هادي فريد التكريتي
hadifarid@maktoob.com
في العام 1917 ، عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى ، و سقوط الدولة العثمانية ، ظهرت على الخريطة السياسية العالمية ، دولة العمال والفلاحين ، على أنقاض دولة روسيا القيصرية ، ذات نهج تحرري ، مخاطبة شعوب العالم ، وبالذات شعوب الشرق ، بالتحرر والخلاص من ربقة الاستعمار وهيمنته ، وقد دعمت ثورة أكتوبر الشعوب المناضلة من اجل حريتها واستقلالها ، وأقامت علاقات مع أحزابها الوطنية والديموقراطية التي كانت في بداية تشكليها ، وأقدمت على فضح المعاهدات والاتفاقيات السرية التي أبرمتها الدول الاستعمارية ، آنذاك ، فيما بينها لتقسيم العالم ، وخصوصا المشرق العربي . وقد تمخضت فترة الحرب العالمية الأولى ، عن ثورات وطنية مطالبة بالجلاء والاستقلال ، كما حدثت في مصر وسوريا والعراق ضد الأنكليز والفرنسيين ، تشكلت جراءها حكومات شبه مستقلة بواجهات وطنية ، شرعت دساتير ضمنت بعض الحريات للشعب ولقواه السياسية في تشكيل أحزاب ونقابات وجمعيات ، طالبت هذه القوى بالحرية الكاملة ، والاستقلال الناجز ، بجلاء القوات الأجنبية وإلغاء المعاهدات الثنائية الجائرة ، التي ُعقدت في ظروف غير متكافئة ، بين قوات احتلال غازية وحكومات صنيعة لا شرعية لها .
إن دخول القوات البريطانية إلى العراق واحتلال أرضه وتقييد شعبه بمعاهدات واتفاقات جائرة ، لم يكن بهدف تحرير الشعب العراقي من الحكم العثماني ، الذي أذل العالم العربي بجوره وظلمه ، ولم تكن الغاية منه تأسيس حكم دستوري ، يمنح الحرية والديموقراطية للشعب العراقي ، إنما كان للسيطرة على منطقة استراتيجية مهمة ، اقتصاديا وجغرافيا وسياسيا ، تؤمن حماية خطوط المواصلات ، كما تؤمن الطاقة والغذاء لقوات صاحبة الجلالة البريطانية المسيطرة على العالم آنذاك كله ، وما كانت تفكر بريطانيا وقياداتها العسكرية المحتلة بمصالح العراق وشعبه ، لذلك فإنجازاتها في العراق ـ إن كانت هناك إنجازات بالمعنى الدقيق ـ كانت تحصيل حاصل لما كانت تحتاجه قواتها العسكرية من خدمات لخطوط مواصلاتها ، البرية والبحري والجوية ، وتأمين مصالحها في مستعمراتها التي لا تغرب عنها الشمس ، وشعار الحملة البريطانية على العراق كان جئنا \" محررين لا فاتحين \" الذي صدقه البعض من قادة العراق الجدد من المتعاونين مع بريطانيا ، وحاولوا إيهام الشعب العراقي بمصداقيته .! كان مضللا ولم يكن حقيقيا ، فبريطانيا ، حكومة وشعبا ، كانت تمارس حكما ديموقراطيا على كل الصعد ، داخل أراضيها ولشعبها ، أما في داخل مستعمراتها فكانت تمارس التمييز والقهر والاستغلال ، فالعراق لم يجن من الحكم البريطاني سوى إفقارا لشعبه ونهبا لخيراته وسلبا لحرياته ، فبدلا من بناء المدارس والجامعات ، شيدت الإدارة البريطانية السجون والمعتقلات حماية لقواتها ، وتقييدا لحرية المواطنين وطلائع الشعب الوطنيين المناهضين للاحتلال ، فسجن نقرة السلمان الصحراوي ، كان وسيبقى شاهدا على زيف الحرية والديموقراطية التي حملتها قوات الاحتلال للعراق ، وما تحقق للعراق من حريات نسبية ، وتأسيس مدارس وكليات ، وإيفاد الدارسين للخارج ، وإنشاء بعض المصانع والمعامل وورش العمل ، أغلبها ، كانت جهودا وطنية خالصة ، ونتيجة لنضال الشعب العراقي طيلة الحكم الوطني ، فالمستشارون السياسيون البريطانيون ، الممثلين لقوات الاحتلال ، في كل وزارة ومؤسسة عراقية ، كانت تعرقل كل مسعى طموح يحقق تقدما أو يخلق ظرفا افضل لتقدم ورفاه الشعب ، ومن هذا المنطلق مارس الوطنيون العراقيون ، نضالا على كل