صعق الرئيس السابق لاتحاد الكتاب العرب وهو يرى هذا الإقبال اللامحدود على مواقع الإنترنت برغم المحاولات المستميتة لتشفير معظمها,وانسطل وداخ من هذا النهم الشعبي العارم والمتعطش للكلمة الصادقة ,والخبر الشفاف غير المنمق والمار على عشرات الرقباء, ,وذهل وهو يرى القراء يديرون له ,ولمطبوعاته الفارغة البأساء الظهر التي أكلتها القوارض في المستودعات, ويعرض عنها الجمهور كما تعرض النسور الشم عن جيف الحيوانات ,وهاله هذا الطوفان الإعلامي الهادر,والمد الصحفي العاتي الذي أطاح بكل ممالك الكذب والفراغ والرياء التي تآكلت مع الزمان ,وهو الشيء الذي لايريد أن يعترف به بعد أن شاخ في وظيفة الخفير والعشماوي على الإبداع ,فما كان منه إلا أن أطلق على هذه العملية بأنها "شوارعية",بكل ما تحمله هذه الكلمة من إسفاف, وبالتالي من يقوم بها ,وعلى بلاطة, فهو من أبناء الشوارع ,ولا عزاء لأحد على الإطلاق مع شديد الاحترام للشوارع وعدم الانتقاص من سيادتها ومكانتها أن تقارن بهؤلاء.وهكذا,وبجرة قلم واحدة ,وكالعادة,أطلق على تلك الكوكبة النيرة أقذع الصفات ,وحكم عليها جميعا بالإعدام.وأضاف" لابد لهذه المواقع أن تتوقف لأنها لا تمت بصلة للواقع وللأخلاق أو القيم ولانستطيع أن نصنف عملها إلا بالشوارعي".ويظهر هذا التصريح النيراني حنينا مطلقا ورومانسيا إلى عصر الإغلاق والحصار الذي ولى واندثر وأصبح في أمانة التاريخ والزمان.ولكن هيهات ياصديقي هيهات ,فالقطار قد انطلق ,ولا توقفه كل المعجزات.ولكن الشيء الأكيد ,والمربح الوحيد,أنه واليوم فقط ,ومن الآن وصاعدا عرفنا أين تباع,وتكمن الأخلاق ,ولن يعد أحد يجد صعوبة وعناء في الحصول على "كم كيلو" أخلاق طازجة ,وقيم جاهزة بـ "كرتونتها" وعلى "الزيرو" لو احتاج إليها,وكله طبعا بمعية هذا الهمام.
وباعتباري واحدا من "أبناء الشوارع" الذين يتسكعون في زواريب الإنترنت,و"حاراتها الجرباء" الفاقدة للأخلاق, فأنا بانتظار أن يكون لدينا قضاء حقيقي ,بعد الإصلاح الذي شهدنا أحد فصوله منذ أيام, لكي ألوذ به عله ينصفني ويحميني من أولئك الذين استباحوا كياني ,وطعنوا في وطنيتي وأخلاقيتي.وقد حدث هذا قبل ذلك بقصف مشابه لوزير آخر للإعلام,وثالثة من مزامير جذلى أخرى لإحدى الفصيحات, وليعلم الجميع بعدها لماذا أصبحنا هكذا بؤساء ومساكين وتعساء ,وكم مالت بنا الحال.فمن أعطى أيا كان هذا الحق لإطلاق الأحكام وتحقير العباد بهذا الشكل الخارج عن كل الأعراف؟
وباعتباري أيضا واحدا ممن أصابته "طرطوشة" من مبيدات الفصحاء, لذلك كان لابد من توضيح بعض الأشياء,فلو كان السيد "العريس" في دولة يعيّر الآخرين بها مثل "إسرائيل" ,و"أمريكا" لعرف بقوة القانون أين حدوده ولتعلم مايجب أن يقال وما يجب ألا يقال,وكيف يحترم مواطنيه ومن يختلف معهم بالرأي,ولعرف تماما بأن الله حق ,ولا يسمح لأي كان بالتطاول والنيل من كرامة وشرف,وسمعة الإنسان. ولكن طالما أن هذا حدث في غابة شمولية معزولة تماما عن تقاليد احترام الآخر فالأمر مفهوم تماما, بل وربما معذور أيضا .وإن اتهام منظومة حضارية وعلمية تعمل بمنتهى الدقة,والنظام والاتقان,وتمثل قمة وخلاصة إبداع العقل البشري الصافي والحر والخلاق كالإنترنت, بهذه الصفات السوقية المؤلمة, لهو تعبير فاضح عن العدوانية المفرطة التي يكنها مثل هؤلاء لكل ماهو تنويري, وتحديثي, وتجديدي ,بل وحتى إنساني.ولم يفصح معاليه عن ماهية الأخلاق المطلوبة للعمل الصحفي ,وماهي شروط المواقع الإليكترونية غير "الشوارعية" والتي تقبع في الأبراج العاجية؟وما هي أدبيات الكتابة اللاشوارعية وشروطها,وله الفضل وبراءة اختراع هذه المدرسة الأدبية الجديدة ,اللهم غير تلك التي مارسها عبر عقود من التضليل ,والمواربة ,والتعتيم ,واللف والدوران وعدم تسمية الأشياء بأسمائها ,والتي أدت إلى مأزق كبير لانحسد عليه بحال من الأحوال.
