لو حاولنا تقديم توصيف لمفهوم الحرس القديم فهو ,مع الاختزال,تلك الطبقة السياسية التي تراكمت زمنيا,كما ونوعا,وضربت جذورها في أرجاء الساحة السورية ,وجيرتها لمصلحة ديمومتها ,وتمثلت بنمطية ملحوظة تعارض أي شكل من أشكال التغيير يمكن أن يسهم بتقليص نفوذها الأخطبوطي,والمقاومة الحثيثة لأية محاولة للتجديد.وإذا كان بناء هذا اللوبي الضاغط قد استغرق كل تلك العقود الثقيلة لبنة فوق لبنة,فيبدو أن تفكيكه,دفعة واحدة, لن يأخذ كل تلك الفترة والجهد المأمولين.
ويرتاب كثيرون في الطريقة الدراماتيكية التي اختفى فيها الحاكم بأمره السابق في عنجر,ولا ينظرون لها إلا ضمن تلك التي تدخل في إطار التصفيات السياسية التي تزيح عقبات كأداء عن السطح, لتسهيل التقدم باتجاه هدف آخر مرسوم في خيال محركي المشهد السياسي برمته من وراء الستار.بينما تصر الجهات الرسمية على روايتها القابلة للتصديق حتى الآن,طالما أنه لا يوجد أي مصدر آخر يمكن أن تُستقى منه المعلومات.وتعود السوريون رغما عنهم ,وحمدا لله, دائما على هذا الخيار "الجبري",بغض النظر عن مصداقيته أم لا. وشكّل خروج الرجل بهذا الشكل الصاعق هزة عميقة ,ومحرجة معا ,برغم المحاولة اليائسة للنظام للظهور بمظهر المتوازن والمتماسك ,وهو الذي لم يتعود على مفاجآت من هذا العيار الثقيل جدا. واعتبر محاولة لمناورة أخيرة لكسب المزيد من الوقت الذي ينفذ سريعا أمام "ناطور متربص" ومستعد لإعلان انتهاء "الوقت الأصلي" للعبة ,وأما الوقت "المستقطع" والإضافي, الذي سيمنح في نهاية هذا الشوط المثير, فهو من شأن "حكم المباراة" الذي سيحسبه وفقا لما يراه.ولكن, وفي مطلق الأحوال ,ستنتهي اللعبة بعد زمن ما.
وبكل الأحوال,وبعيدا عن هذه,وتلك ,فلقد كان "الغائب المثير" ,ولثلاثة عقود تقريبا ,واحدا من أهل البيت,ومن أعمدة السلطة الكبارPillars of Power.وصنف دائما في خانة الحرس القديم الذي ساهم في بقاء النظام,حيا يرزق ,وعلى قيد الحياة.وحلقة مفصلية في النظام الأمني محكم الإغلاق.وإن غيابه سيشكل فراغا كبيرا في هذه المفصلية.فلقد استمرأ النظام السوري,بالفعل, اللعبة الأمنية,واعتبرها الخيار الوحيد المتاح أمامه للتعامل السهل مع مختلف الخيارات المطروحة على الساحة السورية الحبلى بشتى أنواع التعقيدات,وهذا ما زاد من تأزيم الأوضاع, ودفعها نحو مزيد من الاحتقان الذي سيؤذن بانفجارات ما,وغير محسوبة.وقد أصبح من الصعب عليه ,وبعد تاريخ طويل من هذه الممارسات ,أن يتقن أي خيار آخر.ومن هنا برز نجوم الساحة من جنرالات الأمن على الساحة السورية,وكان كنعان واحدا منهم, بدل رجال السياسة ,والمجتمع المدني,وتحكموا بمفاصل الحياة سياسيا,واقتصاديا,واجتماعيا,وفكريا ,وإعلاميا,وصاروا المرجع الروحي للنظام الأمني حتى في تعيين بواب,أو حارس لمدرسة ابتدائية في قرية نائية.وبالرغم من وصول هذا الخيار السياسي البدائي إلى طريق مسدود,فلا يزال البعض يراهن عليه,وبالأمس فقط تم تفريق اجتماع بالقوة لإعلان دمشق للتغيير الديمقراطي وكأن كل ماحدث من تطورات ,وتداعيات لا تعني شيئا.ولقد تم إلغاء كافة مكونات المجتمع المدني والإعلام اللذان يشكلان رديفا لأي سلطة في العالم في بسط نفوذها وبالتالي ضمان استمرارها.وهنا وفي هذه الحالة ,إن تفكك هذه الرموز وغيابها,أو تغييبها ,بشكل أو بآخر سيشكل,ولا محالة بداية لتراجع في هيكلية النظام التي ستترك أثرا على شكله العام.
لقد كان "فبركة"موضوع الطائرة الألمانية التي اخترقت الدفاعات الجوية الحصينة للاتحاد السوفييتي السابق,وهبوطها بشكل سينمائي ,وتحد لماكينة الحرب السوفياتية في قلب موسكو والساحة الحمراء من قبل شاب ألماني "هاو",السبب في إزاحة أحد أعمدة الحرس القديم السوفييتي الكبار وهو وزير الدفاع آنذاك ,وإن لم تخني الذاكرة,فهو ديمتري أوستينوف,وشكل إقصاؤه,مع عوامل أخرى ,أولى المسامير التي دقت في نعش روسيا الحمراء.