المستويات ، من أجل إسقاط النظام الملكي صنيعة الاحتلال المعادي لطموحات وأماني الشعب ، فكانت أغلب قيادات الحركة السياسية ، الوطنية والديموقراطية ، والنخب الثقافية ، مقتنعة أن الحرية والديموقراطية لا تمنح من قبل محتل أو حاكم ، مهما كانت مسوغات ادعاءاته ، كما لا يمكن أن تفرضها ، أو تحققها ، قوى خارجية مهما كانت قدرتها وقوة باسها ، إنما ، الحرية ، والمساواة ، بين المواطنين ، ومساواة المرأة بالرجل ، وعموم الحقوق الديموقراطية ، يتم انتزاعها عبر النضال السياسي والمطلبي الدؤوب . وتدريب الجماهير الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقة في الدفاع عنها والتمتع بها عند تحقيقها .وللاحتفاظ بهذه الحقوق وديمومتها ، ضرورة ممارستها في كل مجالات الحياة وميادينها ، البيت ، المدرسة ، ومكان العمل ، . إن إشاعة التعليم في كل مراحله ، ضرورة وحق لكل مواطن ، من أجل تعميق وعيه الوطني بالقضايا الوطنية والديموقراطية والسياسية ، وتمتعه بحريته وفق دستور تضمنه الدولة ، بتشريع قوانين مقيدة ومحددة لتجاوزات السلطة التنفيذية على الفرد ومؤسسات المجتمع المدني ، الرقيب والمدافع عن الحقوق العامة والخاصة بالمواطن والوطن .
فالمحتل البريطاني ، للعراق منذ العام 1914 وحتى نهاية الملكية المرتبطة به في العام 1958، لم يحقق شعاره المضلل \" محررين لا فاتحين \" بل حقق المصالح الاستعمارية ، وكذلك هو الحال بالنسبة للشعارات التي رفعتها الإدارة الأمريكية ، عند إعلان حربها على العراق واحتلالها له ، كانت كلها زائفة ، بدء من \" أسلحة الدمار الشامل \" ومرورا ب \" الحرب على الإرهاب \"وانتهاء ب \" ديموقراطية العراق \" النموذج الأمريكي المقبل لكل \" منطقة الشرق الوسط \" فالهدف الحقيقي هو تحقيق المصالح الأمريكية بالدرجة الأولى ، وكل حديث عن الديموقراطية وحقوق الإنسان ضمن المواصفات الأمريكية نسج من الخيال ، وإلا كيف نفسر تشريع إدارة بريمر لقانون \" إدارة الدولة \" ضمن المواصفات الطائفية والمحاصصة العنصرية ، المناقضة كليا لكل توجه ديموقراطي .! وماذا ننتظر من تشريع مسودة الدستور الجديد غير التشردم والتجزأة والتوجه نحو بدايات حكم إسلامي ـ طائفي . ؟ فعلى الرغم من أن قانون إدارة الدولة ، كان قد شرع لفرقة طائفية وعنصرية ، ينتهي مفعولها بانتهاء مفعوله في إقرار دستور جديد بعد حكم انتقالي قصير ومؤقت ، فإن مسودة الدستور الجديد ، المصاغة وفق المخطط والفهم الأمريكي لمصالحه ، قد كرست الطائفية والعنصرية بشكل دائم وهذا بعيد كل البعد عن الديموقراطية ومفاهيمها ، ووضعت ألغاما ، تتفجر تحت أقدام العراقيين في كل منعطف وحارة ، وشرعت الأساس لاضطهاد طائفي مقبل في الكثير من أبوابها وموادها ، وتحقق الديكتاتورية للولي الفقيه ، ورسمت المستقبل لقيام دويلات هزيلة عنصرية وطائفية متناحرة ، تسهل المهمة على المحتل ، الأمريكي ، لأن ينفرد بفرض تواجده في مناطق وأزمان هو يختارها ولعشرات من السنين القادمة ، ستؤثر على عموم منطقة الشرق الأوسط ، تحقق له الهدف والغاية التي جاء من أجلها .! فأمريكا لا يهمها من يحكم بل ما يهمها هو تحقيق مصالحها ، وعراق بهذه الخريطة غاية الطموح في تحقيق مكاسب لها ، أفلا يشكل الواقع العراقي ، المتسم بهذه خطورة ، خطرا قادما على باقي البلدان العربية وقواها السياسية وخاصة الديموقراطية واليسارية ؟! وألا يثير هذا الوضع أمام القوى السياسية في العالم العربي قضية جديرة بالبحث والمناقشة عن أساليب جديدة ، لنضال كل بلد على حدة أولا ، وثانيا على عموم العالم العربي ؟ .
