أمنا الطبيعة القاسية أحيانا ,والرقيقة والجميلة أحيانا أخرى والتي تغضب في لحظة ما, وتخرج عن الطور كسائر الناس , صارت طرفا حربيا يشهر سيف الاقتصاص من الكفار ,مزودا بأسلحة للدمار الشامل ويقوده مجموعة من "جنرالات الخرافات" ,في معركة بين طرفين يقفان على ضفتين مختلفتين متباينتين من الحضارة والمدنية والحياة.فقبل الاكتشافات العلمية كان التفسير السائد لمظاهر الطبيعة كلها على أسس غيبية وبسيطة ساذجة,فمثلا كان البعض يقول أن الزلازل هي بسبب تحريك الثور للأرض من أحد قرنيه إلى القرن الآخر بسبب تعبه ,حيث كان الاعتقاد أن ثورا عملاقا يحمل الأرض على قرنيه.ولكن ,وبعد الاكتشافات العلمية الهائلة, ظل البعض يفسر كل مظاهر الطبيعة وفقا لهواه السياسي ,وميوله العدوانية,وحسب قدرة عقله على الاستيعاب , ومازالت نظرته كنظرة ذاك صاحب نظرية قرني الثور,ويرفض أن يعترف بأي علم ومنطق.ومازال البعض يعتقد أن الثور الأمريكي يحمل الكرة الأرضية على قرنيه.
لاشك,لقد كانت مناظر مؤلمة ومحزنة بآن تلك التي نقلتها شاشات التلفزة عن الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب آسيا في هذا الشهر الفضيل ,والناس صيام قيام يناجون ربهم في عتم الظلام ,ويتوجهون له بالدعاء والصلوات,ولا يسعك والحزن على المنكوبين يعتصر قلبك,وفؤادك المثقل بالألام, إلا أن تتضامن,وبصدق خالص , مع هؤلاء الناس ,ومع ضحايا جميع أنواع الزلازل الطبيعية ,والسياسية,والانهيارات العقلية والحضارية الكبرى على حد سواء.ولقد أظهر جنون الطبيعة وساديتها أنهما لا يوفران لا الأطفال ,ولا النساء,ولا الشيب ,أو الشباب,وسيان عندها البروتستانتي ,والمورموني ,واللاديني ,والملحد ,واليهودي ,وحتى المسلم الطالباني في كشمير حيث يسود أكثر نمط متشدد من الإيمان.وفي هذه المرة, وبكل أسف على كل حال ,لم تنج حتى المساجد كما حصل في تسونامي,ولم يكن أي بناء معصوم من غضب الطبيعة الذي انفجر في لحظة عابرة من الزمان .ولو كان الزلزال في اليابان ,حيث يكثر البوذيون, ربما ما انهار أي بناء,بسبب تصميم الأبنية ,وتخطيطها مسبقا على أساس مقاومة الزلازل.ولكن هنا,وفي مدن البؤس والفقر والحرمان,مسحت مدن وقرى بأكملها من على وجه الأرض بثوان ,ولا شيء سوى صور الموت ومناظر الخراب,وآلاف الجثث ماتزال تحت الأنقاض وأعداد الموتى في ازدياد,ومن نجا أسف على حياة لا أحبة فيها ,ولا أبوة ,ولا أطفال .وبدا "كاترينا" الذي هلل له الجهلة والأوباش من "صناع" الكراهية والحقد والنفور بين الناس,نوعا من المداعبة والمزاح و"لعب العيال" أمام هول هذه الفاجعة وحجم المأساة.وسط صمت مطبق ,وانكفاء ملحوظ, من نفس أولئك الذين هللوا بفرح لسقوط ضحايا نيو اورليانز,حيث سترتد ,الآن,كل دعاويهم الباطلة إلى نحورهم.
لقد أظهر التعاطي الأمريكي مع إعصار ريتا التالي أن الإنسان يمكنه التغلب,نوعا ما, على غضب الطبيعة وسخطها ,ويتحكم بها إذا ما امتلك ناصية العلم,والإمكانية , والقدرة على التنبؤ بها,ويقلل عندها ما أمكن من عدد الخسائر. وهذا ما حدث بالفعل مقارنة مع إعصار كاترينا الذي كان هناك تقليل من أهميته بالرغم من التنبؤ بحدوثه مسبقا,وهذا كان أحد أهم أسباب ارتفاع عدد ضحاياه.ولو علم فقراء الباكستان بموعد الزلازل ,وكان هناك أموال تصرف على مراكز رصد الزلازل ,واهتمام من حكومات العسكر والحرب بأحوال الناس, بدل إنفاق النقود على الجيوش الهزيلة ,والمدارس الدينية التي ساهمت ,وإلى حد ما في تربية وتسمين عجول الإرهاب , وحشو رؤوسهم بالطلاسم والألغاز, وتبذير الأموال كلها على صناعة الأسلحة الذرية على غرار "المرحوم" صدام,فلربما كتبت الحياة لآلاف من أولئك البؤساء الذي كان جلهم من الفقراء ومستوري الحال.ويتبين لنا ,وبجلاء تام,أن الموضوع طبيعي وعلمي برمته وليست له أية أبعاد سياسية ,أو لاهوتية .
