رسائل شفهية

 

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

ألا لا أري الأحداث مدحا ولا ذما فما بطشها ظلما ,ولا كفها حلما(أبو الطيب المتنبي)
بعيدا عن التهويل الأجوف,والتشفي السقيم,وحسابات السياسة المريضة,والتأويلات المفعمة بالكثير من التصورات والخيالات السرابية التي تصب حتى الآن في خانة التمنيات والأحلام لدى البعض ,وخانة الجزم لدى البعض الآخر.وبعيدا عن كل تلك التصريحات التي تجاوزت حدود اللياقة في وصف رجل أصبح في ذمة الله والتاريخ ,إذ من المعروف تماما أنه لا تتم محاكمة الأموات في أكثر قوانين الأرض بدائية وتخلفا,وليس من الرجولة في شيء إظهار البطولة و"التمرجل" على الأموات إطلاقا,وبنفس الوقت لا يمكن تبرئة أحد وتبييض أفعاله,وكل إنسان يذكر بما جنت وفعلت يداه ,ولكننا أمام حدث, ومصاب يجب أن نأخذ منه الدروس والعبر قبل إظهار المشاعر والعواطف وردود الأفعال المتباينة التي لا يبنى عليها عادة أي بناء.
سيبقى هذا الحادث ربما ,وخلال الفترة القادمة إحدى أهم تجليات مرحلة ميليس وتداعياتها ,وارتداداتها التي يتكهن البعض بأنها ستكون بمثابة الزلزال .وكما لا يمكن أن يكون موت أي إنسان,ومهما علا أو تواضع شأنه , موضوعا لفرح أي عاقل ,وإنسان سوي على الإطلاق. وسنترك أي حكم ,وهذه رسالة للجميع, لما بعد ظهور التقرير النهائي لنتائج التحقيق في اغتيال الرئيس الحريري وإن الانجرار الغريزي وراء قطيع التكهنات هو ضرب من الحماقة والغباء,وعند ذلك ليقل كل واحد ما يشاء بناء على الوقائع والمستجدات ,وعندها فقط, يمكن تقييم الأقوال ,وإظهار ردود الأفعال,,إن الصيد في الماء العكر لا يحصد سوى الطحالب والإشنيات.وأفضل سياسة الآن هي الانتظار.ومن البلاهة والانتحار استشعار حدث في منتهى الغموض حتى الآن ولا نملك أيا من مفاتيحه , وكذلك ,أيضا ,بالنسبة للتنبؤ مسبقا بمجريات تحقيق سري قبل أن يعلن على الملأ,وإن كان هناك قرائن ,وإشارات ظاهرة توحي بتحميل هذا الطرف أو ذاك المسؤولية في عملية الاغتيال.ولكن الحيادية والموضوعية تتطلب الوقوف على بعد واحد من الجميع في هذا الوقت بالذات,حيث لا يملك أحد جواب شاف.
المحزن في الأمر واقعة الموت نفسها وما تتركه من وقع أليم في نفس أي كائن حي,والأشد إيلاما هو ما بدا طلبا,ورجاء, من الراحل نفسه لـ"وردة" اللبنانية كي توصل رسالته إلى هذا المكان أو ذاك,وهذا في حد ذاته مأساة كبرى تضاف لمأساة الموت الأولى حيث لا تستطيع دولة ,أو نظام من توصيل أية رسالة, لأي مكان,ولأي كان ,وتعجز من أن تجد من يستمع لها بعد عقود من ممارسات التعتيم والإغلاق والحصار.وبعد أن وقفت وزارة إعلام ,"بحالها",فيها وزير ,واثق من نفسه جدا, وذو حقيبة كاملة ,وله نواب,وصحف استنساخ,وفضائية فصيحة ,وجيش من الصحفيين,وطابور طويل من الكتاب, عاجزة من صد هذا الطوفان الإعلامي الهادر الذي يتناولها في مختلف وسائل الإعلام طباعيا, وفضائيا, وإليكترونيا ,وإنترنتيا . فما هي هذه القوة السحرية الكاسحة للإعلام التي يجعل جنرالا فولاذيا بحجم الوزير كنعان يضع فوهة المسدس في فمه ويطلق النار واضعا الحد لحياة حافلة بالكثير من الأحداث,وكله طبقا للرواية الرسمية؟