تتعقد مهام القوى الوطنية والقومية في العالم العربي بشكل عام ، واليسارية والديموقراطية بشكل خاص ، في نضالها من أجل إصلاح أوضاع بلدانها السياسية والديموقراطية ، وفي تنفيذ برامجها الوطنية والاجتماعية من أجل حياة أفضل لشعوبها ، ضمن واقع مربك ومعيق ، ليس لنشاطاتها الجماهيرية فقط بل لما يعتري مواقفها من تناقض وتذبذب ، وعدم وضوح رؤيا ، وعدم فهم لسياسات ومواقف حكوماتهم المعادية للديموقراطية والحرية ، السياسية والاقتصادية ، فالاصطفاف مع السلطة في قمعها وتسلطها والانجرار خلفها ، بحجة التدخل الأمريكي في الشأن الوطني ، يبعد هذه القوى عن جماهيرها ويزيد من عزلتها ، وللخروج من تبعة تحمل مسؤولية سياسة السلطة ، يتوجب على هذه القوى إعادة تقييم مواقفها من العراق والشعب العراقي ، بعد سقوط النظام البعثفاشي ، ومعالجة ما يعتبرونه ( مقاومة للاحتلال ) ، ظاهرة الإرهاب التي تسود العراق حاليا ، ضمن علاقات التضامن مع الشعب العراقي ، وإدراك الوضع المأساوي لمستقبل العراق ، وهذا ما يتطلب عقد لقاءات مع القوى الوطنية والديموقراطية واليسارية العراقية ، للخروج بموقف موحد يعالج المواقف المختلف عليها ، ومن ضمنها الموقف من القوات الأمريكية والأجنبية في العراق ، إن لم تتدخل القوى الوطنية والديموقراطية واليسارية العربية في ما يجري بالعراق من إرهاب ، ومحاربتها له ، بالضغط على حكوماتها للوقوف بشكل جدي وحازم إلى جانب الشعب العراقي ، فالإرهاب قادم لا محالة إليهم ، أولا نتيجة لسياسات هذه الحكومات وما تضعه بيد الإرهاب من إمكانيات تستدعي التدخل الأمريكي لا محالة ، وثانيا على القوى السياسية العربية أن تتذكر عودة الأفغان العرب بعد سقوط أفغانستان وانتشارهم في الكثير من البلدان ، وما مارسوه من قتل وتقتيل لأبناء الشعب الجزائري والمصري وفي اليمن ولبنان بعضا منه ، فإن انتهت مهامهم في العراق فإلى أين سيتوجهون ؟ إن بقيت الحال على ما هي عليه في العراق وفي الكثير من البلدان العربية ، فلن يفسح في المجال لكل القوى السياسية ، على مختلف توجهاتها الفكرية ، للعمل بحرية لتنفيذ برامجها السياسية والاجتماعية ، ولن تفوز سوى الحكومات التي تضحي بكل مصالح شعوبها من أجل أن تبقى تمارس القهر والطغيان ، وتنفذ لأمريكا خانعة ومطيعة كل ما يطلب منها ، ولن تخسر سوى القوى المناضلة لرفاهية الإنسان والمناهضة لكل ظلم وطغيان ، وفي ظل مثل هذه الأنظمة الذليلة والمتخلفة ، يصعب الحديث آنذاك عن أوضاع ديموقراطية وقيم حضارية وحقوق إنسان .
