طغت النهاية التراجيدية,والرحيل المفاجئ للواء غازي كنعان على كل ما عداه فيما يتعلق بالشأن السوري الطاغي على ساحة الأحداث, حيث مرت مناسبة هامة أمس دون أن تعطيها وسائل الإعلام حقها ,أوذاك الاهتمام المطلوب . وربما بدت المناسبة الأخرى,وبآن,امتدادا ونقيضا لها بشكل ما, وهي نيل الدكتور أكثم نعيسة جائزة مارتن إنالز لحقوق الإنسان وتكريمه في احتفال مهيب من قبل المفوضية العليا لحقوق الإنسان في جنيف.فهل من صدف القدر ,ومفارقاته العجيبة أن تطوى صفحة جنرال من جنرالات الأمن الذين تركوا بصمة على الساحة الأمنية السورية لوقت طويل,وفوز مناضل إنساني بارز نذر حياته,ولوقت طويل أيضا, خدمة للإنسانية ولحقوق الإنسان في بلده في نفس اليوم؟إنه مجرد سؤال"بريء".
وعلى أية حال ,فلم تضِع هباء وسدى سنين طويلة, قضاها الأستاذ أكثم ,نصير المظلومين,في السجون حيث كان مهددا في حياته في كل لحظة, وهو يقف أمام محفل دولي مرموق ليتسلم جائزة مارتن إنالز العالمية المرموقة من المفوضة السامية لحقوق الإنسان في جنيف .وهي نصر للكثير من السجناء والمعتقلين الذين أمضوا زمنا طويلا في السجون الثورية ليدفعوا ضريبة الحرية والكرامة التي عزّت في مهبط الحضارات ,وصارت سلعة نادرة بعد أن صدر السوريون الأوائل مشعلها الوقاد إلى أربع أطراف الأرض.وكانت لحظات مفعمة بالسرور والفرح والمجد العام ,وليس الشخصي, كون الأستاذ أكثم يختزل في شخصه الكريم مرحلة هامة من النضال لتحقيق هذا الحلم والهدف الهام الذي سينعكس بالإيجاب,وفي النهاية ,على الصالح العام.وهي بالتأكيد لا تخصه لوحده وإنما لكافة الشرفاء من أمثاله الذين رهنوا سعادتهم وحياتهم لمصلحة الشعب.ومن خلال معرفتي الوثيقة بالدكتور أكثم ,ماديا ومعنويا وخلقيا,فهو لم يقم بما قام به من تضحية لغايات وإرب مادية أو شخصية ,وكان الهم العام شغله الشاغل, ومحركه ,وفي ذهنه طوال الوقت.
ففي احتفال مهيب ,ولحظات لا تنسى من لحظات الزمان رصع اسمه ,واسم بلده ,واسم رفقائه الشرفاء بأحرف من نور ونار ,ونسي السيد نعيسة في تلك اللحظة ,وأسدل الستار على مرحلة مرعبة من الصراع والكفاح ,ولكن دون أن يلقي السلاح .وطوى كل تلك الليالي الطوال التي قضاها معتقلا في أقبية الثوار حماة الديار,حين كان يتقلب ألما ,ولوعة ,وفرقة للأحباب.,في تلك الأيام الثقيلة القاسية, عندما فارق والده المرحوم السفير السابق عز الدين نعيسة هذه الحياة الفانية ,دون أن يتمكن من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمانه الطاهر,وتشييعه إلى مثواه الأخير. وتعتبر هذه,وبحق, واحدة من إنجازات وفتوحات الثوار الكبيرة ,ونضالهم ضد الاستعمار والصهيونية.وفي ذلك ألم فوق الآلام ,وقهر فوق العذاب.وربما تتذكر جدران تلك الزنزانة الكئيبة كل تلك اللحظات,ولو كان لها لسان لتحدثت ,وربما,بأبلغ مما يقوله كل الكتاب والشعراء,ووحدها كانت تراقب ,وترى,وكانت الوحيدة رفيقة أكثم في ليل السجن الرهيب.
وقد أكد المحامي أكثم نعيسة في كلمته على أن (الديمقراطية هي الحصن الأول و الأخير في وجه الاستبداد و القمع و الإرهاب). و قد دعا المحامي أكثم نعيسة جميع القوى و الأفراد الذين يؤمنون بالديمقراطية للتوحد في وجه الاستبداد ,وقال :( إننا اليوم مدعوون للوقوف صفا واحدا في وجه الاستبداد مدعوون للترفع فوق جميع الأحقاد ).وكانت مناسبة طيبة للتذكير بالمعاناة الحقيقية ومأساة حقوق الإنسان في هذا الجزء من العالم.ودعوة صريحة لتكريس ,وتأسيس ثقافة وسلوك عام قائم على احترام ,وتحقيق ,وتعميم ثقافة حقوق الإنسان,في زمن تشتد القبضة الأمنية يوما بعد آخر,وتذوب فيه كل دعاوي الإصلاح.
وأرجو أن يتقبل الصديق والأخ الدكتور أكثم اعتذاري الشديد بسبب عدم قدرتي على تلبية دعوته إياي لحضور هذه المناسبة الغالية والنادرة حيث تلقيتها منه وبشكل شخصي ,وذلك بسبب ارتباطات العمل ,والالتزامات الأسرية والمادية الهائلة ,حيث أنه في اليوم الذي لا نعمل فيه ,وكغالبية أبناء شعبنا الطيب البار,لا نجد فيه,وبكل أسف, ما يسد رمقنا, فبعد سنوات من الضخ العقائدي الفضفاض, والحشو الفارغ عن اشتراكية الرفاق فقد أدرج اسماءنا ,وبكل شرف, في الإحصائية الأممية عن معدل الفقروالإفلاس الذي بلغ الثلاثين بالمائة فقط ,وشكرا لكل من ساهم في تحطيم كل هذه الأرقام القياسية,واحتلال مركز مرموق في موسوعات البؤس والإفلاس .فقد كتب علينا الرفاق الأشاوس أن نعمل من الصباح حتى المساء,ومن الولادة وحتى الممات فقط, لسد حاجاتنا الإنسانية البسيطة ,وليس لكي نركب الكاديلاك ,والشبح,والجاكوار ونأكل الكافيار, ولا سمح الله.وكُتب علينا ألا ننعم بشيء من متع هذه الحياة,وعلينا التسلح بالزهد الثوري, مثلنا مثل أبي ذر الغفاري تماما, ولكي نرقى لمستوى الصحبة والقديسين الطهراء وهذه هي الحكمة الثورية من كل هذا العك والعناء فلا تنخدعوا بأقوال المغرضين والأعداء, وكون تلك النشاطات كماليات برجوازية,والعياذ بالله, تتطلب الضرائب الباهظات ,ومحرم أيضا على الرعايا أن يعرفوا يوما ما هو الهناء ,فذلك كفر ,وزندقة إمبريالية فاسقة شنعاء,وحيث تصبح رؤية الأطفال وعصافير الجنة, والوالدين الأبرار كماليات ,ومنة,وعيدا وعطاء في بلد الثوار.
بكل الحب والتقدير والإعجاب,والتمنيات الصادقات, نتوجه بالمباركة الأخوية لنجم حقوق الإنسان السوري الأستاذ أكثم نعيسة ,ولكل الجنود الآخرين المجهولين في هذا المضمار وهي جائزة لجميع المناضلين والشرفاء,وإن اختصت باسم الأستاذ أكثم, ونهدي كلماتنا المتواضعة لكل من نذر نفسه,وسعادته,وحياته ,لهذه المهمة المقدسة,التي ,بالتأكيد لن تذهب هباء.