الأصولية ملاذ آمن للأغلبية العربية!

احسان طالب

m.h.taleb@mail.sy

http://ehsan-taleb.tk

تثير الحرب التي يشنها الأصوليون و القوميون على العملية السياسية الديمقراطية في العراق استغرابا ً بالغا ً و مؤشرا ً ينذر بعمق التغيير السلبي الارتدادي للمجتمعات العربية في مسيرتها نحو تأسيس دولة الحق و القانون دولة الحرية و حقوق الإنسان.

فلا بد من الوقوف أمام تلك الظاهرة و معرفة التراكبية الفكرية التي غدت تسيطر على فكر و حراك نسبة عالية من أفراد و أبناء العرب في بلدانهم المختلفة و من هنا نتساءل كيف غدا غالبية العراقيين من المتدينين المائلين إلى التعصب و التزمت يدلل على ذلك ما تم تأكيده في مسودة الدستور من بنود تكبل تطور القوانين و التشريعات بقيود الشريعة و المرجعية و لا يعني قولنا هذا أن مسودة الدستور العراقي لا تشكل تقدما ً بالغا ً نحو تأسيس قيم الحرية و حقوق الإنسان و دولة الحق و القانون القائمة على المساواة انطلاقا ً من مبدأ المواطنة المرتكز على الجنسية العراقية. لكن الطموح عادة ما يكون أكبر من الواقع بالرغم من أن الإنجاز جدير بالموافقة و التقدير.

لعله من الخطأ الفادح رد الرغبة الملحة في الدولة الدينية لدى أكثرية ٍ في العراق إلى مخططات أمريكية و مؤامرة غربية تحاك خيوطها في الخفاء و تنسج عباءتها تحت جنح الظلام في البنتاغون؟

 الظواهر في الطرقات و في الإعلام و الفضائيات و في لحى المذيعين و حجاب المذيعات. أكثر من ست فضائيات عراقية تنهج أسلوب الإعلام الديني الملتزم و أخريات لا تخرج عن الخط و لا تفتأ تغازل عواطف الالتزام و التحفظ. هذا الإعلام انعكاس لتطلعات ملايين المشاهدين الراغبين في المكوث ساعات خلف المواعظ و الدروس و الأدعية، انعكاس لطرائق في التفكير تجنح نحو العودة إلى الأصول و ترتيب البيت و المجتمع و الدولة كما كان يتم ذلك منذ ألف و أربعمئة عام.

التغيير يتطلب البدء بالعمل نحو إشاعة مفاهيم و قيم الحرية و حقوق الإنسان و مبادئ الديمقراطية في المناهج التربوية و التعليمية في المدارس و المعاهد ثم ينطلق نحو إعلام يتبنى تلك القيم و المفاهيم و يعمل على تأسيسها في المجتمعات من خلال دراسات منهجية تبين مواطن الخلل و تعالج ما ران على قلوب و عقول الناس من يأس و عجز و فقر بالغ في المعلومات و الانفتاح على المجتمعات الأكثر تحضرا ً و ديمقراطية ً.

إن الميل الدائم نحو الشك و الريبة من الخارج و الخشية المعششة في خيالنا الثقافي من الآخرين تجعلنا ننظر إلى واقعنا و مستقبلنا بطريقة ترتكز على اتهام الآخرين في نواياهم و أقوالهم و مشاريعهم و تدفعنا إلى التقوقع خلف الموروث و إظهار العدائية نحو ذلك الخارج الغريب عنا.

مما لا شك فيه أن المشروع الأمريكي في العراق و الشرق الأوسط الجديد يضع نصب عينيه مصالح الأمريكيين شعبا ً و دولة و لو فكروا بغير ذلك لكانوا أغبياء و لو صرحوا خلاف ذلك لكانوا كاذبين. فآلاف الضحايا و مئات المليارات لا تزهق فقط كرمى لعين الآخرين لكن حقيقة الأمر أنهم في كل مناسبة يؤكدون على مصلحتهم العليا في مكافحة الإرهاب و إقامة دول ديمقراطية تسعى نحو السلم و التعاون و بناء المجتمعات الحديثة التي تتراجع فيها النزعة الأصولية الطاردة و المقصية للآخر. وليس هناك شك في رغبة الدول الكبرى في بناء دول ذات صبغة رأسمالية تنشط فيها عجلة الاقتصاد الحر و المجتمع الاستهلاكي و تنخرط في مسيرة العولمة و تدور في محراك منظمة التجارة العالمية و نظم و قواعد البنك الدولي. و ليس في ذلك مشكلة أو أزمة طالما أننا نملك من الحرية و الإدارة في اختيار الطريقة و النهج الأنسب من أجل العمل على ترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية و إعادة الاعتبار للطبقات الفقيرة و المسحوقة في مجتمعاتنا العربية و التي كانت و ما زالت تحصد ثمار دعاوى محاربة الرأسمالية و الامبريالية و تدفع الأثمان لملء خزائن المتسلطين على مقدرات الشعوب في دول الأنظمة الشمولية التي ما زالت ترفع شعارات فارغة من مضمونها.

ليست مظاهر التدين الشائعة في غالبية المدن العربية و لا البنود الموحية بتأسيس دولة دينية و حكم رجال الدين في مسودة الدستور العراقي عائدة أو نتيجة للضغوط الخارجية بل على العكس تماما ً هي ناجمة عن ضغوط داخلية تشكلت عبر عقود من العزلة و الحصار على الفكر و العقل متزامنة مع القهر و الظلم و الاستبداد.