ولكن حين يعجز مثل أولئك الذين سخروا كل شيء في الحياة لخدمة تجارتهم البائرة في تحقيق أي انجاز يذكر,واندحروا في كل المعارك الحضارية والثقافية والاقتصادية والعسكرية ,لابد أنهم سيلجؤون للخرافات ,والتعلق بحبال الأوهام ,وقوى الجان لتخوض عنهم حروبهم الخاسرة بعد أن خرجوا بذل ومرارة وانكسار من كل النزالات.وتصبح مظاهر الطبيعة ,والدعاء على الكفار في الصلوات هي الأسلحة الوحيدة المتوفرة في مقارعة الأعداء.وتصير البراكين قنابل موقوتة,وعبوات ناسفة ربانية تغمر الكفرة بحمم الموت الزؤام,والزلازل صواريخا نووية, والأعاصير سلاحا غيبيا من عند الله ,والصواعق حجارة من سجيل,وانفلونزا الطيور جيوشا لم تروها من قبل, تدك لهم, وبدلا عنهم, حصون الأعداء,وتخوض عنهم الحروب الضروس الشعواء.وروج كثيرون من فيلق البؤس هذا ,وبتشف ظاهر وباد للعيان,أن نهاية أمريكا باتت قريبة ووشيكة. كما تسلط الأنظمة ,وجنرالات الجيوش المهزومة في الميدان ,أبواقها البائسة لتبرير عجزها,وتسويغ فشلها,وتمرير ألاعيبها على الناس ,وتخدير العامة ,وتضليل البسطاء بأن الله معها ويحارب عنها والنصر حليفها في نهاية المطاف ,فهاهي قوى الطبيعة تقتص من الملاحدة والكفار.
وكثيرا ماترافقت مظاهر الطبيعة الفتاكة بمشاعر فرح ,وشماتة وتشف من قبل بعض المرضى والعجزة المهووسين الذين فشلوا في تحقيق أي إنجاز .ولكن ماذا لو طلع علينا قس بروتستنتي ,أو كاردينال كاثوليكي ,أو كاهن بوذي ,أو حاخام يهودي ليقول بأن هذا الزلزال ماهو إلا عقاب من الله لدولة مثل الباكستان؟ هل يعقل مثل هذا الكلام ,وماذا يمكن وصف بائس كهذا؟وهل سينجو في بلده من التهم والقيل والقال؟
وحين ترى تلك النوعية من نجوم الإعلام والفضائيات,والذين تسلط عليهم الكاميرات والأضواء , والذين يهرفون ويغرفون من كل علم وباب,ويفتون في شتى المسائل والأنواء,ويفتون في كل شيء في علوم الفضاء والفيزياء,كما في محاذير الحيض ,وفنون الجماع وخبايا النفاس ,وتفسير الأحلام,تدرك تماما أن لابراءة تامة في هذا النشاط ,وأن وراء الأكمة ماوراءها من تحالف شرير بين ماهو كل سلطوي وغيبي لإحكام السيطرة والطوق على العباد . وتصبح أية ظاهرة طبيعية مطية لتمرير الكثير من الخرافات ,وتسويق سياسات العجز والإخفاق,فلا ضير أبدا أن يضرب إعصار مدمر فقراء أمريكا ويدمر ما أمكن ويكبد اقتصادها الخسائر الفادحة,ويقصف أعمار أطفالها ,ونساءها,وشيوخها طالما أننا فشلنا في إصدار بيان يدين سياساتها,ونعجز عن التعبير عن رأينا الصريح في شرور وآثام حكامها,وطالما لا يتجرأ أي جنرال "متفرعن" ,و"متنمرد" على رعاياه أن يرفع رأسه أمام حذاء أي عريف متقاعد في البنتاغون .
الجهل والأمية والخواء هي أعتى الكوارث الطبيعية التي تعصف بأي مجتمع من المجتمعات,وأشد فتكا من إنفلونزا الطيور الذي يهدد دولا بالموت والهلاك,والأنكى من ذلك حين يتفلسف,ويتشدق مثل هؤلاء الجهلة والأدعياء في الكلام.