الكفر هوجنوح الفكر ,وشكّه,وخروجه عما هو مألوف,وإعراضه عما هو قائم من عقائد وأفكار ,وعما يملى عليه .وهو أيضا خروج فئة من الناس على ماتم التعود عليه, ,وجهرها بغير ما ألفه العقل الجمعي السائد من مبادئ ومعتقدات.ولذلك كل من مارس هذا السلوك ,ويخرج عن النمطية المتعارف عليها,والتي لايمكن أن تكون موضع الشك والجدل والتأويل والكلام فهو كافر. وتاريخ الكفر والتكفير ضارب الجذور في هذه المجتمات ,ومزقه وحوله إلى شراذم ,وفتات هزيلة وضعيفة تصارع البقاء ,ولا تقوى على مقاومة أي شيء ,ويدّعي كل منها العصمة والحقيقة والكمال.كما أن ثقافة الكفر حافلة في هذا الجزء من العالم بالكثير من القصص المؤلمة والروايات,وسادت قرونا طويلة من الزمان يتجاذبها المد , والنكوص والإرتداد لهذا الفيلق أو ذاك.وبناء عليه,وبما كسبته من تراث, اكتنزت كما هائلا من الحقد ,ورغبة جامحة في الثأر والانتقام.وحين يريد البعض أن يلغي الآخر سياسيا ,فما عليه إلا أن يكفره دينيا ,لدرجة تماهى بها الديني والسياسي,في بعض الحالات, لدرجة التطابق والاتحاد.ومن كان مرضيا عنه دينيا فسلوكه ,ولا شك,مقبولا سياسيا.وهذا ما يبرر تمسح بعض الأنظمة بوشاح الدين,وترديد بلاغات غيبية,لضمان استمراريتها,ولتمرير صفقات ورسائل سياسية ستقبلها ,لا بل ,ستبررها وستبرؤها,وبالتأكيد ,هيئات الإيمان ,و"أكثرياتها" من العباد.
ومن محوريات هذه الثقافة ,وبدهياتها أن الخوارج والمرتدين خرجوا عن الدين القويم ,ولذا فوجب إعادتهم إليه,ودون نقاش ,وبالسيف ,إن اقتضت الأحوال.وكان ما كان من قصص وأخبار لا تخفى على مطلع متوسط المعرفة.والكفر ليس دينيا فقط ,ولكنه خروج أيضا عن الطور السائد أحيانا في السياسة والاقتصاد والاجتماع.ومن هنا كان التكفير السياسي لبعض الأنظمة والأحزاب والجماعات,وعدم الاعتراف بها,نابعا من كونها أصلا كافرة دينيا, وفي الحقيقة بنيت سياسات ,ومشاريع,ومعارضات على هذه الجزئية "الدينوسياسية".وإذا كان هناك من كفارة لأهل الدين "الأقحاح" تميزهم دوما عن العامة والدهماء وخوارج الزمان ,ومهما أتوا من فواحش وموبقات ومنكرات سياسية ,فهي مقبولة ,وتمسح ,وتغفر لهم كل الذنوب والآثام,ولكن لا كفارة أبدا لـ"ضلالي" الدين إذا ارتكبوا أية مخالفات ,أو حتى جنحا سياسية في يوم من الأيام,وهم في ضلال مبين ليوم الدين. فكفار الدين هم مارقون في السياسة على الدوام.وأصبحت الهوية السياسية نسخة مصدقة أوتوماتيكيا و,طبق الأصل عن الهوية الدينية وبنفس البيانات,والأرقام,والمواصفات.
وصار من الطبيعي أن يكون هناك "تلازم ,ووحدة للمسار" بين التكفير الديني والتكفير السياسي,فمن كان كافرا دينيا ,فهو ,وبشكل أوتوماتيكي كافر سياسيا,ولن يعتد به,ولا تقبل شهادته,ولا ولايته,ولا شفاعته ,أو حتى طاعته.ومن هنا تحركت جحافل المؤمنين الجدد لفتح "مكة",وتحطيم الأصنام ,وبمعية فلول باقية من الأنصار ,لتخليصها من كفار السياسة الذين هم ,في نفس الوقت, من خوارج الأديان ,وكفارها,لينتصر مؤمنو السياسة, ويعلنوا,وعلى الملأ, إتمام الدين السياسي الحلال ,ويوزعوا نعمته على العباد. ومن هنا صار من الواجب على مؤمني الدين أن يحتكروا الإيمان والفعل السياسي أيضا ,ويتداولوه بعيدا عن كفار الأديان ,وأبناء الملل والنحل الأخرى, الذين هم ,كالنساء,لايجب أن يولوا على العباد ,ولا تقبل إمامتهم في الصلوات بأية حال.
وعندما أحرق نيرون روما ,صار عندها كل روماني متهم بإضرام النار ,والويل كل الويل لمن يضبط متلبسا بـ"الكبريت", ذات نهار.كما حرّم على أي روماني,أيضا, أن يفكر بالسياسة ,و"يلعب بالنار".ولذلك فكل ما يأتيه الكافر دينيا من أفعال ,هو ,أيضا, باطل ,وملعون ,ورجس من عمل الشيطان على صعيد السياسات,ولا يجوز,تحليله (من الحلال),أوالتعامل معه بحال.وانطلقت, من هنا , حملة شعواء من التحشيد ,والتجييش,والحقن الهائل ضد خوارج السياسة ,لأنهم ببساطة من خوارج الأديان.ولن تقبل توبتهم ,ولو ركعوا ,وسجدوا الساعات الطوال على أبواب المزار الشريف لأهل الإيمان ,ولو أدّوا كل الفروض,والنوافل ,والطاعات,ومارسوا كل أنواع اللطم والضرب على الأبدان,ولن يغفر لهم ,ماتقدم من ذنبهم ,وما تأخر, ولا حتى ما قد يأتوه من صالح الأعمال, في القادمات من الأيام,هذا إذا ترك لهم مؤمنو السياسة من أيام ليعيشوها.
وبين كفار الأديان,وكفار السياسة تشابه كبير ووحدة للحال.فمن خرج عن الدين القويم,يسهل عليه الخروج عن تقاليد السياسات ,وينحرف بها,وهو أكيد فاعل,لأنه يستسهل الزندقة والإرتداد , فالمرتد دينيا هو فاسق وهرطيق سياسيا.ومن يسهل تكفيره دينيا ,يمكن ببساطة اتهامه سياسيا ,ولا مكان لكفار الدين للبقاء جنبا إلى حنب مع الأشراف.ولأنه عندما يكون المرء مارقا دينيا ,فهو متهم سياسيا أيضا, ومن هنا فلا يمكن أن يكون معارضا إطلاقا.
إذن, لقد صار في حكم الأمر المقضي, والمبرم ,والذي لا يحتاج لفتوى على الإطلاق ,أن خوارج الاديان ,هم خوارج في السياسة بدون جدال,ولا يجوز التعامل معهم بحال ,وهذه, والله ,طامة كبرى,وواحدة أخرى, من عجائب تجار السياسات في زمن القبائل الماركسية,والأصولية, والقومية ,والمستقلة, وأفخاذ العشائر الثورية الكسحاء,ومشاريعها السياسية المريبة على حد سواء.