محاكمة آخر وأول الزمان

حمزة الجواهري

hjawahri@hotmail.com

 

في مشهد اختلطت به مشاعر الفرح والشماتة بالرغم من أن الجميع كان يردد "اللهم لا شماتة" توقدت من جديد مشاعر الغضب عند رؤية الجلاد وهو يستهتر بالمحكمة، ويشير بإصبعه القذر للقاضي، ويسأل من أنتم؟ كأنه بهذه الإشارة قد أعاد للأذهان تاريخا طويلا من الجبروت والظلم والتهميش لمعظم مكونات الشعب والتنكيل بها واستباحة مقدراتها  من خلال حكم ما عرفت البشرية مثيلا له بالهمجية والدموية وكل ما هو غريب عن الإنسانية.

قد يكون الاحتلال غير شرعي وفق المعايير بعض الأخلاقية، لكن احتلال العراق قد جاء بناءا على قرار دولي شرعي، وانتهى أيضا بقرار دولي، لكن المهم هو ما ترتب عليه، فهو الشرعية بعينها، لأن العراقيين بدمائهم قد اختاروا نظامهم بكل حرية رغم العقبات التي وضعها بطريقهم دول الجيران وفلول النظام المقبور، وهكذا كل ما ترتب عليه كان شرعيا بكل ما للكلمة من معنى، فالعراق قد أقام حكما مؤقتا من العراقيين وفق قانون تمت صياغته بأيد عراقية ليقيم بعد ذلك الشرعية الحقيقية يوم توجه أكثر من ثمانية ملايين نحو صناديق الانتخابات ويختاروا ممثليهم، متحدين بذلك جميع أنواع الإرهاب البعثي والسلفي الذي صدره ودعمه جيران السوء. لكن الذي كان يعترض على شرعية المحكمة هو صدام بشحمه ولحمه النجس، وليس شخصا آخر، بالرغم من أننا لم نكن نتوقع منه غير هذا الادعاء والصفاقة وقلة الأدب، فهو صدام بصفاقته العجيبة!! لأنه بلا شك يعرف كل ما فعل، لذا لم يكن يتوقع النجاة خصوصا بعد أن تأكد من تصميم الناس على رؤيته وهو يهتز معلقا والحبل في رقبته، وهذا أقل ما يتمناه الشعب العراقي له، لذا لم يكن متوقعا من صدام التصرف مع الشرعية بأسلوب مؤدب، فإن أقل ما يمكن توقعه من دكتاتور مهزوم هو الطعن بشرعية المحكمة والإساءة للقضاة، لكنه وكأي جبان، سرعان ما تخاذل وأذعن للمحكمة وأقر بأنه يوكل المحامي خليل الدليمي، وهذا بحد ذاته إقرار ضمني بإجراءات المحكمة وشرعيتها.

قانون المحكمة كتب بأيدي عراقية وأقرته الجمعية الوطنية العراقية المنتخبة وهي سلطة تشريعية كاملة الشرعية، فالقانون الذي أصدره بريمر والذي تأسست بموجبه المحكمة قد حل محله هذا القانون العراقي البحت، والمحكمة عراقية، جميع القضاة عراقيين، أتموا تعليمهم في الجامعات العراقية، وحصلوا على شهادة القضاء من العراق. ولكن ليس غريبا على صدام أن يعتبر النظام الجديد غير شرعي، والمحكمة غير شرعية، لأن هذا المخلوق يفهم المعايير بغير ما نفهمها نحن، فهو لم يرى بالشعب إلا قطيعا وعليه أن يقوده على النحو الذي يراه صحيحا، وهو لم يدرك لحد الآن أن نظام البعث لم يكن شرعيا، وإن كل ما بني على ذلك خلال الخمسة وثلاثين عام، كان غير شرعي أيضا، ومن لا يعرف أن نظام البعث وصل للسلطة عن طريق انقلاب عسكري؟ ومن قبلهم كان حكم الأخوين أيضا غير شرعي لأنه جاء على أعقاب انقلاب عسكري أيضا، وقبله كان حكم البعث الدموي الأول لم يكن شرعيا هو الآخر، بل نظاما مجرما بكل ما للكلمة من معنى، فقد أغرق العراق بالدم وملئ أرضه سجونا ومقابر، ولم يكن حكم عبد الكريم قاسم يختلف من حيث الجوهر عن باقي الأنظمة التي تقلدت السلطة بانقلاب عسكري، بالرغم من أنه كان نظاما منصفا مع الطبقات الأوسع في العراق، وكذا، على هذا الأساس، لم يكن الحكم الملكي في العراق شرعيا لأنه جاء كنتيجة للاحتلال البريطاني عام 1914 ، وإن الملك لم يكن عراقيا وقد تم تنصيبه من قبل الإنجليز، وهكذا جميع الحكومات التي سبقت وجميع الحكومات العربية حاليا غير شرعية لأنها جاءت على أعقاب احتلال أو إنها جاءت بانقلاب عسكري أو اغتصابا للسلطة من الحكام الشرعيين.

الغباء العربي يطلب من القضاء العراقي أن يتنازل عن حق العراقيين وعن كرامته والقبول بالإهانة التي يوجهها له العرب على أنه فاقد الشرعية في حين هم من فقد الشرعية في كل شيء، حتى زواجهم سفاح، لكننا سوف نعود لهذا الموضوع في مقال آخر.

