبالمختصر المفيد ,وبالعربي "المشرمحي" صار "حاميها حراميها".
ومن المعلوم أن المهمة المنوطة بهذا الجهاز,بشكل عام وفي مختلف الدول, هو السهر على أمن الدولة وحمايتها من أية تهديدات خارجية ,ومراقبة كل ما يتعلق بهذا الأمر,ومتابعة العدو الخارجي وملاحقة الجواسيس الذين يقدمون معلومات حساسة للعدو تضر بالمصلحة العليا للدولة,ووضع المعلومات ,والتقارير ,والتصورات بين يدي صناع القرار .ولكن في المحصلة النهائية,وفي معظم الحالات التي أمامنا, نسيت معظم هذه الأجهزة مهمتها الأصلية وصار المواطن "الغلبان",وابن البلد وليس العدو والغريب,هو محور عملها وملاحقتها ,ومطاردتها.وعلى الجانب الآخر, فإن الكثير من المعلومات العامة والأرقام ,والإحصاءات صار من اليسير الحصول عليها من مختلف المصادر,وانتفت الحاجة لمخبر صغير أو جاسوس يزود الآخرين بها,كما أن هناك الكثير من المعلومات التي لم يعد لها من أية قيمة تذكر,ولاسيما العسكرية منها, وقد أظهرت حرب العراق انتفاء الحاجة لها كليا,في ضوء التفوق التكنولوجي الحربي الخارق الذي يكشف الأهداف ,ويرصدها ,ويقدر على تدميرها من أبعد المسافات بدقة متناهية.وصار أمن الدول,بمفهومه الواسع العام, مخترقا أكثر من أي وقت مضى,ولم يستطع هذا الجهاز برغم التمادي في ممارساته السادية في منع سقوط الصنم العراقي .
ولم يسمع أحد في الحقيقة عن أي اختراق أمني بارز لهذه الأجهزة في مواجهة أمن "العدو", وعلى الصعيد الخارجي,ما عدا ما يتعلق طبعا بفتوحاتها الكبرى ضد العزل ,والآمنين من السكان. وتركز نشاطها على الداخل ,ولم تقدم,يوما, أي كشف حساب بإنجازاتها الأمنية أبدا في أي نطاق .وفي الواقع,لم تفلح,وبرغم سطوتها الطاغية, في منع ما وصلت إليه الأمور من ترد, وتهديد خطير لأمن الدول هنا وهناك.كما صارت تتدخل في الشاردة والواردة في شؤون الناس,وترضى وتغضب على من تشاء ,وتعطي وتمنع بغير حساب ,وتكتم الأنفاس ,وتتجنى أحيانا على الناس.وصار سلوكها العام مرتبط إلى حد ما بالتعسف والقهر والأساليب غير النظيفة عموما في التعامل العام.وصار المنتسبون لها من نجوم المجتمع المعروفين والمشهورين ,وربما, أكثر من هيفاء وروبي وعادل إمام ويشار إليهم, وإلى أساطيل سياراتهم الحديثة ,وقصورهم الأسطورية الحالمة بالبنان.كما ولدى البعض منهم أموال ومشاريع تجارية تنافس المرحوم الحريري والوليد بن طلال. فيما المفترض ,وحسب تقاليد العمل ألاستخباراتي والمباحث السرية أن يكون معظم العاملين في هذه الأجهزة من الرجال السريين الذي لا يعرفهم أحد حتى نساؤهم,ولا أدري مدى صحة القصة التي تناقلنا ها, في سالف الأيام, بأن أحد رجال البوليس السري المشهورين والتحريات قدم استقالته لرئيسه حين اكتشفت زوجته,وبالصدفة, أمره.في حين يقوم بعض من عناصر هذه الأجهزة,في بعض الواحات الثورية, بمحاولة إظهار أنفسهم بمناسبة وبدون مناسبة ,والتطاول أحياناعلى الناس البسطاء في الشوارع,واستغلال وظيفتهم في تمرير الكثير من المعاملات غير الرسمية,ونفش ريشهم وعرض أسلحتهم بشكل منفر وبائس فج يظهر الكثير من الأمراض والعقد والانحراف السلوكي الخطير ,أكثر من أي شيء آخر.