تلك المخاوف القديمة الراسخة دفعت بالأكثرية إلى تأييد تلك النتائج و لا يقع اللوم على الخارج بل على الغالبية التي تؤمن بتلك البنود و تضغط من الداخل بما ينسجم مع غرائزها و رغباتها و مجمل العناصر المكونة لتفكيرها و ثقافتها المنسجمة مع الدولة الدينية و حكم رجال الدين.

من جهة أخرى فالأمور ليست بهذا السوء أو تلك السوداوية، فانتقال المجتمعات و الأفراد للخروج من عقود طويلة من الاستبداد و الظلم و القهر و الرعب نحو الحرية و الديمقراطية سيمر بالتأكيد خلال مرحلة انتقالية تفرضها طبيعة الأشياء  و مراحل تطور المجتمعات الطبيعية و بالنظر إلى المكونات العمرية لأبناء الشعب العراقي نجد الغالبية العظمى ولدت و نشأت و ترعرعت في أجواء الدكتاتورية و الظلم و لم تنفتح إلا على ثقافة تمجيد الماضي و تقديس الموروث إلى جانب تأليه الدكتاتور إلى جانب تلقي تعليم ٍ و دراسة ٍ محبوكة سعت بصرامة للتأكيد على أيديولوجية قومية مشوهة ثم دينية خاضعة تختزل الكون و الأمم و العالم في أمة موهومة و تختزل الأمة في فرد مؤله و قائد أبدي.

لذلك كان من الطبيعي أن تهرب أغلبية العراقيين نحو الفكر الديني كملاذ آمن قريب من تفكيرها و سلوكها و كلما ترسخت ممارسات الحرية و الديمقراطية و بنود الدستور المؤسسة للحريات الفردية و العامة و قيم دولة القانون و المواطنة ستتحول المجتمعات تدريجيا ً نحو الانفتاح و قيم التحرر و العدالة و المساواة.

تتأثر المجتمعات العربية عموما ً بتوجهات نظمها الحاكمة و تسير تدريجيا ً نحو المزا لق التي تسنها لها من حيث لا تدري و تغدو تلك المجتمعات تفكر و تعمل و تتحرك وفق أجندة أعدها الحاكم بما ينسجم مع ترسيخ سلطته و احتكاره للسياسة و الاقتصاد تلك الظاهرة المحيرة تتطلب مزيدا ً من البحث و التقصي و كإسهام في هذا البحث يمكن رد تلك الظاهرة إلى موروثات قبلية ما زالت حية و بداوة ما فتأت تسيطر على طرائق التفكير و مناهج العمل عززها و رسخها تراث أصولي جعل طاعة ولي الأمر من طاعة الله و بذلك لم تأسس العلاقة بين الحاكم و المحكوم على أسس دنيوية قابلة للخطأ و الصواب و التعديل و التصحيح بحيث أخرجت كل النظم السياسية التي عرفها الآخرون و نظموا من خلالها عقود علاقة الدولة بالحاكم و الشعب بأنظمة الحكم. فالعصمة للولي الفقيه و الطاعة للولي الحاكم أمران راسخان و مؤيدان بالنقول و النصوص و قديما ً كان الخليفة و الأمير سيف الله و سوطه في الأرض ثم غدا الرئيس و القائد العام بديلا ً عصريا ً عنهما.

إن عقودا ً طويلة من تحكم أنظمة شمولية كانت في ظاهرها علمانية اقترنت في ذاكرة الأجيال بالظلم و الفساد و الطائفية و القهر و القتل الفردي و الجماعي ساهمت إلى حد بالغ في نفور مكونات شعوب الدول العربية من تلك التجربة المريرة التي صبغت بالعلمانية مما حدا بتلك الشعوب إلى الانكفاء نحو الأصولية كملاذ آمن يخلصها من براثن التجربة السابقة التي اقترنت في ذاكرتها بالعلمانية.

هذا إلى جانب العديد من المؤثرات التاريخية التي ربطت انهزاميات و انكسارات العرب بالغرب فالشريحة الأكبر من أبناء الدول العربية التي تشكل غالبية السكان الآن ارتبط تاريخها بذكرى الهزائم المتكررة و المتتالية في صراعها مع العدو الذي يدعمه الغرب دائما ً هذا الغرب الذي قام على حضارة تعد في مفهومنا الشعبي خارجة ً عن قيمنا و مبادئنا الأصولية لذلك ناصبناه العداء و ما زلنا نرفض ما يطرحه علينا من حلول لأزماتنا المتفاقمة و أوضاعنا المتردية و بالرغم من الشعور الواضح بالقهر و الظلم و المعاناة من التخلف فأننا ننظر بعين الشك و الريبة إزاء ما يثار حولنا من قيم الحرية و الديمقراطية.

إن نشوء نظم ديمقراطية حديثة قادر على إحداث قناعة جديدة و إزالة مخاوف قديمة إذا ما اقترن باختلاف جوهري على أرض الواقع يغير صورة الظلم و الاستبداد التي كانت سائدة كما أنه قادر على ترسيخ قيم جديدة تحل تدريجيا ً محل قناعات قديمة كانت و لا زالت تحارب التحرر و الانفتاح على خلفية الخشية من الوقوع ثانية في فخ النظم العلمانية المزعومة التي سادت في بعض الدول العربية و ما زالت سائدة في دول أخرى.

و للحديث بقية...         

         

 


 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com