ومن مفارقات القدر المفجعة أن نظام الإغلاق والحصار الذي كان للجنرال الراحل ,اليد الطولى فيه , وبعضا من الفضل في حمايته وتوطيد أسسه,واتكريس لعقلية الأمنية التي ترتاب حتى من الهواء , كانا أحد الأسباب التي أدت إلى هذه النهاية المحزنة,وهذا ما جاء تلميحا وتصريحا في رسالته "الوصية",وشكا منها ,والتي أكد عليها أيضا الأستاذ فاروق الشرع وزير الخارجية في تصريح لافت ينحي فيه باللائمة على تجني وسائل الإعلام وافتراءاتها ظهر اليوم حيث قال لقد ساهمت بعض وسائل الإعلام في "اغتيال" اللواء كنعان (حسب تصريح الوزير الشرع الذي استدركه لاحقا),وشبّه الكلمة بالرصاصة ,تماما وبالحرف الواحد وذلك على هامش تشييع اللواء كنعان.
فلقد حالت العقلية الأمنية,والنظام الأمني دون الإفصاح عن أي شيء,وتقديمه للجمهور دون تزويق وطلاء, أو نشر أي جملة لا تمر عبر آلاف "الفلترات",واعتبار ذلك تهديد للأمن القومي ,وإفشاء أسرار الدولة للعدو ,ومحكمة أمن الدولة عندها بالانتظار .ولقد قامت سياسة وطن كاملة على التعتيم على كل شيء بحيث أصبحت إصابة "عضو قيادة فرقة " في قرية نائية بالصداع واحدا من أسرار أمن الدولة الهامة ,وأحيط بناء عليه رجال النظام بهالة من الغموض ,والسحر ,والمداراة,وكأنهم آلهة هابطة من أعالي السماء,وظل كل شيء حبيس الجدران العالية وحصون القرار.وقد بدأت هذه السياسة باالانهيار الكامل الآن ,وتتجه أكثر نحو الفضائحية والصفراوية بعد أن كان المطلوب منها أن تبقى وردية ,بل وحتى محاطة بهالة من القداسة,والقادم أعظم وأدهى من كل ما كان حتى الآن.وجاءت حادثة الانتحار لتنسف هذا السلوك العبثي برمته.ويبدو الآن أن كل هذا قد بدأ بالتداعي أمام المد الأفقي الطاغي لوسائل الإعلام المختلفة ,ولن تتمكن تلك البنى المتهالكة من وقف تقدم هذا الإعصار الإعلامي العاتي,وكبح جموحه الهدار.والسؤال:هل لو كان لدينا فضائية "مهنية",وإعلام حقيقي فعلا,إن لم نقل شيئا آخر, هل كنا بحاجة لتلك "الوردة" البيروتية لكي توصل تلك الرسائل البسيطة.
ألم يحن الوقت,بعد هذا البركان,وكل ما هو قادم من مفاجآت,والاستمرار الممل لهذا المخاض, لانطلاقة جديدة فيها الكثير من الشفافية والمكاشفة والمصارحة ,وتسمية الأشياء بأسمائها ,والتوجه بصدق ,والوقوف باحترام أمام عقول الرأي العام الذي تاه,وضاع في أسواق الإعلام,وتعويض كل ما فات .وصار من الضروري,بل من الواجب, استخدام سلاح الإعلام الأمضى في كل المواجهات بشكل حقيقي مهني وفعال, بدل الاعتماد على العرفاء والخفراء والشبيحة الذي بدا ,تماما,أن لا دور لهم على الإطلاق في هذا المعترك المحتدم ,وهذا الأوار.
إنه سلاح الإعلام يا..............أذكياء.
*العنوان مستمد من فيلم سوري شعبي ومحبوب.

 


 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com