فالنضال من أجل إشاعة الديموقراطية في المجتمع ، و التمتع بدستور يضمن حرية الرأي والعقيدة والتنظيم السياسي والمهني ، وإشاعة منظمات المجتمع المدني ، وإجراء انتخابات برلمانية حرة ونزيهة ، على أساس البرنامج لكل حزب أو منظمة ، ومن دون زج الدين في الشأن السياسي العام ، كفيل بأن يضع المواطن أمام خياراته التي يراها في الفئة أو الشخص الذي يحقق طموحاته ، وآنئذ لن يصل إلى قبة البرلمان من هو غير جدير بتمثيل المواطن ، وطالما كانت الديموقراطية هي الحكم ، السائدة من دون إكراه أو تزوير ، فلا ضير أن يصل من يصل ، ولا خوف إن كان من تيار إسلامي أو غيره ، طالما يكون مؤمنا بتداول السلطة وسيادة القانون ، ومتمتعا بثقة المواطن ، ويسعى لإشاعة مظاهر التحضر والرفاهية في المجتمع .
تتحسن أوضاع شعوبنا إذا تحسنت مجمل أوضاع البلدان العربية، وهي بحاجة ماسة لإصلاح حقيقي في أنظمتها السياسية ، والبداية من رأس السلطة ، فمن يقفز إلى السلطة ، نتيجة لانقلاب سياسي.! أو عسكري يحاول أن يبقى في السلطة ، هو شلته ، حتى آخر لحظة من حياته ، وهذا يشمل كل الحكام العرب ، دون استثناء ، وهذا نتاج تخلف فكري وحضاري ، وعدم إيمان بالمواطن وقدراته ، اعتقادا من هؤلاء الحكام ، أنهم خير ما أنتج الشعب والمجتمع ، وإن هؤلاء الرؤساء أو الحكام ، لم تلد غيرهم ولادات شعوبهم ، فعليهم أن يتموا الإحسان لشعوبهم ، حتى يهيأ الله لهم من لدنه بديلا..! فالرئيس يعدل الدستور من أجل تمديد ولايته ، ليس لمرة أو مرتين بل لمرات ، لماذا ؟ لأن الشعب متمسك به ! زورا وبهتانا ، ,وإن بلغ من العمر عتيا ، أو عجل الله برحيله ، عُدل الدستور لصالح ولده المراهق ! وإن طولب هذا الحاكم بتعديل الدستور للصالح العام انبرت أصوات الردح معارضة ، فخصوصية البلد لا تسمح ، فما هي خصوصية البلد في تعديل قيد على مرشح الرئاسة ، مثلا ،الذي فرضها الحاكم الواحد الأحد .؟ فالعرب نشأوا وتربوا على حب وعشق القديم الموغل في قدمه ، وهذا سبب من أسباب انحطاطنا وتأخرنا ، فالإصلاح السياسي هو ما يجدد المجتمع ومؤسساته ، وهذا ما نحتاجه في كل مؤسساتنا ، وهو ما يجب أن يتم وفق الحاجات الضرورية والموضوعية لحياة المواطنين دائما وباضطراد ، وفق التطور الزمني وما تمليه الحاجة لذلك ، وهذا ما تمارسه كل أنظمة الدول الديموقراطية ، إلا حكوماتنا ، فهي تجري \" إصلاحا \" ولكن بالمقلوب ، أي بما يقف حجر عثرة أمام تطور المجتمع وتقدمه ، ونتيجة لهذه \"الإصلاحات \" نفقد تطور العشرات بل المئات من السنين ، نحل بديلا لها التخلف ونورث مجتمعاتنا الانحطاط ، بحجة خصوصية المجتمع ، وعدم تقبله للجديد ، من قيم حضارية ومدنية تسود مجتمعات راقية ومتقدمة ، لذلك فأنظمتنا بحاجة لمن يجبرها على الصلاح والإصلاح ، وليس مثل الثورات ما يحقق هذا .! ولكن أين هي هذه الثورات ؟ فقد اندثرت وتلاشت وحل بديلها القطب الأمريكي الواحد ، وهذا لن يرضى إلا بديموقراطية الاحتلال ، كما هو واقع في العراق..!
14 تشرين أول 2005