فقد أصبح الآن كثيرون من"أبناء الشوارع"وفي "حيص بيص ",وموقف حرج ,ومهمة صعبة من حالة البحث عن الذات,وإثبات النسب الوطني المفقود الذي احتكره للملمات ,ولوحده, رئيس مزمن لاتحاد عجز أن ينظم مسابقة وندوات سنوية للزجل الشعبي والمواويل,وسيرة الزير سالم وعنترة التي كانت تتم على "السبحانية" في المقاهي الشعبية وبدون تدخل اتحاد الكتاب ومنظريه الأشاوس. ولن نطالبه بتأسيس جائزة ومهرجان تقليدي للمسرح والرواية ومدارس النقد الأدبي ,والتشبه بالسعفة الذهبية ,ونوبل ,والأوسكار ولاسمح الله,كما يعمل الناس في الدول التي تبنت المدرسة الشوارعية ,واكتفى دائما بحرب الإدانات, والمقاطعات والبيانات الجوفاء,التي أدت لفصل المبدعين الحقيقيين,لا الأدعياء , وانكفاء أصحاب المواهب الذين تجاوزت شهرتهم الآفاق. وفقع نصف كتّابه,وطقوا ,وعدموا الحياة وهم ينتظرون مبادرة تنصف إبداعهم, وتضعهم على مستوى أقرانهم, وعلى الأقل, في بورما ,وداهومي وزنجبار. وصار على "أبناء الشوارع" العودة لسجلات النفوس لإثبات نسبهم لوطنهم ,والانتظار في الطوابير الطويلة أمام الموظفين "النزهاء" ,من غير أبناء الشوارع, طبعا للحصول على وثيقة إثبات أنهم من أبناء الذوات المرضي عنهم وصحفهم بيضاء في فروع توزيع الوطنيات "كاش" أي نقدا ,وبالأقساط.وليعذرنا معاليه لأننا لم نستطع أن نترقى ونصبح من أبناء الذوات ,ونكتب في مؤسساته العرجاء ,ونقبض العلاوات ,والمنح,والبركات,ونسافر بالطائرات,فالناس مقامات ,وإنا خلقناكم بعضكم فوق بعض درجات,ولم نتعلم يوما,كأبناء الأكارم والذوات,أصول الضرب على الدف ,والرقص ,والبصم بالعشرات ,والتبرك بافتتاحيات الصحف الثلاث الغراء,والعتب كله على الإهمال و"تربية الشوارع" ياسيدي, ويامولاي.
ولكن هل سأل هذا العريس الفصيح لماذ ا أصبح قسم كبير من هذه النخبة الفكرية"أولاد شوارع" إليكترونية ,وأولاد مرافئ,وعلى أبواب السفارات , ومشردين ,ومتسكعين على الأرصفة ,وعلى معابر الحدود ,وأولاد صحافة مهاجرة وانترنتية فاجرة. وأين سيذهب هؤلاء "الشوارعية" بعد أن تنكر لهم ذووهم, وآلهم,ونبذوهم ,ومنعوا عليهم كل المنابر المخصصة فقط للمحظيين والمحظيات وأبناء الذوات الكرام,وأنكروا أبوتهم لهم لمجرد اختلاف في الرأي ,وجهر به ,ولأنهم لم يضربوا بسيف السيد الهمام ويرددوا ببلاهة طلاسم افتتاحيات صحف الاستنساخ .فهل هناك أفضل من شوارع الإنترنت لتستر عليهم وتؤويهم ,وتحميهم من أبناء الذوات سليلي المنظمات وإعلام الأبواق.ويبقى السؤال الأهم أين يذهب أولاد الشوارع هؤلاء بعد أن سد عليهم "أبناء"الأكارم والذوات كل سبل العيش والطرقات وحرية التعبير عن الكلام؟وإلى متى سيستمر هو ورهطه الأبرار بالسباحة عكس منطق الحياة,والتيار؟وهل يفكر أحد,ومهما أوتي من قوة وذكاء, بإرجاع الزمن ,ولو ثانية واحدة, إلى الوراء؟وهل لو تمكن فعلا سيغلق الإنترنت كما أغلقت من قبله المنتديات؟وهل ما زال هناك أناس يفكرون بهذه العقلية,وهذا الشكل البدائي من الإلغاء ,والتضييق,والاستئصال في عصر الفضاء و ثورة المعلومات؟
إنها من علامات "الساعة",وإن سفاه الشيخ لاحلم بعده ,فلا حول ولا قوة إلا بالله الواحد القهار.