أزمة الماركسية العربية وفخ الصراع الديني

 

 

مهند صلاحات / كاتب فلسطيني مقيم بالأردن

salahatm@hotmail.com

يعاني اليسار العربي بشكل عام والتيار الماركسي تحديداً من عدد من الأزمات الفكرية منذ نشأته الأولى في المجتمعات العربية والتي لم تكن البيئة الخصبة لنشأته، أو البيئة كاملة الظروف التاريخية والإجتماعية لنشأته كالتي رافقت ظروف نشأته الأولى في أوروبا فصعد وفرض نفسه بسرعة فائقة، وبدأت هذه الأزمات تطور في داخل التيار اليساري بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي الذي عكس إنهياره أزمة لليسار العالمي ككل، وأخذت هذه الأزمات تأخذ أشكالاً متنوعة إنعكست سلباً على الماركسيين العرب في فهم ماهية الماركسية من ناحية، ومن ناحية أخرى على طريقة تطبيقها وكيفية دخولها وإدخالها للمجتمعات و على كيفية جعلها فاعلة في عملية التغيير الإجتماعي الذي يترافق كما قال ماركس مع عملية التغير الإقتصادي.

ومن أشكال أزمات الماركسية العربية التي وقعت فيها، مسألة النقد الديني الذي أخذ في بعض مستوياته الطابع العدائي للدين، وكما هو معروف ضمناً بأن الماركسية هي منهجية علمانية تبدأ مما بعد الدين، فهذا بالفعل يوقع الماركسيين بإشكالية التناقض من حيث نقض ما سبق، فالماركسيون يعرفون بالتيار التقدمي والذي يسعى للتغير المستقبلي دوماً، ولكن سوء فهم هذه النظرة لدى البعض منهم جعلهم ينصبون في نقض أثار وتاريخ الواقع الحالي ومعتقداته.

 البعض من الماركسيين وقع بمأزق عدم وعي مرحلة اليسار الحقيقي، فشرعوا ينظرون للماركسية نفسها كما ينظر لها الآخرون سواء من الأبعاد الدينية أو الرأسمالية، فوقع بخطأ تحليل الإسلاميين للماركسية التي يشاع فهمهم عنها بأنهم تقوم على أساس فكرة " لا إله والحياة مادة" كمقدمة للكفر والإلحاد، على الرغم من أننا لو رجعنا لكل الكتب الماركسية بشروحاتها لن نجد لهذه العبارة أصل واقعي، لأن ذات الماركسية لم تأت لتنقض الدين، بل بدأت من بعده وبالذات بعد مرحلة الصراع الدامي بين البرجوازيات الرأسمالية والإقطاع والكنيسة،فهي نقيض الدين من حيث التشكيل والنشأة والموضوع، لا نقيض عدائي، فالماركسية إنطلقت لتصلح الواقع الذي بين أيديها وغدا حتى المفهوم الفكري لدى الماركسيين هو أن الفكر الماركسي كأيدولوجيا ظهر بكل جوانبه لفرض نفسه على الواقع لإحداث حالة التغيير اللازمة كرد فعل على ظهور البرجوازيات التي إنتصرت على المنظومة الاقطاعية والدينية في أوروبا، وكان الطرح المادي مبني على أساس التحليل العلمي أولاً وأخيراً لمجريات الحياة وعلى أسس العدالة والمساواة، لذلك نوه المفكر اللبناني الماركسي حسين مروة إلى مسألة وقوع الماركسيون العرب بسوء فهم لهذا المنطق الفكري ودعا الماركسيين إلى عدم التصدي أو الهجوم على الدين أو محاولة نقده منطلقاً من الثورة العلمانية التي تسببت بإخراج كل أوروبا من غيبوبتها وظلاميتها إلى مرحلة النهضة في القرن السابع والثامن عشر الميلادي، وكان هذا من أهم أسباب نجاح الحزب الشيوعي اللبناني الذي لم يتصدى للدين كونه دين وإنما تصدى لمسألة التشتت التي أوجدها التنوع الديني بالمجتمع موجداً ما يعرف بالحالة الطائفية فكانت معظم كتب الحزب ومفكريه من أمثال المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل في نقض الطائفية ذاتها والدولة الطائفية.

فإن عدنا للبيان الشيوعي نفسه الذي كتبه كارل ماركس وفريدرك إنجلز في محاولة لتحليل وتفنيد ما ذكرته سابقاً حيث يبدأ البيان الشيوعي بهذه العبارة : "إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية" ما يعني أن التحليل الماركسي لا يؤمن أصلاً بفكرة صراع الحضارات أو الصراع الديني الفكري، بل ينطلق من مبدأ صراع الطبقات المتفاوتة، وهذا ما يدلل على أن الماركسية بدأت فعلاً متجاوزة فترة الصراع مع الدين بشكل مباشر، وتركت مهمة هذا الصراع للرأسمالية نفسها التي هي في الأصل تقوم على مبدأ إلغاء الاخر كما الدين فتصتدم الرأسمالية مع الدين بعدائيتهما للأخر وكلاهما في الأصل نقيض للأخر فيعني هذا التضاد نشوء الصراع ضمناً .