فأي شرعية يتحدث عنها صدام؟ ربما سمع ذلك من المحامين العرب الذين أفرغوا الكلمات من معانيها، كرؤسائهم الذين قلبوا معاني الأشياء رأسا على عقب لكي يتمكنوا من البقاء في السلطة. ولكن للتاريخ والحق إن صدام هو من علم الجميع معنى النفاق السياسي والدجل، فالشرعية بنظره أن يكون هو القانون، كما كان يقول أو يفعل! والبناء في نظره خراب العراق! وتشريد أبناء العراق في المنافي هو بناء للإنسان! وملئ السجون بهم هو الحرية لأبناء الشعب! وهزائمه المذلة والمتكررة انتصارات للعراق! ونزقه ورعونته حكمة! والنزاهة بنظره نهب ثروات البلد هو وأقاربه وأزلامه وتوزيع الباقي منه هبات لمن يتستر على جرائمه من العربان وغيرهم! والرفاهية هي أن يعيش الموهوب العراقي براتب قدره دولار واحد شهريا، وأي معنى لم يقلبه صدام؟ وكأني به قد وضع القاموس العربي أمامه ليقلب معانيه بالكامل، كلمة بعد أخرى. فلم تشذ مفردة "شرعية" عن باقي المفردات؟!

كان القاضي الذي مثل أمامه صدام كورديا، ليحاكمه على جريمة كان ضحاياها جميعا من العراقيين العرب، وهذا المشهد فيه رمزية ورومانسية رائعة، لكن مع الأسف لم يكن القاضي صارما مع المجرمين بشكل كافي، بالرغم من أن البعض قد أعتبر سلوك القاضي بأنه سعة صدر وأدب جم، وهو فعلا كذلك، ولكن قلوب العراقيين حرى ومكلومة، وكان عليه أن يثلج هذه القلوب بشيء من الشدة والصرامة معه حين رفع إصبعه النجس بوجه القاضي ليتهم المحكمة والنظام بأنهم غير شرعيين، عسى أن يكون صارما في الجلسات القادمة ويقطع تلك الإصبع حين يرفعها مرة أخرى، لأن صدام، وكأي جبان، لا يفهم هذا الأمر على أنه أدب جم أو سعة صدر، أبدا فهو يعتبره ضعفا، وسوف لن يتورع عن توجيه الإهانة للمحكمة في الجلسات القادمة.

كان المشهد خارج المحكمة مهما أيضا، فقد كشف عن النفاق السياسي للواجهات التي كانت تدعم النظام، فقد شاهدنا في تكريت، مسقط رأس الدكتاتور، مشهدا مهما للغاية، ذكرني بكل تلك السجالات والمناظرات عن الظلم الذي وقع على الشعب العراقي من نظام البعث، وتلك الطروحات التي كانوا يتهربون بها من الحقيقة المرة وهي أنهم قد استمرئوا طائفية وعنصرية النظام وبنوا إمبراطوريات مالية ضخمة وتمتعوا بنفوذ السلطة وألقها، ويوم سقط النظام وأصبح باستطاعة المظلومين الحديث عن مظالمهم وحجم الدمار الذي أصابهم، تصدت لهم أبواق البعث وراحوا يزايدون على عرب الجنوب والكورد بأن الظلم الذي أصابهم لم يختلف كثيرا عن باقي مكونات الشعب، والعبارة التي كثيرا ما ترددت خلال الفترة السابقة منذ سقوط النظام وحتى الآن هي "أن النظام ظالما في كل شيء، لكنه كان عادلا في توزيع الظلم على أبناء الشعب العراقي" لكن مظاهرات تكريت التي خرجت وهي ترفع صور الدكتاتور وتردد الهتاف الدموي "بالروح بالدم نفديك يا صدام"، هذه المظاهرات قد كشفت عن الزيف وحجم الكذب والنفاق في تلك العبارة. وكذا كشفت زيف الادعاء الفارغ والنفاق السياسي لنفس الفئة وهم يدافعون عما سمي بالمقاومة، ودعاوى مقارعتها للاحتلال، في الوقت الذي مفتأت صواريخها تتساقط على مدارس الأطفال! لكن بقى هناك جانب مهم وصادق وجميل من ذلك النفاق السياسي، ألا وهو الاعتراف القوي والصريح من قبل من كان يستأثر بالنفوذ والسلطان بأن نظام البعث كان ظالما فعلا، ولم يستطع أحد إنكار ذلك، وهذا هو الموضوع الأساسي للمحاكمة. فالمحكمة إذا مهمة لفتح الملفات التي مازالت مغلقة ولم نعرف عما تحتويه إلا القليل.

كان العراقيين والعالم أجمع ينتظرون على أحر من الجمر، لكن خيبة الأمل الأولى هي إننا لم نكن نسمع وقائع الجلسة بشكل واضح، فهل فرغ العراق من مهندسي الصوت؟ أم إنهم يخشون الظهور أيضا كما اختبأ القضاة ليتركوا القاضي الكوردي رزكار محمد أمين والقاضي رائد جوحي كبش فداء لهم بحجة الخشية من الإرهاب؟ فكل ما نتمناه هو أن نراهم في الجلسات القامة.

سلبيات الجلسة الأولى لم تكن قليلة، لذا أرى أن تتم مراجعة الأداء وتشخيص السلبيات لكي تكون فعلا محاكمة العصر، لأن جرائم هذا الوحش ليست قليلة ولا ضحاياه قليلون، ولا القضاء العراقي حديث العهد بهذه المهمة المقدسة.

ولنا حديث آخر عن هذه المحاكمة

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com