إن مانراه اليوم لهو تعبير واضح عن نظام مأزوم وجد نفسه أمام استحقاقات شتى في حالة من الإفلاس السياسي التام ,بعد خسارة كافة الأوراق والأرصدة التي كان يتاجر بها محليا ,وإقليميا ,ودوليا.حيث وصل الخيار الاشتراكي الداخلي إلى حالة من رأسمالية محدثة وغريبة في التاريخ أدت لإفقار غالبية الشعب والاتجاه نحو خيار السوق الذي يعني بشكله الآخر عملية "تبييض","وتحليل"(من الحلال) سياسية ومالية لما تم تجميعه من ثروات,وإنكار أي شكل من أشكال الحراك السياسي واعتبارها تابوها وحكرا على أهل النظام ,فهم يهبوه لمن شاؤوا من العباد,وتم تحويل أس المشكلة لعدم وجود بنوك خاصة ,وجامعات خاصة ,وتلفون جوال,التي ستتكفل بحل كل المشاكل العالقة التي تعاني منها الناس .وأما إقليميا فقد أدت التوافقات الدولية والتطورات ,حتى الآن, بشأن العراق وفلسطين والخروج من لبنان لنزع آخر الأوراق المهمة من يد النظام,ناهيك عن الانتظار الممل لما سيتمخض عنه زلزال لبنان.وأما دوليا فانهيار المنظومة الشرقية التي كانت,حائط المبكى ,والمتكئ للمناحة الثورية التي عاش على بركاتها الرفاق ردحا طويلا من الزمان, وكانت عاملا للاسترزاق في السوق السياسي,و الفيتامين المنشط لأهل النظام ,وتنشر عليه المعلقات النضالية. وهكذا,وبكشف حساب صغير الآن يتبين أن الرصيد السياسي صفر"مكعب" في هذه الأيام ولم يبق في الميدان,في الحقيقة, إلا "حديدان" تلك الماكينة الإعلامية المهترئة ,وشركاه,والتي"تنتع" وتشخر شخيرا,وتصفر صفيرا,وتصدر الأصوات المزعجة,وتنفض, وتنفث الدخان الأسود القاتل من كل ثقوبها الفاقعة.والمفجع,أنه برغم كل ما صار,مازال الإصرار على ترديد نفس الموشحات ,والمضي معصوبي الأعين في نفس المنزلقات.وأما التفكير بالعودة لسابق العهد ,والوراء,فهو ضرب من الجنون ,عدا على أنه شيء من المحال.
ويشكل هاجس البقاء للنظام كابوسا مؤرقا,ومحورا لتحركه, يدفعه للنظر بريبة شديدة لكل الدعوات التي تستهدف تقديم تنازلات تغير من سلوكه العام, والخاص,داخليا وخارجيا وتاريخه الذي بني على سلوك بعينه لم يستطع الخروج من شرنقته,وهو اللعب بمختلف الأوراق المتاحة أمامه ,وتنويم وتأجيل القضايا الأخرى بحجة تلك الأوراق. لأن ذلك يعني ببساطة قطع كل شرايين الإمداد عنه.وأما الكلام الآن عن أية صفقة محتملة , فهي لن تكون في صالحه على الإطلاق,وإن كانت ستؤجل في عملية الانهيار.وتعتمد هذه الصفقة,إن صح الكلام,على قصقصة أجنحته,وسلبه كل الأوراق ,ونتف ريشه, ريشة ريشة, في نهاية المطاف,وتركه عاريا في الخلاء ,لا يدري ماذا سيفعل ,وبماذا سيشتغل ,ويتاجر بعد أن لم يبق لديه أية بضاعة في الدكان,وذلك تمهيدا للانقضاض عليه وإخراجه نهائيا,بعد ذلك, بالضربة القاضية بعد استنزافه تماما. وهذا ما يدركه حراس النظام الجدد والقدماء, على حد سواء, والنظام قد يلجأ إلى هذا الخيار مكرها أخاك لا بطل ,والتعويل على أي مجهول آت.فالصفقة إذن, ليست من صالح النظام.وشخصيا, أميل لتصدق كل نفي رسمي عنها,فلا يخفى على إستراتيجيي النظام ,ومهما بلغ بهم الحال,أيا من هذه النقاط.والنظام أصبح أكثر من أي وقت مضى,يبحث عن بضاعة,وأي رأسمال يتجول به في السوق الكاسد,وهذه الصفقة لن تعطيه أي دفعة على الحساب سوى التنازل والاستسلام.وفي كلتا الحالتين الرفض والقبول فهو الخاسر تماما.هذا وأظهر عملية تفكيك الحرس القديم بروز نوعين من الحرس القديم ,وعدم تناغم في بنيته التكوينية,فهناك حرس قديم سهل ,طيّع منقاد,لا يستأهل خروجه تلك المماحكة, وكان خروجه صامتا هادئا.ونوع آخر شرس,صعب ,وعصي ,قد يقتضي أن يكون خروجه مدويا ,ولا فتا. ولقد أزاح مؤتمر البعث الأخير ,رغبة ذاتية منه,أو فرضا ماعليه,بعضا من رموز الحرس القديم الذين صبغوا تاريخ النظام في الفترة الماضية.ويأتي هذا "الخروج الكبير" للجنرال كنعان, وتتابع الخروج التسلسلي ,وربما الفوضوي و غير المدروس,لرموز النظام ,وأيا تكون التأويلات والفرضيات,ضمن إطار تفكيك الحرس القديم هذا,الذي يعني ,بالمآل, ,ولا محالة, في نهاية المطاف تفكيكا للنظام نفسه.
وبكل الأحوال يتموضع النظام السوري الآن في قلب عاصفة سياسية هوجاء,إن لم تزله نهائيا عن وجه الأرض البَِسْطاء, فلن تتركه بحال كما كان ,بصحة "بدت" جيدة , في سالف الأيام ,وستترك آثاره الماحقة تشوهات واضحة على وجهه المترهل أصلا.تماما كما استفاقت نيو أورليانز بعد تلك الزيارة المزعجة لكاترينا في ليلة ,غير مقمرة, ليلاء.