وعلى جانب ربما أكثر أهمية ,لا يساور أي رجل متوسط للذكاء أن أمن أية دولة من دول العالم لم يعد كليا في يدها الآن ,وربما خارج إمكانياتها العادية والمتواضعة.وأمن الدول عادة صار مرتبط,إلى حد كبير,بسلسلة من العوامل الداخلية والخارجية,والقوى التي تساعد في تمتينه, أو إضعافه, وربما إزالته من الوجود تماما كما حصل مع أحد العربان,أكثر من اعتماده على مفهوم البطش وأساليبه البالية البأساء التي سادت لفترة طويلة وكان من نتيجتها المباشرة هذا التهديد العالي لأمن الدول.وصار هناك خلط فاقع بين أمن الأنظمة وأمن الدول لدرجة أصبح من المستحيل معرفة الحد الفاصل بين الاثنين.وسبقت في كثير من الأحيان مصلحة الأنظمة مصلحة الأوطان وتفوقت عليها وصارت مصلحة الأوطان في مرحلة تالية من حيث الأهمية.
وفي ضوء المعطيات الراهنة من تغول القوى العالمية وسطوتها وسيطرتها على كافة مفاتيح السياسة والإعلام والاقتصاد, وحتى تحكمها, وتسخيرها للشرعية الدولية لتحقيق مآربها التي غالبا ما تكون غير بريئة أو شريفة على الإطلاق, فقد سقطت كل المبررات السابقة لوجود أجهزة من هذا القبيل الآن,وأصبح مفهوم أمن الدولة بحاجة لإعادة قراءة,ولاسيما بسبب الميل نحو حلول تصالحية مع دول كانت تشكل تهديدا فعليا لأمن الدولة ,وكثرة المشاريع والمبادرات السلمية في المنطقة .وتنفق كثير من الدول ميزانيات ضخمة على هذا الجانب الذي بدأ يخسر أسباب وجوده في ضوء اختراق الاتصالات,ومراقبة الإنترنت,والتجسس على البريد الإليكتروني,ومكالمات الزعماء ,وتصوير تحركات الجيوش وأماكن تمركزها,و"خلية"الأقمار الاصطناعية التي تجوب الفضاء ليل نهار والكاميرات المزروعة في الفضاء,والتكنولوجية الحربية العالية التي تدار من وراء البحار,ودخول العالم حرب النجوم فيما لا تزال بعض الأمم والأقوام تعيش في كهوف الزمان.وقد قرأت منذ عقدين من الزمن تقريبا عن أقمار صناعية تستطيع أن تصور رجلا أسودا ,في غرفة مظلمة,يلعب الورق ويمكن التعرف على الأوراق التي بين يديه.هذا الكلام,إن كان صحيحا,منذ عقدين من الزمن,فما هو عليه الحال الآن بعد كل هذه الأيام؟
لاشك تأتي الخطوة اللبنانية بعد دراسة متأنية وواقعية لكثير من التطورات ,والوقائع الجديدة على الأرض والمتغيرات التي أدت لاتخاذ مثل هذه الخطوة. والبديل عنها مؤسسات عصرية تتبع أساليب حديثة ومتطورة في العمل ,وتجند أناا على قدر عال من المسؤولية ,والأهلية العلمية والأخلاقية وبعد المرور بسلسلة من الإجراءات والشروط شديدة الصرامة للعمل فيها, بدل تلك التي تهالكت مع الزمن,ولم تعد تؤدي عملها بالشكل الأمثل والمطلوب.وربما ينسحب هذا الأمر في أماكن أخرى تعاني من مشاكل أكثر تعقيدا, وصار من اللازم الآن إعادة النظر في وجود بعض من هذه الأجهزة ,وليس إلغاؤها كليا,ومراجعة أساليب عملها, وهيكلتها,وتحديد أهداف عملها بعد أن صارت عبئا على بعض الدول,وبعد أن تغولت هي الأخرى وخرجت في بعض الأحيان عن التحكم والسياق. كما أن ميزانياتها الفلكية فيما لو صرفت على المشاريع الحيوية العامة, ورفع حالة المواطن, ربما ستساهم بشكل فعال في الحد من الاحتقان العام وتنفيسه ,والذي سيصب في النهاية,وبشكل مؤكد, فعلا في مصلحة أمن الدولة العليا.