 وإن بحثنا أكثر حول محور ذات الفكرة نجد أن الماركسية تبدأ من مرحلة إنتهاء الصراع الرأسمالي الديني أو كما أسماه البيان الشيوعي " البرجوازي الإقطاعي " لتبدأ بعده مرحلة الصراع الطبقي بين البرجوازية والبوليتاريا وهذا ما يفصله النص التالي من البيان " و المجتمع البرجوازي العصري، الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي، لم يلغ التناحرات الطبقية، بل أحل فقط محل الطبقات القديمة طبقات جديدة، و حالات اضطهاد جديدة، و أشكالا جديدة للنضال.

غير أن عصرنا، عصر البرجوازية، يتميز بتبسيطه التناحرات الطبقية. فالمجتمع كله ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين كبيرين متعاديين، إلى طبقتين كبيرتين متجابهتين مباشرة: البرجوازية و البروليتاريا.

ومن خلال هذا النص إتضح جلياً مدى الفكرة التي إنطلق منها ماركس وإنجلز وجاء من بعدهم مفكري الماركسية كلينين وماو لإخراج النظرية من طور النظرية إلى أرض الواقع، ولو أخذنا مثلاً التجربة اللينينية مثالاً على توضيح فكرة الإشكالية الدينية ، نجد أن لينين رغم عراقة الكنيسة الارثوذكسية في روسيا إلا أنه لم يصتدم فيها بشكل مباشر بل تجاوزها وإستطاع أن يوصل الشعب الروسي بأكمله لتجاوز الكنيسة دون الإصتدام بها، وهذا ما فسر عودة الكثيرون من الروس للكنيسة ذاتها وإزدهارها من جديد بعد تفكك جمهوريات الإتحاد السوفيتي.

 بإختصار أن النقد الديني ومرحلة الثورة على الدين ليست من لبْ الفكرة الماركسية رغم تعارض الفكرتين، فالأولى الدينية تقوم على أساس النقل الديني والكتاب والتشريع والثانية تقوم على أسس فكرية علمية منطلقة من منطلق الإشتراكية العلمية، وهذا ما على الماركسيون العرب أن يعوه، والذين هم في الوقت الحالي يقفون بخط المواجهة مع الحركات الدينية وفلسفتها غير مبالين أو واعين لأساس مهمتهم التي حددها الفكر الماركسي لهم والتي تبدأ من دخول المجتمع من أبوابه لا صنع حلقات فراغ بينها وبينه على شاكلة ما يحدث الأن في المجتمعات العربية، فالأصل أن الحركات الأسلامية والدينية والقوى الإقطاعية بشكل عام كما يقول ماركس قد تحالفت جميعها في التصدي للقوة الشيوعية التي فرضت نفسها وليس العكس، فيقول البيان الشيوعي في مقدمته : " شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدت في حلف مقدس قوى أوروبا القديمة كلها : البابا و القيصر، مترنيخ و غيزو، الراديكاليون الفرنسيون و البوليس الألماني. "

 بمعنى أن القوى الإقطاعية والرجعية كما يصفها ماركس قد إتحدت في حلف واحد ولا يزال هذا الحلف يتجدد في سبيل التصدي للشيوعية التي تتسع وليس العكس، ولكن الماركسيون العرب فهموا الفكرة معكوسة فشرعوا بتبني العديد من الأبحاث والدراسات لبعض الباحثين في أصول الأديان ونقضها وفتحوا باب معركة مع القوى الرجعية والإقطاعية والدينية، على الرغم من أن العديد من الدراسات التي تبناها هؤلاء الماركسيون العرب لا تمثل مذهب فكري أو أيدولوجي محدد بل تعكس شخصية الباحث أو المفكر نفسه.

إذا فالماركسيون يعانون في الوقت الحالي من سوء تقدير للحالة فإستبقوا الحدث والمرحلة، فبدلاً من إنتظار مرحلة الإصتدام الديني الرأسمالي شرعوا نيابة عن الرأسمالية بهذا الصدام فاوقعهم بين عدوين تسببا في إخفاقهم أولاً كماركسيين في مجتمع عربي، وفي هلاك الفكرة الإشتراكية وتخلخلها في هذه المجتمعات، وهي كانت بالأصل مسألة توريط من قبل الرأسمالين الذين تجنبوا دخول المعركة بشكل مباشر فورطوا فيها الماركسيين على شاكلة توريط الأمريكان الإتحاد السوفيتي السابق في دخول أفغانستان.

 إستباق الماركسيون المرحلة والنقد الديني ساعد في إفشال نظرية دخول المجتمع الماركسية لأنهم لم يعوا بعد بأن المنطقة العربية تعاني من سلسلة ضخمة من الأزمات، وهي بشكلها الحالي أشبه ما تكون أوروبا في مرحلة العصور الوسطى، لذلك فهم بدلاً من الإستعداد لما بعد مرحلة الثورة البرجوازية على الدين والإقطاع والرجعية دخلوا المعركة بدلاً عن البرجوازية فخسروها قبل أن يبدأوها وأخفقوا إخفاقاً ذريعاً، لأن الرأسمالية بأدواتها من سياسية السوق وغيرها الأقدر على المواجهة مع التيار الديني والإقطاعي من الإشتراكيين.

 يجب أن يعي الماركسيون أكثر أنهم قد إستبقوا مرحلة الصدام، وأن عليهم التريث والإنتظار فمهمتهم هي التصدي للرأسمالية وليس للدين، فالصدام الرأسمالي الديني هو من صالحهم أولاً وأخيراً، وليس من صالحهم أبداً أن يقع بين الاثنين، حتى يعيدوا صفوفهم من جديد بعد إخفاقهم الكبير.

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com